الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 1 الفاشية والجسد

سعد محمد رحيم

2014 / 5 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ما يهمّ السلطة/ أية سلطة أن تستحوذ عليه، في النهاية، وأن تُخضعه وتستعمله وتستغله هو الجسد؛ الجسد الإنساني، الجسد القابل لإعادة إنتاج ذاته/ طاقته في العمل والخدمة، في القتال، في الحراسة، في حقول الفنون والعلوم، وكذلك في أن يكون موضوع فرجة واستعراض، أو عقوبة، أو متعة، أو اغتصاب.. الخ.. نتكلم، ها هنا، عن السلطة المجسّدة في أشخاص، وكذلك الممأسسة/ المجرّدة، وأحياناً الصمّاء/ غير المدركة لقوتها وفعلها السلطوي.
تحضر السلطة/ أية سلطة سياسية أو اجتماعية أو دينية/ حيثما وجد الجسد الحي الفاعل، فالسلطة تشتغل على الجسد الإنساني في العمل المنتج كما في الحرب، كما في الاحتفال والاستعراض العسكري والطقس الديني، وما تخشاه السلطة هو طاقة الجسد القابلة للإفراغ في غير ما تريد سواء في منطقة الفنون الإبداعية والفكر الحر، أو في ساحات التمرد والاحتجاج والثورات. وفي أضعف الإيمان؛ في الصمت المريب.
كان ميشيل فوكو واحداً من أكثر مفكري القرن العشرين اهتماماً باستقصاء العلاقة بين السلطة والجسد، وما تفرز من معرفة وما تقترح من ميكانزمات سيطرة.. وتلك تشكيلة أطلق عليها اصطلاح ( تكنولوجيا الجسد السياسية ).. ومنذ البدء يقر فوكو بصعوبة الوقوع على تحديدات مطمئنة ( بخصوص الهوية ) طالما أن "لا شيء في الإنسان، ولا حتى جسده، ثابت بما يكفي لفهم بقية الناس، ولمعرفة أنفسنا فيهم". وفي إطار سبر التكنولوجيات الخاصة بالتأديب وجد أن غاية السلطة التأديبية هي خلق أجساد طيّعة، ومنتجة، وموضوعة تحت المراقبة في الوقت نفسه. وهذا وضع ارتبط بحسب اعتقاده بصعود الرأسمالية. ويلاحظ مؤلفا كتاب ( ميشيل فوكو: مسيرة فلسفية ) أن فوكو أوضح بأن تطور التكنولوجيا السياسية قد سبق السيرورة الاقتصادية، "فلم يكن بالإمكان أبداً تلبية المتطلبات الجديدة للرأسمالية لولا إدخال أفراد مؤدبين ومنضبطين في عملية الإنتاج". وقد تطلّب ذلك تغيّرات في الجغرافيا السياسية، وقولبة الشعوب، وتوزيع السكّان بشكل يسهِّل أمر مراقبتهم.
إن وسائل المراقبة والتأديب ( العقاب ) تفرِّد الأجساد، تصنع أفراداً جاعلة إياهم "كأشياء وكأدوات لعملها بآن معاً"، وبإجراءات تقويم وحجز و"مراقبة تسلسلية مقرونة بعقوبة ضابطة". تنتهي "بإخضاع أولئك المعتبرين كأشياء، وتشييء أولئك الخاضعين".
إن الفردانية نتاج تطور تاريخي حيث يموضع الفرد ويُحلل ويُحدد ليكون الموضوع الذي تطبق عليه السلطة تقنياتها في عملية "تشابك بين السلطة والمعرفة وكنتيجة له.. الفرد هو حصيلة تطورات استراتيجية معقّدة في ميدان السلطة وتطورات عدّة في ميدان العلوم الإنسانية". ويرى فوكو أن العلوم الإنسانية/ الاجتماعية تكوّنت داخل مؤسسات سلطوية ( المستشفيات، السجون، الإدارات ) ومن غير أن تنفصل عن تكنولوجيات السلطة/ المعرفة المستخدمة والمستثمرة لتلك المؤسسات.
لم يكن الإنسان مميزاً عن جسده.. كان الجسد هو الإنسان وهو الكون، غير أنه مع علم التشريح في حدود القرن السادس عشر انطلقت فكرة العزل فصار الإنسان هو من يمتلك جسداً؛ "لقد اصبح الجسد مقروناً بالملكية، ولم يعد مقروناً بالكينونة"، وكان هذا إيذاناً بولادة الفردانية.. يقول دافيد لو بروتون مؤلف كتاب ( إيديولوجيا الجسد والحداثة ): "إن المعرفة التشريحية تعرّي الجسد وتأخذه بحرفية المواد التي تضعها تحت المبضع. لقد انقطع الاتصال بين لحم الإنسان ولحم العالم. فالجسد لم يعد يُحيل إلاّ إلى نفسه. وانفصل الإنسان، أنطولوجياً، عن جسده الخاص الذي يبدو أنه يقود، وهو مشدود، بالطبع، للإنسان، مغامرته الخاصة".
تعد فكرة الذات أحد أقانيم فلسفة عصر الأنوار الأوروبي إلى جانب فكرتي العقل والحرية. وشذرة في عقد الحداثة إذا ما استخدمنا استعارة آلان تورين؛ أن يشعر الإنسان إنه فرد يحوز عقلاً ويسعى إلى حريته قبل أن يكون عضواً في جماعة. هنا "يصبح الجسد الحد الدقيق الذي يعيّن الفرق بين إنسان وآخر" بتعبير بروتون.
كان اللاهوت الديني، والتقاليد الاجتماعية، والمصالح المشتركة يُدخل الأفراد في ضمن جماعات متماسكة، على الرغم من التراتبيات الطبقية وتباينات المكانة والسلطة، ومن غير أن يُميّز فرد عن آخر إلا في حدود ضيقة. غير أن عمليات الانفصام بدأت حالما أخذ البناء الفردي "يتقدم ببطء، في داخل عالم ممارسات عصر النهضة وعقلياته"، ليكمل تفرّده في عصر الأنوار مع اقتران ذلك بنزع القداسة عن الطبيعة. "ففي عالم الانقطاع هذا"، يقول بروتون: "أصبح الجسد حدّاً بين إنسان وآخر".. هذه الفردانية لم تحرر الإنسان بل ألقته في دوامة اغترابات لم يألفها سابقاً. الاغتراب الذي سيخلخل مفهوم الذات والهوية عند الإنسان فيضطرب حس الانتماء لديه شاعراً بأنه مجتث، مبعَد، معزول، مهدِّد، مراقَب، وخائف.. الاغتراب هو الشعور بأنك لست في مكانك، وحيث تغدو علاقتك بالزمن ملتبسة وضبابية.
وصل الاغتراب أقصى نقطة في سلّم أزمته مع الرأسمالية وفي أبشع تجلياتها المتمثلة بصعود الفاشيات في أوروبا النصف الأول من القرن العشرين، ومن ثم سريان داء الفاشية في الجسم السياسي لعهود ما بعد الكولونيالية في ما عرف يومها بدول العالم الثالث، بعدما حكمتها أنظمة استبدادية شمولية.. الفاشية التي لم تنجُ من فيروساتها كثر من مؤسسات السلطات الاجتماعية والدينية والسياسية.
تتحدد هوية الجسد بموقعه في الخريطة الاجتماعية المعقدة والمركّبة حيث يحتدم الصراع بين القوى والسلطات المختلفة للاستحواذ على أكبر مساحة ممكنة من فضاء التحكم والسيطرة والنفوذ والثروة.
تمسرح السلطة حيّزها بموقَعة الأجساد فيه، وتمثيلها وتصنيفها وتعيين أدوارها على وفق معايير الولاء ودرجة الفاعلية والخطورة، وذلك في ضمن تراتبية صلبة نسبياً، قابلة للتغيير في ظروف معينة.. تلك المعايير المستعارة أو المرسومة/ الموضوعة من قبلها.. فالجسد واقعة ثقافية، وأيضاً واقعة اجتماعية وسياسية، يُقدّم في سياق منظومة دلالية ينطوي عليه خطاب السلطة.. الجسد الذي يجري تمثيله وتصنيفه من وجهة نظر تلك السلطة بالتوافق مع مصالحها والترتيبات الضامنة لاستمرارها.
الجسد موضع رهان السلطة.. السلطة عبر خطابها/ منتجها الثقافي، أو عبر ممارساتها في الفضاء الاجتماعي، السياسي.. الجسد هو الموضوع الذي تفكر فيه السلطة لتترك عليه أثرها، فهي ترى قوتها وتقيسها بالقدر الذي تحتوي الجسد وتخترقه بعلاماتها ومقولاتها. الجسد/ الموظّف، والجسد/ الغرض، والجسد/ المراقَب والمعاقَب. الجسد المدمج والجسد المهمّش والمنبوذ. الجسد الممتثل والجسد العاق/ العائق والمتمرد.
الإنسان هو جسده، لكنه شيء أكبر وأسمى من جسده أيضاً.. يتجلى الإنسان في الجسد وعبره، وما ورائه.. والفرضية الأولى، ها هنا، هي أن الإنسان يمتلك جسده.. يتساءل نيتشة وكأنه يقر بديهة: "وهل يملك الإنسان شيئاً مؤكداً أكثر من امتلاكه لجسده؟".. الجسد موئل الأنا، موئل سيادة الأنا؛ الأنا الواعية لتفرّدها وتميزها في العالم. وهو سجن الأنا كذلك وأولى إعاقات الحرية.. وجدت القيم والتقاليد والمعتقدات.. الأديان والأحزاب.. الدول والمؤسسات.. من أجل كبح جماح الجسد، لإخراجه من نمطه الوحشي الغريزي والحر وحشره في فضاء اجتماعي وإطار سياسي ناظمين لسلوكه وعلاقاته وموقعه ودوره ووظيفته. في معنى ما ليست الحرية سوى كم التحرر من التهديدات التي تحيق بالجسد.. نقطة الضعف الكبرى للأنا في الجسد، وهذا لسوء الحظ ممّا يعرفه الفاشيون في ضمن أشياء قليلة أخرى يعرفونها..
تراهن السلطة الفاشية على تغريب الجسد عن ذاته ووعيه؛ ترك الجسد بوعي مخدَّر، غير مسموح له التفكير خارج محددات تلك السلطة ومحرّماتها ونواهيها.. تغريب الذات عن هويتها الحقيقية بمصادرة الحرية ومن ثم الوعي، وأخيراً الهوية.. الفاشية تمنح المرء هوية أخرى زائفة، يصبح المرء غير ما هو عليه، غير ذاته التي يُجبر على التنكر لها ولتاريخها. هذا لا يعني أن الجسد كينونة سلبية طيعة دائماً.. فليس بالإمكان خداعه واستدراجه في كل مناسبة وإلا لما كانت هناك صيرورات وثورات وانعطافات كبرى في التاريخ.
الفاشية تصنع أو تحاول صنع الجسد المستعد، تحت الطلب، الملبي للنداء باسم قيم فضفاضة، عائمة، وغالبا لا معنى لها.. تحتكر الفاشية الوطن مكاناً وبشراً ومصيراً، تكون هي الوطن؛ الوطن الذي على الجميع التضحية في سبيله، في الوقت الذي يكون الوطن الحقيقي قد جرى نفيه ومسخه وابتلاعه من قبل الفاشية التي تحل محله وتستعير قداسته.
تتجسد الفاشية في الفرد البطل/ المنتظر والمنقذ، والذي يفرض نفسه من خلال الصور والتماثيل، فهو الجسد المرمّز، الكناية الحيّة والعظمى للسلطة.. الأيقونة الحاضرة أو التي تسعى للحضور في كل منزل وشارع وميدان ومؤسسة.. الأيقونة المعبِرة عن هوية الفاشية وماهيتها. الفرد الأوحد الذي يلغي فردية أي أحد آخر في الحيّز الذي تحتله/ تغتصبه الفاشية.
في جوهر كل سلطة، في عصرنا، شيء من الفاشية. تنبث الفاشية حيث توجد السلطة وتفعل.. والفرق بين سلطة وأخرى، في ضوء هذا المعيار، هو في الدرجة والأسلوب والوسائل والغاية.. ثمة سلطة فاشية خالصة بإيديولوجية فاشية وسياسات وغايات فاشية، وثمة سلطة ضد فاشية بإيديولوجية وغايات ضد فاشية، لكنها قد تعتمد بعض أسلوب الفاشيين ووسائلهم.. ليست هناك سلطة بمنجى من التأثير الضار للروح الفاشية التي هي علامة لمأزق مرحلة تاريخية، ونتاج شاذ/ عرضي لمسيرة الإنسان في التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتصام لطلاب جامعة غنت غربي بلجيكا لمطالبة إدارة الجامعة بقط


.. كسيوس عن مصدرين: الجيش الإسرائيلي يعتزم السيطرة على معبر رفح




.. أهالي غزة ومسلسل النزوح المستمر


.. كاملا هاريس تتجاهل أسئلة الصحفيين حول قبول حماس لاتفاق وقف إ




.. قاض في نيويورك يحذر ترمب بحبسه إذا كرر انتقاداته العلنية للش