الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وفاء البقر وغدر البشر

على المحلاوى

2014 / 5 / 17
المجتمع المدني


وفاء البقر وغدر البشر
المكان ـ ـ ـ ـ ـ إحدى القرى التابعة لمركز المحلة الكبرى بقلب دلتا مصر
الزمان ـ ـ ـ ـ ـ شهر رمضان الفائت
(تنبيه جميع ما سيرد ذكرة من أحداث قد وقعت بالفعل ولا يوجد بها اى قدر من المبالغة)

شاءت الأقدار ولأسباب كثيرة ونظرا لأنى أسكن بقرية النشاط الغالب لسكانها هو الفلاحة بعد تخرجى من الجامعة عملت فى مهنة تربية الأبقار ، وكان من ضمن أسباب اختيارها أنها تتيح الوقت لإكمال مسيرة التعليم ما بعد الجامعى وتعطينى مجال للقراءة والاطلاع ، وهذا ما كان
واكتشفت رويدا رويدا أن عالم الحيوان عالم كبير، و تحولت هذه الأعمال من مهنه أقوم بها الى هواية أحبها
ووجت فى طباع هذه الأبقار ما جعلنى أفكر هل البشر فعلا عقلاء ومن قال أننا فعلا أعقل الكائنات ، ما جعلنى أطرح هذا السؤال حكايتى مع إحدى الأبقار
ولدت وتربت هذه البقرة لدى وكانت منذ صغرها بها قدر من التمرد الشديد والعنف يساعدها على هذا ما كان لديها من قرون حادة كقرون الثور ، ومن صفاتها حبها للزعامة بين بنى جنسها ، فاذا تأخر موعد الغذاء وقفت عند الباب وأخذت (بالنعير) وأخذت الأخريات بالترديد ورائها فيحدثوا ضجيجا وأصواتا مزعجة يجعلنى أنتبه وأسرع بإحضار وجبه الغذاء لإسكات هذا الاحتجاج ، ماسحا بيدى على أجسادهم كتعبير عن الاعتذار ، فيسعدن بذلك إلا زعيمة الأبقار فى حالة تأخر الميعاد وكنوع من رفض الاعتذار ، فإذا اقتربت منها تحمر عينها وتأخذ بضرب الأرض بأرجلها وفى ذلك انذار الى للابتعاد فأؤثر السلامة وأقرر عدم الاقتراب منها وإثارة غضبها وتركها حتى يرق القلب وتصفو النفس فيكون الصفح
فبعد سد جوعهم يأخذون بللعب والجرى وراء بعضهم ، وكم دعونى لمشاركتهم ألعابهم وعن طريق الالتفاف حولى وإيهامى بحركة كاذبة بأنهم موشيكن على نطحى وطرحى أرضا ولكنهم ولوفائهم يطرحونى أرضا فى حنان ، وإذا كانت تلك البقرة راضية عنى تأخذ بلعق جسمى بلسانها من شعرى حتى أطراف قدمى كرمز للوفاء والامتنان ، فتحذو حذوها الأخريات وأنا فى سعادة غامرة

لم أستعمل العصا فى تأديبهم قط حتى فى حلات الثورة والهياج لم تتطاول يدى عليهم ولو مرة واحدة ، ومنبع هذا الفعل فكرة كانت ولازالت تراودنى الى الأن ، وهى وجود إحدى الديانات تؤمن بتناسخ الأرواح ، فكنت أتساءل ماذا لو صدقت تلك الديانة ، وماذا لو كانت تلك الأبقار فى الماضى كانت بشرا ثم إنتقلت روحهم بعد الوفاة وعادت فى صورة أبقار، وكم قضيت الساعات الطوال وأنا أنظر بعيونهم محاولا الوصول الى معرفة ماذا يفكرون فلعلهم يحاولون اخبارى أننا كنا مثلك فى أحد الأيام ، ويمكن أن تكون مثلنا بمقبل الأيام ، أو لعلى قبل أن أصبح بشرا ومتحكما فيهم كنت مثلهم بغابر الزمان ، واحتراما لهم ولأننا ننتمى لأسرة واحدة هى بنى الحيوان لم تطاوعنى نفسى ابدا أن أمسك لهم كرباك ، ولقد حفظوا هذا الجميل وتجلى هذا بهذا الموقف الطريف

فبعد كبر الملقبة بزعيمة الابقار وحملها جاء موعد المخاض ، ولأنها أول ولادة لها فكانت عثيرة أستعنت ببعض الجيران ، ولأنها أول مرة لها ترى بشرا غرباء ، بمجرد أن وضعت مولودها تحركت بداخلها غريزة الامومة وحماية صغيرها من هؤلاء الغرباء انتابتها حالة من الهياج والغضب الشديد لم أرى مثلها عليها من قبل ، كانت عينها شديدة الاحمرار ونفثت الهواء بالارض من الغضب بصوت يوقع الرعب بالألباب ، ثم دبت الأرض برجليها وكان الانفجار ، فأخذت تجرى وراء الغرباء فى كل مكان بمحاولة للنيل منهم والقضاء عليهم ، فإذا طالت أحدهم أشبعته نطحا وركلا ولم تتركه إلا وهو مثخن الجراح ثم انتقلت الى الأخر بسرعة وخفه تخطف العقول ويعجز الشخص عن الحراك ، ونتيجة هذا الخطر ولأنها استولت على المنطقة المؤدية الى باب النجاة ، كان الضعيف يسبق القوى لتسلق الاسوار للفرار ، ولم يبق أحد بالمكان ألا أنا لا عن شجاعة ولكن من شدة الخوف فلم تساعدنى قدماى على الفرار فاستسلمت للأقدار ، فكان أن رأتنى فاستدارت مسرعة مشرعة قرونها عازمة على الفتك وفى أخر لحظة وقرونها تكاد تلامس وجهى فجأة توقفت ، وكأن وعيها قد عاد فتغلبت على غريزتها لحماية الصغير ولم يطاوعها قلبها لألحاق الاذى بى وتسمرت بمكانها شاخصة فى عينى فقرأت ما بها من الخوف فأخذت بلعق ملابسى بمحاولة لتهدئتى ثم عادت لصغيرها لاعقه لتنظيفه ، وسمحت لى بالاقتراب منة للتأكد من سلامته ،و الابقار والغرباء من خلف الاسوار يراقبون ما يحدث باستغراب ، وعند وقوف المولود بسلام فرح الجميع واخزت الابقار بالصياح
ومرت الأيام ولم تكن تسمح لاى أنسان بحلبها إلا صاحبها الذى أحست معه بالأمان وظنت فيه الوفاء ، فكم حاول الاخرون تقيدها وتجويعها كعقاب فيكون جزائهم الركل أو كسر الإناء ، فإن عجزت أمتنعت تماما عن الإدرار حتى ولو تورمت (ضرتها) من تخزين اللبن بها تنتظر الى أن يأتى صديقها (الوفى) فينزل اللبن مدرارا بمجرد لمسها

ولكم أن تتخيلوا مقدار إحساسهم بالأمان معى من أنهم كانوا يمتنعون عن شرب الماء حتى ولو كانوا عطشى إذا قدم من يد أحد الغرباء ، فهنا لا أمان ولا ثقه بهذا الماء ، فلابد أن يقدم من يد صاحبهم ومن يرون فيه الوفاء ، ولهم الحق بهذا فهم يشاهدوا بأم أعينهم صاحبهم يظل ساهرا إذا مرضت أحداهم بجانبها حتى تسترد عافيتها ويتحقق الشفاء ، وكنت أرى فى عيونهم وحركتهم التقدير والعرفان
وأستمر الحال على هذا المنوال ، ولكن دوام الحال كما يقال من المحال ، ولا تأمن لغدر الأيام ، مرت علي ضائقة مالية واشتد الخناق واصبح لا فكاك إلا ببيع بعض الأبقار ، وجاء احد المشتريين من اهل قريتى ليشترى بقرة لذبحها وإطعام الصائمين (كما يدعى ) تقربا الى الله
ووقع اختياره وللأسف الشديد على زعيمة الأبقار ، فى البداية رفضت وشرحت له الأسباب ، فشرح هو ان هذه الابقار تربى بغرض الذبح مهما طال العمر او قصر ، فوجدتنى أصرخ فيه ان هذا حرام فقابل هذا بضحكة عالية وقال يبدو أن كثرة القراءة تفسد العقول كيف يكون حرام والله من حلل لنا هذا كما نصت عليه كل الأديان ن وإزاء رفضى زاد عناده وزاد بالمال وأخرج رزمه البنكنوت فتوقف لسانى عن الكلام ، وبعد برهه نظر الى فوجدت لسانى يقول متى تأتى لأخذها فانفرجت أساريره وأحس بالانتصار فقال موعد الذبح غدا
أقسم لكم فى هذا اليوم كانت نظرة تلك البقرة الى نظرة حزن وعتاب ، وأخذت طوال تلك الليلة الأخيرة لها تلعق أبنها وتتمسح فى باقى الأبقار وتجول ببصرها فى أرجاء المكان وكأنها تلقى علية نظرة الوداع ، وتأتى الى وتضع رأسها بين يدى ولا أعلم هل كانت تودعنى أم ترجونى لأبقى على حيتها ، ولحزنها امتنعت تلك الليلة عن الطعام
أما أنا فقضيت تلك الليلة لا يعرف النوم الى عينى طريق
وفى الصباح حضر المشترى ، فتجمعت وألتفت حولها الأبقار فى منظر وداع ، ونظرت الى وعندما لم تجد منى رجاء استسلمت للغرباء ، ولأول مرة يوضع الحبل حول قرونها بدون تمرد منها او احتجاج ، وكأنها رضخت لمصيرها المحتوم وخرجت وراء المشترى من المكان وسط صياح ونداء ابنها وباقى الابقار ، وخرجت ورائها وأنا أحس انى أمشى بجنازة أحد الاعزاء ، وأحاول أن أخفى حزنى وإحساس الخزى الذى يتملكنى أمام الغرباء وحتى أظهر بمظهر من يطلق عليهم الرجال
وتم ربطها بإحدى العربات تجرها الخيول ولكنها وكأنها قررت عدم الاستسلام رفضت ان تبرح المكان ، فما كان من المشترى ألا ان هوا عليها بعصاه من الخيزران وكانت أول عصاة تنزل عليها بحياتها ، ولأنها من الاحرار فقد أوسعته ركلا وتعدى الامر هذا فقامت بقلب العربة المربوطة بها وجرى المحيطون حولها من المكان ، وعبثا حاولوا جرها لتوصيلها لمنزل المشترى دون جدوى
فطلبت منهم أن يذهبوا لبيوتهم ويتركوا المكان ، فمسحت على جسدها والمسكينة كانت لا تزال تظن فى الخير وأنى فككت حبلها من العربة لأستردها وأعيدها الى باقى الأبقار ، ففرحت وأخذت تتحسس جسدى فى لفتة تنم عن الفرحة والرضا وأنها قد سامحتنى على ما فات ، وأخذت أسير ممسكا بحبلها شاعرا بالخزى وهى ورائى تسابقنى الخطى متشوقة للقاء ابنها واثقة فى صاحبها مصدر الامان ، وفى نهاية المسير وجدت نفسها أمام باب مكان لم تتعود علية فتوقفت ونظرت فى عينى وكانها تقول انا اثق فيك فل تغدر بى فمسحت على شعرها ، فدخلت ورائى هذا المكان

لتكتشف المسكينة أن هذا بيت المشترى ، وتفاجأ بخروج الجزارين مشهرين السكاكين والحبال ، وتكتشف أن صاحبها الوفى ومصدر الأمان هو من غدر بها وأخذها الى الهلاك ، فنظرت فى عينى وهم يقيدونها تمهيدا للذبح ووجدت الدموع تسقط من عينها لتنساب على خدودها زخات ، ووقفت لتلقى حدفها فى استسلام ، فلمعت السكين وفى لحظة حذت الرقاب فسالت الدماء وهى ناظرة الى بعينها حتى خرجت الروح وغمضت العيون وتوقف الدمع عن بلل الخدود ، وعند ذلك انتحيت جانبا وأخذت بالبكاء
ــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(1) خالص الاعتذار لما بدر منى بحق تلك البقرة وغيرها من الأبقار
(2) خالص التقدير والاحترام للنباتيين بكل مكان
(3) نداء لكل من يتعامل مع الحيوان سواء فى المزارع أو المجازر أرجوكم الرفق والرحمة بالحيوان
(4) الى كل البشر أتمنى أن يهبكم الخالق عقول البشر ووفاء البقر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الترحيل إلى رواندا.. هواجس تطارد المهاجرين شمال فرنسا الراغب


.. نشرة الرابعة | النواب البحريني يؤكد على استقلال القضاء.. وجه




.. لحظة استهــ ــداف دبـ ـابة إسرائيلية لخيام النازحين في منطقة


.. عشرات المستوطنين يعتدون على مقر -الأونروا- بالقدس وسط حماية




.. مراسل العربية: اعتقال ضباط أوكرانيين بتهمة محاولة اغتيال زيل