الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الوحي والتاريخ (2)

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 5 / 5
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


- المعجزة

القرآن بحد ذاته ليس هو سبب جمود وتخلف العقل العربي، ولا هي الأحاديث النبوية ولا كل التراث الفقهي سواء السلفي أو غيره المستولد منهما. في الحقيقة، القرآن الكريم لم يكن الكتاب الأول من نوعه الذي يطالعه العقل العربي، وبالتأكيد قد سبقته وعاصرته عبر المنطقة وحول العالم كتب أخرى كثيرة قد تجاوزته في معظم ما يُعاب الآن على القرآن وما يُتباهى به، وأحياناً حتى في مستوى القداسة أيضاً. من جهة أخرى، ما تفرد به كتاب القرآن عن كتب أخرى كثيرة، سواء كتب فلاسفة اليونان القدماء أو التوراة أو الإنجيل، يكمن في صفة وحيدة لكن رغم ذلك جوهرية وحاسمة: الإعجاز. عكس كتب كثيرة سابقة ومعاصرة له تحوي من الضرر والفائدة، الصواب والخطأ، الفصاحة والفجاجة، والقسوة والرحمة أكثر من القرآن لم يكن كتاب القرآن الكريم كتاباً مقدساً عادياً في نظر المسلمين الأوائل؛ بل كان- بحد ذاته- كتاباً ’معجزة‘. هذه الصفة الأخيرة تحديداً كان لها تأثيراً جوهرياً وحاسماً على منحنى تطور العقل العربي، الذي لا يزال ممتد حتى يومنا هذا.

إذا كان ثمة تعريف معقول للمعجزة، هي ’الشذوذ‘ البين والواضح بذاته عن ’استقامة‘ الطبيعة وانتظامها في حركة نمطية، متكررة، مألوفة ومتوقعة بدرجة معقولة بحكم هذه النمطية والتكرارية والألفة. عندما تشرق الشمس كل يوم من ذات الجهة لتغرب في ذات الجهة المقابلة، هذه تكون استقامة طبيعية منتظمة ومألوفة. لكن إذا شذت حركة الشمس عن هذه القاعدة المستقيمة ولو مرة واحدة، تصبح هذه ’معجزة‘. المثير للاهتمام، والدهشة أيضاً، في دراسة العقل العربي أن تستوقفه الحالة الشاذة التي قد لا تحدث سوى مرة وحيدة إذا حدثت أصلاً، بينما لا تثير انتباهه القاعدة المستقيمة المتكررة أمام عينيه آلاف المرات وأمد الدهر! هكذا، من بين ما لا يحصى من الأفاعي لم يسترعي العقل العربي أكثر من ثعبان موسى المتحول من عصا؛ ومن بين ملايين الأميال البحرية من البحار والمحيطات لم يسترعي انتباهه أكثر من شق أحدثه موسى بعصاه عبر خليج العقبة المتناه الصغر؛ ومن بين رحلات طافت الكرة الأرضية ذهاباً وإياباً في ذلك الحين لم يسترعي انتباهه أكثر من رحلة الإسراء بالنبي محمد ليلاً إلى المسجد الأقصى التي ربما استغرقت أقل من ساعة زمن!

النقطة هنا واضحة. العقل العربي منذ بداياته الأولى قد أولى شواذ الأمور والأشياء انتباهاً وأهمية وجهداً فكرياً أكثر مما أولى القواعد الأصلية ذاتها. هذا التقديم في الأولوية للظواهر الاستثنائية والشاذة على الظواهر الطبيعية والمستقيمة كان من نتيجته أن سلك العقل العربي الأول طريقاً سريعاً إلى ’الإيمان بالغيب‘، الذي هو نفسه عالم من الظواهر الاستثنائية والشاذة غير المألوفة وغير المفهومة للعقل.

السؤال هنا: لماذا العقل العربي، الذي أقصد به تحديداً عقول النخب العربية المفكرة، قد أضفى على الشذوذ أهمية و ’قداسة‘ ضن بهما على الاستقامة الطبيعية، التي بالكاد يسترعي وجودها انتباهه وجهده؟ ماذا يجعل ثعبان موسى الشاذ أهم وأقدس من كل الثعابين الطبيعية؟ لماذا يكون مجرد شق في خليج صغير أهم من كل بحار ومحيطات العالم؟! لماذا رحلة بالذات لم تستغرق ساعة زمن أهم وأقدس من رحلات تجارية وتعليمية واستكشافية واستعمارية واستيطانية ممتدة لملايين الأميال والسنين؟! مثل هذه الأسئلة لم يسألها العقل العربي الأول لنفسه، وربما حتى الآن.

