الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية الوحي والتاريخ (3)

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

2014 / 5 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


- التوحيد

إذا كان ’الوثن‘ هو التجسيد الحسي للفكرة عن إله معبود يكون الإسلام، كامتداد للأديان الوثنية المنتشرة بجزيرة العرب من قبله، ديناً وثنياً مثلها. هذه الأديان الأولى كانت تتخذ لنفسها ’مجسدات‘ حسية من حجر أو خشب أو معادن أو مأكولات أو خلافه لتقربها (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ-;-) إلى الله، أو بالأدق فكرتها عن الله. في الواقع، حين عاد الإسلام منتصراً من المدينة كان أول ما فعله المسلمون الأوائل هو تحطيم جميع الأوثان (الأصنام أو المجسدات الحسية) القائمة لله بمكة إلا مجسداً وحيداً وأكبرها جميعاً- الكعبة.

في الحقيقة، من اليوم الأول كان الوحي يناصب جميع آلهة العرب العداء إلا إلهاً واحداً وأكبرهم جميعاً- الله. منذ زمن بعيد قبل الإسلام كان الله هو نفسه الإله الأقدم والأكبر المعترف به من معظم القبائل العربية، وكان في الكعبة بمكة تجسيداً حسياً مباشراً لهذا الإله الأعظم. لكن كان لنفس هذه القبائل في الوقت نفسه آلهة فرعية تجسد الخصوصيات التي تتفرد وتتباهى بها كل قبيلة على أخرى، ومن ثم نشأت تعددية إلهية وتعددية مقابلة في المجسدات الحسية الواقفة لها. هذه الممارسة العربية لتعددية الألوهية تحديداً، لا فكرة العرب الجوهرية عن الله أو عن مقبولية تجسيده في شيء محسوس، هي التي كانت نصب عداء وحرب الإسلام من البداية ونجح بالفعل في القضاء عليها نهائياً بعد سنوات قليلة من عودته منتصراً من المدينة. لكن الإسلام قضى على آلهة العرب جميعاً وترك إلهاً واحداً، هو الله؛ وحطم جميع الأوثان الواقفة لتلك الآلهة وترك وثناً واحداً، هو الكعبة. في الحقيقة، الإسلام تبنى ومارس منذ البداية موقفاً عدائياً مغلقاً تجاه تعددية الألوهية- الشرك بالله- وما رافقها من تعددية الأوثان ولم يعادي الألوهية والوثنية من حيث المبدأ طالما انتهت إلى التوحيد- إله واحد ووثن واحد.

الكعبة، كمجسد حسي لله، تؤدي وظيفة مركزية في الإسلام. إذ تحوي جميع دور العبادة، المساجد، ’قبلة‘ متجهة ناحية الكعبة، ما يجعلها جميعاً تتبع الكعبة وتتحلق حولها كالكواكب السيارة حول مركزها الشمس، أو يجعل الكعبة مركز جاذبية للكون المسلم كله. وليست المساجد فقط هي المربوطة بهذا الشكل بالكعبة، جميع المسلمين مربوطين بها أيضاً بالطريقة نفسها، على مدار الساعة. في الواقع، العالم الإسلامي كله بفكره وشخوصه ومعماره، ماضيه وحاضره ومستقبله، مربوط بالكعبة ويسبح في فلكها، ما يجعل من الصعب تخيل كيف قد يكون شكل الإسلام أو العالم الإسلامي دون الكعبة مركزاً حسياً جاذباً له. لهذا السبب، لا يثير الدهشة أن يناصب إسلاميون معاصرون، بالضبط كما فعل المسلمون الأوائل تجاه الأوثان، الأضرحة والمزارات والحسينيات وما شابه عداءً لا هوادة فيه. السبب واضح ومباشر جداً، أن هذه المجسدات رغم كونها إسلامية إلا أنه قد تحولت بدورها إلى مراكز جاذبة ’فرعية‘ ينجذب ويطوف بها هؤلاء المسلمون المعتقدون في كونها تقربهم إلى الله (بالضبط كما كانت تفعل القبائل العربية في الماضي). هي نفس حال التعددية الدينية الفرعية التي وجد الإسلام نفسه وسطها في البداية؛ وكما حاربها وقضى عليها بالقوة آنذاك، يحارب الإسلاميون الأصوليون الأضرحة ويحاولون هدمها بالقوة هذه اليوم أيضاً.

من البداية، قد أبى الإسلام أن يتعايش سلمياً وسط تعددية الألوهية الفرعية العربية، حتى لو كانت جميعها في النهاية تسلم العبودية لنفس الإله الذي أقر به الإسلام- الله؛ كذلك، لم ينتهج الإسلام وسائل اللين أو التفاوض أو التسوية معها، لكن قهر هذه القبائل بقوة السيف وقرر أن يتولى بنفسه تحطيم آلهتها بدل أن يترك لها الخيار لتقوم بذلك طواعية بنفسها إذا ما اقتنعت بوجاهة توحيد آلهتها المتعددة في الإله الواحد الأعظم، الذي لم يكن غريباً عنها أيضاً. الإسلام، في نظر القبائل العربية وقتها، لم يكن ديناً جديداً؛ هو كان ديناً موحداً لآلهتها الفرعية القديمة في الإله الأعظم والأقدم منها جميعاً- الله الواحد الأحد. هكذا، منذ البداية، لم يبتدع الإسلام إلهاً جديداً لكنه كان يرفض بشدة تعدد الآلهة، واستعمل العنف في فرض سيادة الإله الأعظم بالقوة على بقية الآلهة الفرعية الأخرى.

هنا تحديداً كانت جدلية الوحي والتاريخ في أجلى صورها وأنشط عملها، بحيث لا يمكن بسهولة تمييز ما هو ’وحي‘ عن ما هو ’تاريخ‘. فبينما تبنى الوحي ’فكرة‘ توحيد الآلهة العربية في إله واحد، انتهج التاريخ الإسلامي في الوقت نفسه ’ممارسة‘ توحيد القبائل العربية المتعددة والمتفرقة والمتناحرة في كيان تنظيمي واحد- الأمة الإسلامية. هكذا، منذ حمل المسلمون الأوائل سيوفهم لتحويل ’فكرتهم‘ عن الإله الواحد الأحد إلى ’واقع‘ بالقوة على بقية القبائل العربية، حتى على قبائلهم أنفسهم بمكة، اختلط الوحي بالتاريخ الإسلامي بما يجعل من المستحيل الفصل بينهما بعد الآن. فإذا كانت الدعوة لتوحيد الآلهة العربية في الإله الواحد الأعظم هي مرتكز الوحي وجوهره، كان العمل المسلح لتطبيق هذا الوحي على أرض الواقع هو التاريخ بامتياز. ومن هنا ترسخت جدلية غير منفكة بين الوحي والتاريخ، أو الدين والدنيا (السياسة)، في روح ولحمة الإسلام حتى يومنا هذا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 8 - 01:50 )
الرد على الشبهه :
- الرد على شبهة أن (الطواف بالكعبة وتقبيل الحجر مثل عبادة الأصنام) :
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=180527
- الرد على شبهة (المسلمون يعبدون الكعبه) :
http://rasoulallah.net/index.php/ar/articles/article/8211
- الرد على شبهة أن (الطواف حول الكعبة شركٌ بالله) :
http://www.al-tawhed.net/shobhat/ShowCat.aspx?ID=46
- الرد على شبهة (الإسلام بة طقوس وثنية) :
http://www.soonaa.com/vb/showthread.php?t=5151
- الرد على شبهات حول (مناسك الحج وعبادة الكعبة) :
http://www.burhanukum.com/article1306.html

اخر الافلام

.. عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف قطاع الطائرات المسيرة


.. ماكرون يدعو لبناء قدرات دفاعية أوروبية في المجالين العسكري و




.. البيت الأبيض: نرعب في رؤية تحقيق بشأن المقابر الجماعية في قط


.. متظاهرون يقتحمون معهد التكنلوجيا في نيويورك تضامنا مع جامعة




.. إصابة 11 جنديا إسرائيليا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة ا