الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البداوة والمواطنة _ 2

علي الخليفي

2014 / 5 / 10
المجتمع المدني


تقول إحدى الإساطير  السومرية الضاربة في القِدم،   أن الآلهة إنتزعت أحد أبناء الإنسان من غابته الأرضيه المتوحشة ، وجاءت به إلى حدائقها الإلهية ليقوم على خدمتها.

علّمت الآلهة ذاك الإنسان كل ما تجيده ، علمته كيف  يعتني بالمحاصيل ، وكيف يشيد الدُور ،  وكيف يستأنس الحيونات ، وعلمته أيضاً كيف يكسو نفسه، ويُداري عُريه. وعند إنتهاء مُدة خدمته عندها ، أعادته إلى غابته الأرضيه ، فاستغل كل تلك المعارف التي تعلّمها في إعمار غابته الأرضيه ، محاولاً جعلها على صورة حديقة الآلهة.

ربما  يكون خيال الإنسان السومري قد أنتج هذه الإسطور ، لإيجاد تفسير يبرر له نمط الحياة المتوحشة ، التي كانت تعيشها تلك القبائل الهمجية التي كانت تغير على حقوله ، وتنهب مزروعاته ومحاصيله.

  وبحسب هذه الإسطورة يجوز لنا القول ، أن الإنسان المُتحضر هو نسل ذلك الكائن الإنساني الذي إجتبته الآلهة وقربته وعلمته من علومها وأطلعته على طريقة حياتها.

وأما الإنسان الغير متحضر (البدوي) ، فهو سيكون  سلالة ذاك الإنسان الذي لم تتكرم عليه الآلهة بالإصطفاء لخدمتها ، فظل يعيش حياة التوحش مع الحيوانات البريه في حديقته الأرضية .

الكائنات الإلهيه بطبيعتها كائنات مُنتجة ، فهي التي أنتجت هذا الوجود ، وهي التي تقوم على تطويره والإرتقاء به ، ولذا فلقد صيرت ذاك الإنسان الذي إجتبته كائن مُنتج ، يُعطي للحياة بقدر ما يأخد منها.

أما الكائن الإنساني الآخر (البدوي)، والذي لم ينل هذه الحُضوة من الآلهة ، فقد ظل يعيش حياة الإستهلاك، غير قادر على إنتاج أي شيء. ولذا ظل يعتاش على ما ينتجه غيره .

الكائن البدوي كائن مُستهلِك لا يُجيد شيئاً سوى القضم ، ولو عدنا للبحث عن منشأ ثقافة الإستهلاك لوجنا أنها ثقافة بدوية المنشأ بامتياز ، فرغم أن ذاك الكائن البدوي عاش على أطراف حضارات عظيمة ، كانت تمنحه الفرصة تلو الأخرى  للإنضواء تحتها ، والخروج من حياة التشرد والصعلكة ، إلا أنه آثر ذلك النمط من الحياة ، وبدل أن يندمج في تلك الحضارات ، ليصبح جزءاً من نسيجها ، بدل ذلك ،نصب خيمته المُهترئة على أطرافها ، وإعتاش على الإغارة عليها وغزوها ،  ونهب وسلب ما يقدر عليه ، ليعود ويختفي خلف كثبانه الرملية المُتحركة.

لقد كان البدو وعبر التاريخ سبب رئيسي في سقوط عديد الحضارات ، بسبب غاراتهم المتواصلة عليها، وإستنزاف قدراتها ، حتى أن بعض تلك الحضارات العظيمة، لجأت  لإستأناس بعض تلك القبائل البدوية ، ووفرت لها ما تحتاجه من مأكل ومشرب ونفقات، مقابل أن تجعل منها حائط صد تصدُ به غارات وهجمات البدو على أطرافها ،بحيت  يقفوا  بينها وبين بقية أبناء جنسهم ، مثلما كان الحال مع الغساسنة والمناذرة .

نجاح البدو  عبر النهب والسلب في إسقاط بعض الحضارات والقضاء عليها ، لم يكن هو السبب الحقيقي في إعاقة مسيرة الإنسانية  بأكمالها .
فكلما أسقط البدو حضارة من الحضارات ، أقام الإنسان المُتحضر حضارة جديدة في ذات المكان ، أو في مكان مجاور له. بحيث ظلت مسيرة الإنسانية نحو الرقي لا تتوقف .

نهب البدو للخيرات المادية لحضارة ما وإستنزافها ، كان ولاشك سبباً في سقوط تلك الحضارة بعينها .

لكن ما تسبب قي سقوط الحضارة الإنسانية بأكمالها لم يكن هو سطو البدو على الموارد المادية لتلك الحضارات ، بل كان سطو البدو على الأفكار والفلسفات التي قامت عليها تلك الحضارات.

هنا بدأت الكارثة الحقيقية ، وهنا بدأ سقوط الإنسانية  في هوة مُظلمة ، ظلت تهوي فيها  لما يزيد على عشرة قرون متواصلة  .

نهب البدو في غاراتهم ضمن ما نهبوه ، شذرات من بعض الأفكار الدينيه والفلسفيه التي إبتكرها الإنسان المُتحضر ، ولأن عقولهم الغير مُتحضرة عجزت عن فهم المغزى والغاية من تلك الأفكار والفلسفات ، فقد فسرتها وأعادت إنتاجها بشكل مشوه، ثم إعتنقت تلك الأفكار المشوهة ، وآمنت بها ، ونسبتها للسماء ، وإستغلت الدافع الإيماني الذي منحها إياه إيمانها المُشوه ذاك لإجتياح كل ما حولها ،وفرض تلك التفسيرات المُشوهة للمُنتج الحضاري للإنسان المُتحضر ، بزعم أنه منحة وهِبَة خصتهم بها الآلهة دون العالمين.

هنا بدأت إنتكاسة الإنسان ، فالمَواطِن التي داهمها البدو ، وقضو عليها ، كانت هي مراكز الإشعاع لكل هذه المعمورة ، وبسقوطها سقطت حضارة الإنسان في كل هذا الكوكب ، وإجتاحت العَتمة كل أرجاء الدنيا ، حتى هلَّ عصر الأنوار من مكان قصي في الغرب ، بعيداً عن المشرق الذي إعتادت الأنوار أن تشرق منه على الدنيا.

لقد تشوه العقل المشرقي من جراء الإجتياح البدوي، والذي قام تحت مُسمى نشر كلمة الله ،وتم إغراق الإنسان المشرقي في بحر مظلم من الخرافات والأساطير ، لم يستطع كل ما أشرق به عصر الأنوار من نور غمر كوكب الأرض وفاض حتى أضاء الفضاءات خارجه ، لم يستطع تبديد تلك الظلمة التي رانت على عقل هذا المشرقي ، الذي علّم أسلافه الإنسان كيف ينطق كلماته الأولى ، وكيف يخط حرفه الأول على جبين الدنيا.

...... يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - خطر البدو
شام ( 2014 / 5 / 10 - 13:16 )
أينما وجد البدو وجد التخلف والجهل قاموا بتدمير حضارات بحجة نشر الاسلام وانه أمر من الله وإلى يومنا هذا نراهم يفعلون نفس الشيء من تدمير وزرع الافكار المملوءة بالقتل والذبح ومن يخالف أوامرهم فمصيره جهنم وقودها جسد الذي استخدم عقله وعصي أوامرهم
دومت بخير كاتبنا المبدع دوما


2 - السلام عليكم. .
عمر ( 2014 / 5 / 10 - 20:48 )
الإستاذ علي الخليفي. .تحية طيبة
التاريخ يفند مقالتك. .
من أقام الحضارات العظيمة على ضفاف الأنهر كانت قبائل بدوية هاجرة من شبة الجزيرة. .
الأراميون والكلدانيون..في العراق
الكنعانيون والهكسوس والأنباط في الشام ومشارفها. .وليس المقام لخوض تفاصيل هذه الهجرات

***
التوحش صفه إنسانية لا تقتصر على من ذكرتهم. .لقد غزا أبناء الحضارة الأوربية القارة الأمريكية وأبادوا شعوبها البدوية (قبائل الهنود الحمر). .بل أبادوا حضارات عظيمة مثل الإنكا والمايا والأزتك. .


3 - المهم النتيجة
علي الخليفي ( 2014 / 5 / 11 - 22:17 )
السيد عمر لو قرأت المقالة جيداً لأغنتك عن هذا التعليق . كل البشرية مرت بمرحلة البداوة ولا خلاف على هذا .. نحن نتحدث عن النتائج .. قبائل بدوية توفرت لها شروط الاستقرار فشيدت أعظم الحضارات وشعوب بدوية توفر لها ليس فقط شروط الاستقرار بل وجدت حضارات قائمة ولم تكن تحتاج إلا للاندماج فيها فهدمتها واحلت محلها ثقافة البداوة التي لانزال نعيش نتائجها اليوم قتل ودم وحصار على المرأة واستغلال للطفولة.. تقول ان الشعوب الاوربية ابادات شعوب الهنود الحمر فما كانت نتيجة تلك الابادة الان؟ لقد كان نتيجتها بناء حضارة صعدت بالانسان الى القمر ومنحتك انت الان وسيلة التواصل الت تستعملها لشتم اولائك الاوربين الغزاة.. اما البدو الذين تدافع عنهم فقد غزو الشام والعراق ومصر وما ورائها ليجدوا حضارات عظيمه قائمه فضربو جدورها وحطمو مقدرة شعوبها وحولوها الى ما تراه اليوم.. شعوب تعيش في اسفل سافلين هذا هو الفرق ياصديقي


4 - السلام يتبعه السلام. .
عمر ( 2014 / 5 / 12 - 10:02 )
أخي علي الخليفي. .تحية ود من بدوي. .
الإبادة هى الإبادة لا يمكن أن نجد لها مسوغ إنساني. .
الأوربيون الذين أبادوا الهنود الحمر وغيرهم لم يكن هدفهم إقامة حضارة اليوم. .
هؤلاء المتحضرين جدا كان لهم أهدافهم التي تعرفها جيدا كباحث تاريخي منصف.

نعم أنا أدين بما وصلني من تقدم إلى الحضارة الأوربية والغربية كما أدين بها للحضارة الصينية والحضارة الهندية والحضارة العربية الإسلامية التي نقلت جزء كبير منها إلى أوربا الظلمات. .
هذا هو الإرث الانساني المتراكم على مر العصور. .


5 - لماذا ؟
أحمد عليان ( 2014 / 5 / 12 - 23:13 )
لماذا انجبت الانسانية فصيلين من البشرحسب سيناريو الأسطورة ؟
لماذا استسلم المتحضرون الأقوياء الأذكياء لجماعة البدو الأجلاف؟
لماذا ننشغل نحن الخليط من أعقاب البدو و أعقاب المتحضرين بتصانيف بائدة ، و العالم يعج بمستجدات التقارب الانساني ؟

اخر الافلام

.. لم يتضمن عقوبة الإعدام.. قانون جديد في العراق يجرّم المثلية


.. غانتس: لا تفويض لاستمرار عمل الحكومة إذا منع وزراء فيها صفقة




.. شبكات | الأمم المتحدة تغلق قضية وتعلق 3 في الاتهامات الإسرائ


.. هيئة البث الإسرائيلية: الحكومة تدرس بقلق احتمال إصدار -العدل




.. الأمم المتحدة: هجوم -الدعم السريع- على الفاشر يهدد حياة 800