هنا يجب الإشارة أنه حتى قبل تلك البداية الفكرية العربية بمئات السنين كان المفكرون والفلاسفة اليونان القدماء قد حققوا إنجازات فكرية مهمة؛ ومما لا شك فيه أن جهودهم الفكرية تلك كانت متاحة بسهولة للعرب كما لمعظم القوميات والشعوب الأخرى حول العالم؛ ولابد أن هؤلاء المفكرون اليونان مثل نظرائهم العرب بعد مئات السنين، كانوا يفكرون- بأولوية ومنهجية ونتائج مختلفة- في قضايا وظواهر طبيعية واجتماعية مماثلة لتلك التي شغلت فكر العرب لاحقاً. لكن بينما أعطى العرب الأهمية والأولوية للظواهر الاستثنائية والشاذة، قصر اليونانيون القدماء جل تركيزهم على الظواهر المتكررة والطبيعية السوية المعتادة ليصنعوا منها، عكس العرب، ’القاعدة‘ ومن الأولى مجرد ’استثناء‘. هكذا انطلقت الجهود الفكرية والفلسفية اليونانية فوق ’قواعد‘ عملية متينة وقابلة للإثبات والتحقق من صحتها وجدواها في أي وكل وقت ضمن حدود الطبيعة المعلومة ذاتها، لترتقي بنفس الاستقامة والرصانة والعقلانية من ’الطبيعة‘ إلى ’ما وراء الطبيعة‘، أو إلى التفكير الميتافيزيقي التجريدي.

في النهاية، اهتمام الفكر العربي باستثناءات وشواذ الظواهر الطبيعية والاجتماعية أكثر من قواعدها النمطية والمألوفة قد أوصله إلى الخرافة والشعوذة، وليس إلى العلم المبني فوق قواعد قانونية مستقرة وقابلة للتكرار والاثبات والتنبؤ بها بدرجة معقولة؛ والأسوأ من ذلك، عندما أضفى العقل العربي قداسة خاصة على ’المعجزات‘-خروقات وشواذ القوانين والظواهر- غيب نفسه بنفسه في أسرار ’عالم الغيب‘ والقضاء والقدر الإعجازي، الذي يتناقض بالطبع مع ’عالم ما وراء الطبيعة‘، أو الميتافيزيقا اليونانية، الذي هو في الأصل امتداد لنفس القوانين الطبيعية النمطية وبالتالي لم يخرج عن نطاق قدرة عقل الإنسان على محاولة فهمه وإثباته وحتى التحكم فيه لخدمة مصالحه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الجن
nasha ( 2014 / 5 / 5 - 12:41 )

تحياتي استاذ عبدالمجيد
من ركائزالقرآن وشخصياته هي الجن والشياطين والسحر والقضاء والقدر والحظ { يتميز بها القرآن بجدارة} ، التركيز عليها بلغة السجع الغير واضحة المعنى مع التقديس وفرضها بالقوة والترهيب من الصغر تؤدي الى تشويه الادراك عند البشر.
بالرغم من ان السحر والجن هي خيالية وغير حقيقية ، معظم البشر ومن جميع المعتقدات يتأثر بها بسهولة ، ما معنى قرائة الطالع او الكف او تحضير الارواح ؟ عمليا وعلميا هي هراء لاي انسان عاقل
ومع ذلك تلاحظ نسبة غير قليلة من (المثقفين) يؤمنون او يتأثرون بها.
فما بالك بالذي تراثه الديني يقدس ويعترف بهذا ، والدين هو الاساس الفكري للفرد و للمجتمع.
انا اعتقد ان هذا العامل مهم جداً في سبب التخلف المعرفي للمجتمعات .
احترامي استاذ /مواضيعك مثيرة للاهتمام وعلمية
شكرا


2 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 5 - 22:35 )
1- القرآن الكريم معجزه بذاتها , و معجزاته لا تنقطع , فيكفيك قول (ألفرِد كرونر) , راجع :
http://www.hurras.org/vb/showthread.php?t=28265
2- العقل العربي (الإسلامي) أنتج للبشريه الكثير , راجع :
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=1487659634780755&id=100006101974822&ref=notif¬if_t=like

أعتقد أنه تم نسف مقالك .


3 - ما هو الدين ؟
رمضان عيسى ( 2014 / 5 / 6 - 23:53 )
هو حالة فضولية ، أو اشباع فضولي لرغبة لدى الانسان لمعرفة ماوراء الظواهر الكونية المختلفة ، ولما كان الانسان يمر بحالة من القصور في فهم ما يراه ، فلم يستطع عقله أن يصل الى أكثر من نسب هذه الظواهر الى قوى خارقة غيبية بمسميات متعددة . وقد اختلف الناس في مسمياتهم لهذه القوى حسب تعدد التجمعات البشرية المنتشرة على سطح الأرض .
لهذا نجد مسميات الآلهه عند ساكني الشواطئ تختلف عن مسميات ساكني الصحراء ، وساكني الصحراء تختلتف مسمياتهم وتصوراتهم للآلهة عن ساكني الغابات ، فاختلاف أشكال ومسميات الآلهة مرتبط باختلاف البيئات واختلاف الوسائل التي كانت تمارسها التجمعات البشرية لتوفير غذائها .
ملاحظة : ان طريق المعرفة الذي مرت به البشرية هو طريق النضال من أجل التخلص من الخرافة وسيطرتها على عقول الناس .

اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة