الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة لحلوان الثانوية للبنات

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2014 / 5 / 12
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات


مدرستى لها فى خيالى صورة جميلة كصورة أمى، تعيش معى رغم غيابها

لم أذهب إلى مدرستى بعد التخرج منذ خمسة وستين عاما، تبدو كأنما الأمس، فالزمن عندى هو اللحظات الحميمة التى لا تنسى، وليس السنين والعقود.

مع ازدياد سخونة الحمى الانتخابية، قررت العودة إلى سيرتى الذاتية «أوراقى حياتى» التى كتبت منها ثلاثة أجزاء، وبقى الجزء الرابع.
حمى الانتخابات والسياسة اليومية تقضى على الهدوء الضرورى للكتابة الأدبية، يسألنى كل من يقابلنى، ناوية تنتخبى مين؟ شفتى البرنامج إمبارح؟ رأيك إيه فى الحوار؟ فى التوك شو؟

غير معقول؟ إزاى عايشة من غير التليفزيون يا نوال؟

يندهشون وتمتلئ عيونهم بالحسد، كيف لا تصيبنى الحمى؟ كيف لا تنتقل إلى العدوى التى أصابتهم؟

حمى النخاع الشوكى وغيرها من الحميات درستها فى كلية الطب، أما حمى السياسة والانتخابات فهى عدوى عالمية مثل حمى الاستهلاك والبيع والشراء فى السوق الحرة.

قبل دخولى كلية الطب كنت تلميذة بحلوان الثانوية للبنات، وكنت أحب الأدب، لكنى أحببت أبى وأمى أكثر، فقررت أن أكون طبيبة لأحقق حلمهما، تتطلب الكتابة الأدبية (خاصة السيرة الذاتية) الابتعاد الكامل عن الأحداث اليومية، وهذا مستحيل فى وقت الثورات الشعبية، لكنى عدت، منذ فترة، إلى الجزء الرابع من سيرتى الذاتية، وبدأت زيارة الأماكن القديمة التى شهدت طفولتى وشبابى، فالمكان قادر على استدعاء الذاكرة، يحتوى المكان على الزمان مثل احتواء الجسد للعقل والروح، والذاكرة هى منبع الإلهام، لهذا تمسح الحكومات ذاكرة الشعوب؟،

