الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأصول البدائية للدين والأخلاق

إبراهيم جركس

2014 / 5 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الأصول البدائية للدين والأخلاق

إبراهيم جركس

يشكّل التاريخ البشري أفضل دليل _لكننا كثيراً ما فشلنا في استنباط العبر منه_ على ما سنتحدّث عنه. كثيرة هي المشاكل التي نواجهها اليوم، لكنّ أغلبها في الأصل هي مشاكل قديمة قدم الإنسان نفسه، سببها أخطاء مماثلة شبيهة بالأخطاء التي وقعنا فيها نحن اليوم، وقع فيها أجدادنا وأسلافنا وأدّت بهم إلى نتائج وعواقب مماثلة.
هناك الكثير لنتعلّمه من التاريخ فيما يتعلّق بموضوع الأخلاق. فالتاريخ يزوّدنا بمخزون هائل لا ينضب من الأدلة والبراهين القصصية، أدلة وبراهين كثيرة جداً لدرجة أنه بات من السخف معها بالنسبة إلينا _نحن الفلاسفة الأخلاقيون_ ابتكار أمثلة افتراضية. هذا الابتكار للأمثلة الافتراضية ينتج نقاطاً هشّة تتخلّل الحجج الأخلاقية _وكثيراً ما تتم مهاجمتها على أساس أنها "افتراضية". أغلب المنظومات الأخلاقية المعاصرة ما هي إلا استمرار، اشتقاقات، أو تماثلات معادلة للمنظومات الأخلاقية الأقدم_ تتشارك سمة مشتركة أساسية وهي أنها تقوم على أساس من الخرافات والتوريدات العشوائية والاعتباطية.
نجد بدايات الأسطورة والتفكير الخرافي عند الإنسان البدائي، فمع غياب اللغة بشكليها المنطوق والمكتوب، باستثناء مجموعة من الأصوات العشوائية الخالية من أي معنى! إلا لتدلّ على أشياء أو أمور معينة كالحيوانات، أو مخاطر محتملة، أو غذاء، كان البشر البدائيون في العصر الحجري لا يتمتعون بأي قدرة إدراكية كالتي نتمتع بها نحن البشر المعاصرون. كانوا صيادين مَهَرَة، وأسياداً في النجاة وفنون البقاء على قيد الحياة _إنّ وجودنا الحالي يعتمد أساساً على خبرتهم بهذه المهارات_ إلا أنهم لم يكونوا مفكّرون مَهَرَة. هم لم يكونوا يمتلكون قدرات ومَلَكات عقلية وفكرية محدودة، بل نلاحظ أيضاً أنهم كانوا يفتقرون إلى أي معرفة مسجّلة، ولم يمتلكوا الوقت اللازم والكافي للخوض في مثل هذه النشاطات بوصفها معرفة خارجية متراكمة وضرورية. فأي معرفة كانت تقع خارج نطاق صناعة الأدوات، الصيد، إشعال النار، والمحافظة عليها مشتعلة، والبحث عن ملجأ آمن، نقول أي معرفة كانت تقع خارج نطاق هذه الأمور الجوهرية للبقاء على قيد الحياة، كانت معرفة خارجية غير ضرورية بالنسبة للبشر البدائيين.
كما أنّ الانشغال في هذه النشاطات الزائدة أو الفائضة عن الحاجة كان يشكّل مخاطرة وتهديداً للحياة. لذلك، كانت الظواهر الطبيعية، كالعواصف الرعدية، الأجرام السماوية، الشمس، والموت جميعها كانت ظواهر محيّرة ومثيرة للتساؤل بالنسبة للإنسان البدائي القديم.
ومع انعدام القدرة والقابلية على دراسة هذه الظواهر والتمعّن فيها بطريقة علمية، كانوا ينظرون إليها كظ اخر غريبة وغامضة _ومن هنا نشأت الخرافة والتفكير الخرافي.
يروي لنا الكاتب الألمع يهربون جورج ويلز في عمله الرائع The Outline of History، المجلد الأول، عن السيطرة الذكورية عند الجماعات البدائية، "الرجل الكبير"، بوصفه رمزاً للخوف والمهابة والأمان عند باقي أفراد القبيلة. الرجل الكبير قد أمّن مركزه كقائد وزعيم، لكن ليس عن طريق قرار ديموقراطي، أو قدرته الفكرية، أو حتى شخصيته القيادية وتمتّعه بكاريزما القائد، ل عن طريق القوة البدنية والبطش بكل بساطة، على غرار الذكور الأسياد/الألفا Alpha Male من الفصائل الأخرى التي نشاهدها في وقتنا الحالي. هذه القوة والوحشية يجب تأكيدها وإظهارها ليتم الاعتراف بالرجل الكبير وأفضليته من قبل باقي أفراد الجماعة-القبيلة وزعامته عليهم، وغالباً كا كان يتم التعبير عن هذه القوة بشكل ضارٍ ومؤذٍ تجاه أفراد آخرين من القبيلة ليخضعوا له ولسلطته، وأمام مرأى جميع أفراد القبيلة ليتعظوا، وليفكّر ملياً كل واحدٍ منهم تسوّل له نفسه في تحديه ومبارزته.
كان الرجل الكبير أفضلهم، أو أنه كان أفضل صياد بينهم وأكثرهم مهارة. كانت مهارته في الصيد مصدراً غير مباشر لبقاء المجموعة وتلاحمها. كان الرجل الكبير هو الحامي الأعظم للجماعة من جميع المخاطر والتهديدات والأهوال كالتسديد للحيوانات المفترسة والدفاع عنها ضدّ الجماعات والقبائل الأخرى الغازية. وعلى غرار العديد من الفصائل والأنواع الجنسية، كان يتمّ جذب الرجل الكبير من قبل الإناث ليمارس الجنس والتناسل معهن، وهذا ما فلح الباب طبعاً أمام منافسيه من الذكور الآخرين. كان الرجل الكبير يفرض قوّته وسلطته على ذكور القبيلة، وغالباً ما كان ينتج عن هذه العملية إصابات بالغة بالنسبة للذكور المنافسين، بل وأحياناً كان يكلفهم ذلك حياتهم. تخبرنا الأدلة الأحفورية، والملاحظات التي تمّ جمعها والحصول عليها بمراقبة فصائل أخرى من الحيوانات، بالإضافة إلى الروايات التاريخية والأخبار المسجّلة من قبل بشر أكثر تقدّماً وتطوراً، جميعها تخبرنا بأنّ الرجل الكبير كان في سعي دائم وحثيث لضمان وتأمين مكانته ضمن الجماعة وصفه الذكر المسيطر وذلك عن طريق قتله لجميع الأبناء من الذكور الرّضّع، بل وحتى الشباب والبالغين منهم، وذلك لضمان عدم منافستهم له في المستقبل.
من المناسب القول أنّ المغازلة والتودّد لم يكونا أمران ضروريان بالنسبة للإنسان البدائي القديم. فعندما كان يرى أنثى يريدها ويشتهيها، كانت المسألة لا تتجاوز مسألة تفوّقه الجسدي عليها ليحصل عليها ويتزاوج معها. على الأرجح لم تكن هذه تجربة ممتعة وسارة بالنسبة للأنثى حينذاك. كان الرجل الكبير يعتبر الأنثى ملكه، وكان يحتفظ بها قريبةً منه، وبجانبه دوماً، وكان يضمن التزماتها وخضوعها له عن طريق قوته الجسدية، وهذا أمر مازال موجوداً حتى يومنا هذا _ وهناك بعض الأماكن يكون فيها الأمر أسوأ من ذلك. ومن خلال هذا السعي الحثيث والمتواصل والعنيف من قبل الرجل الكبير لفرض سيطرته وقوته على القبيلة-الجماعة، كان أفراد الجماعة يخافونه، يهابونه، يجلّوه ويحترمونه ويحسبون له ألف حساب بسبب الأمان الذي كان يجلبه إلى القبيلة.
كان الأمان الحقيقي اللذيزيشعر به أفراد القبيلة بوجود الرجل الكبير، والخوف الذي يشعرون به في حال غيابه، هما أساس سلطته وقوته. كانت جميع أشياء وممتلكات الرجل الكبير تلفّها الرهبة والمهابة، ومشاعر الخوف _فلم يكن يجرؤ الصبي أو الشاب اليافع على لمس سلاح الرجل الكبير، أو النوم في مخدعه، أو الاقتراب من نسائه، وكانت الأنثى بالكساد تجرؤ على التجوّل أو الابتعاد عن ظلّ الرجل الكبير_ بدافعٍ من الخوف والأمان. هذا الخوف في غياب الرجل الكبير منه، سمّاه هربت جورج ويلز ب"فكرة الرجل الكبير".
كانت فكرة الرجل الكبير حاضرة بين أفراد القبيلة أثناء غيابه، إضافة إلى ما بعد موته. الموت، كونه كان ومازال الظاهرة الغامضة والمخيفة بالنسبة للإنسان القديم، كان مختلطاً مع مشاعر الخوف والرهبة والأمان التي أحاطت بفكرة الرجل الكبير. وقد تتوّج ليتحوّل إلى مشاعر خوف ورهبة وأمان صمدت واستمرت في وجودها أكثر من الرجل الكبير نفسه. إنّ فكرة الرجل الكبير كانت تتم استعادتها واستحضارها في أوقات الخطر والمحنة. بما أنّ الوجل الكبير كان _عندما كان على قيد الحياة_ هو حامي المجموعة والمدافع عنها، كان من المعقول أن تتعلق القبيلة بفكرة الرجل الكبير والشعور بالأمان الناجم عنها حتى بعد موته. كان الرجل الكبير ما يزال حياً من خلال التابوهات والمحرّمات التي وضعها وأسّسها ورسّخها عندما كان حياً. ربما كانت أماكن إقامته ونومه وأسلحته وجميع أشيائه كان يتمّ التعامل معها بوصفها أشياء مقدسة من قبل باقي أفراد القبيلة. هذه التابوهات والمحرمات والقواعد التي وضعها الرجل الكبير كانت تمثّل بدايات الإدراك والوعي الأخلاقي. كانت، بمعنى ما، قوانين ومحرّمات وضعها ضدّ تصرّفات وأنماط معينة. كانت فكرة الرجل الكبير مرتبطة بهذه التابوهات والمحرمات، وكأنّ سلطته _حتى وهو ميت_ كانت تمنع أفراد القبيلة من انتهاك وتجاوز تلك القواعد والتحريمات.
بإمكاننا العثور على أصل التقاليد والأعراف ونشأتها هنا أيضاً. جميع أفراد القبيلة من عجائب وكبار في السن وأمهات كانوا يرددون حكايات ومآثر الرجل الكبير ويقصّونها على أولادهم، يحكون لهم عن بأسه وقوته وبطولته وهيبته. وبعد عدة أجيال من التراث والتقاليد، أصبحت فكرة الرجل الكبير "أسطورة"، وتحوّلت إلى "أسطورة الرجل الكبير". الأحداث والظواهر الطبيعية كالعواصف والرعود والأعاصير والفصول كانت تؤوّل كحظّ جيد أو سيئ - والحظ بحد ذاته كان وكيلاً غريباً وغامضاً وغير مفهوم. هذه الفكرة البدائية المتعالية كان تثير حيرة الإنسان البدائي وقلقه وتدفعه لتوسيع هذا العالم المتعالي المجرّد عن طريق تضمينه أسطورة الرجل الكبير. وعلى غرار الظواهر الطبيعية، ما زال الرجل الكبير يمارس تأثيره على الجماعة (بقي شعور الخوف والأمان) مع أنه كان غائباً جسدياً. كان يتوقع أفراد القبيلة الأحياء أنّ الرجل الكبير معهم وبجانبهم، يرافقهم دائماً ليحميهم من مخاطر الطبيعة ونزواتها، ومن تهديدات الأعداء المتربّصين والغزاة، وهذه هي مهمته الجديدة، كما سبق وحماهم من الدببة والحيوانات المفترسة والقبائل الأخرى عندما كان حياً. بالنسبة لهم، كان هو متواجد داخل نفس الفلك الذي يتواجد فيه الحظ، وبذلك كان بإمكانه التأثير فيه والسيطرة عليه وإخضاعه وإجباره على خدمتهم والعمل لصالحهم. وهذه هي بدايات الطقوس والتضحية.
من الممكن أن يكون هذا الرجل البدائي المسيطر، الرجل الكبير، الرجل ألفا، هو الإله الأصلي _والتابوهات والمحرمات التي خرجت من الخوف والرهبة هي المصدر الأساسي والرئيسي للقوانين الإلهية الأصلية. منذ لحظة ولادتها الأولى، تمّ ربطها بالأخلاق ومزاوجتها مع الأفكار والطقوس والشعائر الخرافية، وما زال هذا التراث مستمراً حتى عصور أحدث ومجيء عصر الحضارات والإمبراطوريات، وصولاً لعصرنا الحالي.

المراجع
-----
Wells, H. G. The Outline of History, Being a Plain History of Life and Mankind-;- Barnes &Noble, 2004. -print-.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 5 / 8 - 21:57 )
• الإنسان و الدين قرينان :
البشرية كلها عبر الزمان وعبر المكان لم توجد بها قرية ولا نجع بغير إيمان بالله ولا يُعرف تاريخ الانسان الا في إطار الدين والإيمان بوجود الله ولم توضع فلسفات العالم ومحارات عقول العالم إلا من أجل التأسيس للدين .
والمنطق منذ أرسطو إلى يومنا هذا يدور في إطار وجود الله كقضية بديهية , يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك : (لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد لا يوجد دليل واحد على أن التدين تأخر على نشأة الإنسان بل هم قرينان منذ القدم) .... الدين ص76 .
• الأخلاق مصدرها الله الخالق -سبحانه- :
الأخلاق موضوعية لا ذاتية , فهي لا تعتمد على رغبات البشر أو نزواتهم فالخير خير عند الصالح والطالح والشر شر عند الصالح والطالح , فالأخلاق تعتمد على شيء خارج الذهن البشري , تعتمد على إرادة الله التي يريدها لهذا العالم فالأخلاق لها غرضية كونية يُفترض فيها الإستقلال عن أفكار البشر ورغباتهم والقيم الأخلاقية يعتنقها كل إنسان بوعي أو بغير وعي .

