الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-في السيرة النبوية I و II- لهشام جعيط

حميد لشهب

2014 / 5 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يعتبر عمل الباحث التونسي هشام جعيط "في السيرة النبوية I و II"، الصادر عن دار الطليعة ببيروت عامي 1999 و 2007، من بين أهم الأعمال العلمية للعشر سنوات الأخيرة فيما يخص السيرة النبوية. فهو في عرفنا إضائة رزينة و طرح جديد، بل و قراءة متجرأة لهذه السيرة، قد تخلصنا من أسطورة كُتاب السِّير، و حشو السيرة بمجموعة من الخيالات، التي لا يمكن أن يقبلها أي عقل "مُنَوّر" و لا أي إيمان "رصين".
إنه إذن، في اعتقادنا، إزاحة "اللثام" على الوجه الجميل و المنير لمؤسس الإسلام، و إزالة هالة القدسية على السيرة، التي أقحمتنا فيها المقاربة التقلدية لمدة قرون من الزمن إلى درجة أن محمدا أصبح في المخيلة الشعبية المسلمة يضاهي الله، لتتموضع رسالته وراءه، و يصبح أيقونا، بل و لربما صنما من جملة الأصنام التي "خُلقت" أو "صُنعت" له من طرف الإسلام التقليدي الرجعي. و هو إسلام أساء للرسول و للدين، و بالتالي لله ذاته، باختزاله للسيرة، و ما يترتب عنه هذا الإختزال من فهم خاطئ للدين، فيما كان يتماشى و المصالح السياسية و الإقتصادية للأقليات الحاكمة على مر العصور و القرون.
إن العمل الذي بين أيدينا، عمل تنويري بامتياز، ليس في المعنى الغربي، بل في معنى خاص جدا، أي أنه ينير السيرة النبوية معتمدا على القرآن ذاته و على ما وصل إليه علم التاريخ المعاصر من أدوات عمل، و على رأسها الدراسة المتأنية للوثائق، و أخذ مسافة إبستيمولوجية ليس فقط من مما روج و يروج عن حياة الرسول في الكتب الصفراء، التي انبنى عليها المخيال الإسلامي، و بالخصوص في جانبه السني التقليدي و الأصولي، بل حتى من الدراسات الحديثة، سواء أكانت استشراقية أو عربية. و بهذا يمكن اعتبار عمل جعيط هذا عملا أركولوجيا ـ فكريا و خزان أفكار يمكن أن يُعول عليه الباحث العلمإنساني المعاصر، الذي يتوخى الموضوعية و إجلاء الحقيقة العلمية قبل المعتقدية و الطقوسية، لتحرير إسلام اليوم من قبضة "التينين" المحافظ الظلامي، الذي يتحكم في رقاب الشعوب المسلمة باسم الدين و باسن محمد و من تم باسم الله، في نوع من الفيودالية المسلمة، لازالت تحكم بحد السيف و إقصاء كل فكر مغاير، خشية "الفتنة"، أي خشية أن يعي الفرد المسلم، بأن حائط الطابوهات اللاهوتية الذي دأب صاحب السلطان في الدول المسلمة على بنائه، مؤسس على ترسانة من الأوهام النفس ـ عقائدية و على أساطير لم تمس فقط سيرة النبي، بل النص المؤسس للدين: "القرآن". و النتيجة الواقعية حاليا هي رجوع أغلبية المسلمين إلى عبادة الأوثان، و هي أوثان من نوع جديد، و أخطر بكثير من أوثان و أصنام قريش على عهد النبي. و من الأوثان الخطيرة ـ كما ذكرنا ـ هو "تقديس" النبي و تقديس شعائر و طقوس، لم تعد تعتبر طريقا للإلتقاء بالله، بل أصبحت سُبُلا تُبعد عنه أكثر فأكثر، بما في ذلك الصلاة و الصوم إلخ.، التي أفرغت من كل محتوى روحي ـ فكري ـ تأملي، لتصبح طقوسا تمارس برتابة روتينية خالية من كل "قبس" رباني عند معظم المسلمين.
إننا في أمس الحاجة في الوقت الراهن إلى مثل هذه الدراسات لفقه ديننا و لنميز فيه بين ما هو "من الله" و ما هو "من البشر"، و نحرره من جبروت الأسطورة التي اكتسحته، و التي كونت المخيال الديني الشعبي و نعتق رقبة المسلم المعاصر من عبودية سياسية و اقتصادية دامت أكثر من اللازم، و نأخذ بيده ليكتشف رحابة و فساحة و عمق دينه، في عمل ثوري فريد، يحرر الأبدان و العقول و يترك المسلم وجها لوجه أمام خالقه، عوض المنادات عن هذا الخالق من وراء حجاب الحائط العالي لأساطير الإسلام السياسي، لأن مجمل الإسلام اليوم مسيس، و هكذا كان منذ الأشكال الأولية للخلافة بعد وفاة النبي.
لا يمكننا الدخول في تفاصيل هذا العمل الجبار لجعيط، لأنه كثيف و غني من حيث الموضوع، بل نوصي القارئ الكريم بضرورة قرائته و سبر أغواره و التعمق في دراسته كمسؤولية ثقافية و حضارية و إنسانية، لأنه يقدم مادة خام لابد أن تتكاثف الجهود لدراستها، و من اللازم على الباحثين العلمإنسانيين في العالم المسلم من الإسهام فيها ـ كل في تخصصه ـ من أجل إعادة بناء فهم الرسالة النبوية في أصالتها و عمقها، كحركة تحررية فيزيقيا و روحيا و ميتافيزيقيا، و هذا أقل "إيمان" بالعلم.
إننا نعتبر دراسة جعيط هذه صرخة ضمير لمفكر أرهقه "الحس الموضوعي" و أقلق راحته الحال الذي وصل إليه إسلام اليوم من تخلف في المعتقد و انحطاط في الأخلاق السامية التي جاء بها الإسلام عند القاعدة العريضة لمسلمي اليوم. لابد و الحالة هذه على كل مفكر نقدي يستحق هذا الإسم من المشاركة الفعالة في إعادة بناء الوعي الديني عند المسلمين، كمقدمة ضرورية لنهضة المسلمين و الخروج من بؤر التوتر العقائدي ـ السياسي و هدم "الإمبراطوريات السياسية ـ الإقتصادية" في العالم المسلم و زعزعة كل التصورات الخرافية التي روجها و يروجها عن النبي و عن الله.
تستحق هذه الدراسة في اعتقادنا كل التنويه و كل الإحترام، بغض النظر عن البعض من القصور فيها، و ما يشفع له في هذا الإطار هو شساعة ميدان الدراسة و تشعبه، بل و كذا صعوبته. و يبقى عمل جعيط هذا في يقيننا لبنة مؤسسة من الأهمية بمكان لفهم صحيح لرسالة النبي على أسس تنويرية، في مقابل الأسس الظلامية الضبابية و المأساوية ـ لا يهم من أية جهة أتت و لأي سبب قامت ـ مادام المطلب هو مساعدة المسلم ـ و بالخصوص البسيط في تعلمه ـ من أجل التحرر عقائديا و روحيا، و رفع الوصاية عنه بعدما تجلت له الحقيقة الإلهية في أسمى معانيها عن طريق محمد. لابد إذن من إعادة النظر في كل التراث الإسلامي، لأنه ليس بريئا و ليس صحيحا جملة و تفصيلا، لأن إعادة النظر هذه هي نقطة انطلاق أساسية من أجل بناء تصور معقول و مقبول من طرف الإسلام الشعبي الممارس في الحياة العادية، لأناس بسطاء، ليست لهم الإمكانية لفهم دينهم من الداخل في صفائه الأصلي و بساطته الأنطولوجية، بل ظلوا لقرون طوال يقتاتون روحيا عن طريق السمع من كتب سيرة كاريثية. يرسم لنا جعيط معالم الطريق السيار الذي بإمكانه أن يوصل مسلم اليوم للإلتقاء مباشرة بالله و محاورته و الحديث معه كصلاة دائمة ـ كان من المفروض أن توصل إليها الصلاة "الصغرى"، يعني الطقوسية ـ. لابد أن تترك الصورة السلبية لله في الإسلام الموروث شفاهيا المكان لصورة إيجابية له، مؤسسة ليس على الوعد و الوعيد ـ حتى ليظهر الله و كأنه ديكتاتورا متسلطا، قامع، جامح، مسيطر بيد من حديد ـ، بل على أسمى علاقة لعبد ضعيف مع رب رحيم، و هي علاقة حب و إجلال، خالية من أساطير الأولين و من الصورة الباهتة و المشوهة للذات الإلهية كمتجبر نرجسي لا يهمه شيئ آخر من غير "شراء" حب الناس له، و كأنه لا يوجد إلا باعتراف البشر به، و هو عنهم غني.