كنت تلميذة متمردة بالطبيعة ضد النظام المدرسى القمعى، والقسم الداخلى (حيث أنام) تحوطه الأسوار العالية كالسجن، الأيام والليالى أعدها لينتهى العام الدراسى وأعود لأسرتى، كرهت يوم الخميس كل أسبوع، إذ يأتى الأهل ليأخذوا ابنتهم لتقضى معهم الإجازة الأسبوعية، من نافذة القسم الداخلى كنت أطل على البنات السعيدات يعانقن الأهل ويخرجن معهم إلى الحرية، وأنا أبقى حزينة مع البنات القادمات من خارج القاهرة، من نافذة السيارة (صباح ١٠ مايو ٢٠١٤) عيناى تتلهفان لرؤية مدرستى، لم أرها منذ خمسة وستين عاما، الخضرة والأشجار التى كانت فى حلوان لم يعد لها وجود، والشوارع أصبحت ضيقة مليئة بالقمامة والعربات اللورى والكارو، وأطفال بملابس مهلهلة مع أمهات شاحبات يرتدين النقاب الأسود، ومدرستى التى كانت مهيبة المنظر انكمش حجمها، فوق سورها الرمادى المتسخ مكتوب اسمها بخط اليد: حلوان الثانوية للبنات (بالطباشير أو البوية الرمادية) والسلالم تآكلت وتهدمت التى كانت رخامية بيضاء، المكتب الكبير حيث كانت تضربنى فيه الناظرة عزيزة حلمى، بحافة المسطرة على أطراف أصابعى، بتهمة التمرد وعدم الخضوع، تجلس فيه الناظرة الحالية الأستاذة منى عكاشة، التى استقبلتنى بسرور، وطلبت لى الينسون، إنها تحب عملها وتبذل جهدا كبيرا للنهوض بالمدرسة، فوق الجدار علقت لوحة الشرف، بأسماء الخريجات اللائى أصبحن مشهورات: حكمت أبوزيد، كانت تدرس لنا التاريخ ثم أصبحت وزيرة، وآمال فهمى الإذاعية المعروفة، وبعض أسماء أخرى لا أتذكرها، وقالت لى الناظرة بحماس: سأضيف اسمك يا د نوال، وقلت لها ضاحكة: لا داعى لتعريض نفسك للمشاكل، الحديقة بدت فى طفولتى أكبر حجما وأشد خضرة، والسلالم إلى الفصول كانت رخامية أصبحت متآكلة متهدمة، والترابزين تكسر وتشقق، وكان مصقولا ناعما أمتطيه كالحصان وأتزحلق إلى الأرض، الفصول والمعامل القديمة امتلأت أرضها بالحفر، كل شىء أصبح متآكلا مشققا، لكن هناك السبورة الذكية وأجهزة الكومبيوتر فى المعمل الجديد، والمكتبة كما كانت، أبحث عن الكتب الجديدة فلا أجد إلا بعض مجلدات عتيقة يغطيها التراب، أما التلميذات فكلهن محجبات وبعضهن بالنقاب الأسود، عيونهن منكسرة، والمدرسات أيضا محجبات كالتلميذات، وكأن الزمن عاد للوراء مائة عام وأكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رحلة لحلوان
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 5 / 12 - 14:45 )
قرأت الآن مقال الدكتورة الرائعة نوال السعداوي التي راعني دائما تناولها لطفولتها البريئة وتمردها على الثقافة السائدة وهي لا زالت في نعومة أظفارها مما يعني ذلك أن الطفلة نوال كانت مبدعة ماضيا ومستقبلا . دائما هكذا هم كل المبدعون . مقالها يحكي عن الثانوية التي كانت تدرس فيها منذ عقود ستة خلت . فلاحظت التغير الذي طرأ على بناية المؤسسة وعلى التلميذات والأمهات والشوارع المتاخمة للبناية التربوية . كل شيء تغير نحو الأسوأ ونحو الوراء . ذلك بالضبط مع حدث لثانوية القاضي عياض بتطوان التي درست فيها تلميذات محجبات وأبواب حديدية كأبواب الشجون . أين حوض السباحة؟ أين قاعة العرض المسرحي والسينمائي ؟ أين الملعب الواسع وحجرات الدوش ؟ أين الوجوه البشوشة والمرحة ؟ أين الأساتذة الذين كانوا يقومون بالرحلات معنا من حين لآخر وكنت أنا وجماعتي من يختارنا أستاذنا نوري معمر رحمه الله لمشاركتنا جلستنا وطبيخنا وكان الراحل يطلب مني أن أقرأ شعرا والجميع يستمع فكنت دائما نجم الرحلة وشاعرها دون أن أعرف بأنني يوما ما سأصبح شاعرا متمردا معذبا بثقافتنا أين


2 - رحلة
ناس حدهوم أحمد ( 2014 / 5 / 12 - 14:52 )
وشاعرها دون أن أعرف بأنني يوما ما سأصبح شاعرا متمردا معذبا بثقافتنا البائسة . أين وأين وأين ؟ كل شيء تغير لما هو أسوأ . أين المناطق الخضراء التي أصبحت مناطق إسمنت خالصة أين رونق مدينة تطوان الحمامة البيضاء التي أصبحت غرابا أسود .
ما يحدث عندكم في مصر يانوال هو نفسه ما يحدث عندنا وهو أيضا نفس ما يحدث في البلدان العربية كلها ومنها ما هو أسوأ كسوريا وليبيا والصومال واليمن وهلمجرا . إنها الثقافة العربية التي زادت سوادا عندما إلتحفت ثقافة الشيوخ والفقهاء . نحن نغرق يانوال فكيف ننجو ؟ لم يكن قط عالمنا بهذه الحلكة ولا ندري من أين تسلل لنا هذا الظلام المرعب الذي تنشره الفضائيات
المتكاثرة كالفطر وأصبحنا كما لو أننا في يوم القيامة قبل الأوان .

اخر الافلام

.. أغنية خاف عليي


.. مخرجة عراقية توثق معاناة النساء في عملهن بمعامل الطابوق




.. بعملهن في المجالات المختلفة تحققن اكتفائهن الذاتي


.. سناء طافش فتاة فلسطينية شهدت العديد من الحروب




.. سندس صالح، إحدى المتدربات في مركز الإيواء