الخلاصه : الأخلاق من الله , و الدين من الله , إذاً , الأخلاق هي الدين و الدين هو الأخلاق


2 - الدين ليس فطري
رمضان عيسى ( 2014 / 5 / 10 - 00:32 )
إن الظاهرة الدينية هي ظاهرة عقلية مكتسبة اجتماعيا ، وليست فطرية على الاطلاق ، والا لوُلدت البشرية ولا تعرف إلا دينا واحدا .إن الانسان لم يظهر كامل المعرفة والفهم الذي هو عليه الآن ولا قبل عدة آلاف من السنين ، فعلم الانثروبولوجيا يعطينا تصور عن حالة القصور العقلي لدى الإنسان في مراحله الأولى عن إدراك مسببات الظواهر في الطبيعة ، كالبرق والمطر والفيضان والنور والظلام والولادة والموت والأحلام والقوة والمرض ، كل هذه الظواهر لم يكن لدى الإنسان من المدركات ما يساعده على معرفة ما يكمن خلف هذه الظواهر ، ويجعلها تظهر بهذا الشكل ،ن أو ذاك ، وهذا القصور جعله يُرجع هذه الظواهر الى قوى غيبية وآلهه تصور أن لديها القدرة على فعل هذا.
ولعبت الأحلام دورا كبيرا في بلورة تصور عن عالم آخر غير مجسد روحاني يسكن الأماكن التي من الصعب أن يصلها الانسان كالسماء والغابات والجبال الشاهقة ، وتصور أن هذه الكائنات الروحانية تملك صفات خارقة ، وقد تعددت هذه الآلهة بتعدد الظواهر التي يراها الانسان في حياته ، فهناك آلهة للمطر والبرق والفيضان والموت والولادة ، فهي تمنح القوة وتطرد الأعداء .


3 - حول وهم المشاعية البدائية !
ماجد جمال الدين ( 2014 / 5 / 10 - 03:51 )
ألأخ إبراهيم جركس !
باستعراضك التاريخي المهم المقتبس عن كتاب جورج ويلز ، دحضت تماما كل الأوهام المتغلغلة في عقول بعض الشيوعيين عن وجود فترة تاريخية ما يطلقون عليها إسم ( المشاعية البدائية ) ويعتبرونها مجتمعا لا طبقيا أوليا ..
كما بينت أنا مرارا سابقا : هذا الوهم الإيماني على الشكل الديني روّجَه مفكري الماركسية لتمرير إيديولوجيتهم كي تستقطب النفوس ..
شكرا جزيلا لك
تحياتي

اخر الافلام

.. عظة الأحد - القس كاراس حكيم: فترة الصوم المقدس هي فترة الخزي


.. عظة الأحد - القس كاراس حكيم: السيد المسيح جه نور للعالم




.. عدد العائلات المسيحية في مدينة الرقة السورية كان يقدر بنحو 8


.. -فيديو لقبر النبي محمد-..حقيقي أم مفبرك؟




.. -روح الروح- يهتم بإطعام القطط رغم النزوح والجوع