إن العالم المسلم المعاصر في حاجة إلى حمام روحي جديد، ينظف فيه جسده و روحه من أوساخ و قاذورات الأسطورة التقليدية الموروثة، ليلتقي بالله في هذه الحياة المسماة بهتانا و زورا "الدنيا"، و هي في العمق أسمى ما خلق الله، لأنها ليست فقط معبرا و امتحانا، بل إرث إلهي و هدية منه للبشر كعلامة على حبه للإنسان و اعتنائه به و تفضيله غلى سائر المخلوقات، ليس فقط لينعم بخيراتها و ينهبها و يدمرها بشغف جنوني و انتحاري، لكن ليختفظ عليها كأمانة في رقبته و كمجال حيوي ـ فيزيقي يوصله إلى محاولة فهم الله و ربط علاقة حميمة معه مؤسسة على الحب المتبادل، الخالي من أي ضغط، لأن حب الترهيب و الترغيب، هو تصور بدائي منحط لإلاه ناقض وجدانيا، و حاشى أن يكون إله محمد هكذا. على المسلم المعاصر أن ينغمس في الحياة "الدنيا" و ألا يتخلى على مسؤوليته فيها "لأباطرة" التعتيم الروحي، الذين استغلوا التكريه في هذه الحياة استغلالا أيديولوجيا، و كأن لم توجد أية حكمة إلهية لخلق "الدنيا" السامية. إن مشكلة الإنسان المسلم الحالي ليست هي الآخرة، لكن "الدنيا"، لأنه تخلى عن كل مسؤولياته الروحية و الأخلاقية اتجاهها تحت ضغط و جبروت تقليد ديني، أقحمه قحما في ميثولوجيا ذات غطاء مسلم، و الإسلام كما تعلمناه من القرآن و من محمد بريئ منها. إذا كان من الضروري أن يكون النبي قدوة في الحياة ـ و يجب أن يكون هكذا كحد أدنى للإيمان ـ فلابد أن نقتدي به ليس بترك اللحية تتدلى و لبس النعال إلخ، بل بالإنغماس المباشر في الحياة العامة و المساهمة الإيجابية فيها، ليس "جهاديا" و لا "سلفيا" و لا "علمانيا" و لا "بيترودولاريا"، بل كمسلم "يسلم الناس من يده و لسانه"، بالعمل الجاد على البدء بتهذيب النفس في الحياة العامة، و عدم مطالبة الآخرين بما يجب عليهم اتجاه الله، بل بتركيز الإنتباه على الحياة الخاصة و الروحانيات العميقة، كمثال للآخرين، لأن تغيير الثقافة و الفهم الدينيين لا يتم بحد السيف، لكن بالسلوك المثالي.
خلاصة القول، بما أن مسؤولية المسلم المعاصر هي وعي ذاته الروحية من أجل وعي العلاقة مع الله في تماهيها و سموها و خصوصيتها و فردانيتها، فإن جعيط يقدم لنا في دراسته هذه نموذج مسلم يجتهد في دينه، باستعمال إيمان ـ عقلي، و الإيمان هنا لا يعني العمى الجاهل، بل التنوير المسؤول، بغية فهم صحيح، أو أقرب ما يكون للصحة، و هو في كل الأحوال أحسن بكثير روحيا و إنسانيا من أساطير "الإمبراطوريات "المسلمة" " الحالية، للنص المؤسس للإسلام و لسيرة من وُكِّل له التعريف بهذا الدين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 81-Ali-Imran


.. 82-Ali-Imran




.. 83-Ali-Imran


.. 85-Ali-Imran




.. أفكار محمد باقر الصدر وعلاقته بحركات الإسلام السياسي السني