الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جلسة إستئناف.... لمحاكمة دسيس على اللغة

حسام شحادة

2005 / 7 / 23
المجتمع المدني


انتفض، اهتز، ثار، غضب، كَتب (المعرفة) حسب ادعائه بأنه معرفةً، وثيقة دفاع، بعد أن قدم طلب التماس للمبتدأ ملك اللغة، يطالبه فيه برغبته في الاستئناف في القضية محور الاتهام. وبعد مراجعة الطلب، قرر المبتدأ أن يعقدَ جلسة المحكمة، ودعا لها كل كلمات القاموس اللغوي، وكل أدوات اللغة. حينها أومأ المبتدأ للمتهم بالبدء في الحديث. انتصب (المعرفة) حسب تعريفه لنفسه وقال: يا سيادة القاضي، إنهم مرتزقة، مأجورين، إنهم طغاة ظلاميين تربوا على فتاتِ النفايات. قال ما قال، صال وجال، وحال دون أن يقال في غير هذا المقام ما قال، وفي دفاعه استخدم النكرة، والإعراب، والتذكير والتأنيث، والخبر، والفعل، والمفعول به والمضاف إليه.... الخ استخدمهم سوء الاستخدام، فطلب المبتدأ منهم شهادةً على ما جرى ورأيهم. فيما المعرفة روى.

فقال الخبر: إني أعلن على الملأ أني أستحي من أن يُخبرَ الناس بواسطتي نبأ لا يحتكم لأصالة النفس، وجودة الوجود في الوجود ذاته. وانبرى الإعراب معلنا وبشكل حاد غير مسبوق أن ما ادعاه المتهم باطل وفيه تطاول مجرور لكن ليس بفعل حرف الجر، وبناءً عليه أصدر الإعرابُ قراره إلى كلِّ علاماتِ التشكيل: فتح، وضم، وكسر، وسكونْ أن لا تتخذوا دوركم عند استخدامكم في مقال تعسٍ مدسوسٍ على لغتنا وإن تشابهت الحروف فما هي بتلك الحروف ولا هي عندنا بشيء مألوف.

أما عن المفعول به الذي دخل لتوه محراب المحكمة متعكزاًً على عصاه شامخاً الرأس، فقال إني ما زلت أرفضُ أن يجرَ اسمي ولقبي في غير مكاني. إن المعرفة لا تحسن استخدام الأدوات وبالتالي تقع دوماً في المحظور وعليه أطالب بانزال أشد العقوبة بالمتهم لعله يفيقُ ويرجعُ عن كلامه المبتور.

وعند ذلك ارتجفت المعرفةُ رجفةَ الموتِ الأخيرة، وقبل أن تغادرها الروح إلى دار الغد قالت: إني أتنكر لذاتي، كوني رضيتًُ أن أكونَ اسماً للمتهم، أغيثوني أرجوكم، فإن فعلتم سأكون لكم من الشاكرين. قالتها وهي تتسلل خلسةً بعيداً عن المتهم. حينها قفزت دمعةٌ من عين المبتدأ، وأمرها بالتنحي عن دورها رأفة بحالها، ولكن كيف يستمر التحقيق بدون اسمٍ للمتهم ؟!
أعتقد ما عاد في الميدان غير سيد الفرسان "النكرة" فكان هو الاسم الجديد.......... استمر الحوار بين مد جزر، وحين اقتنعت وتأكدت هيئة المحكمة وبشكل نهائي من إدانة المتهم وتورطه الواضح في القضية وتطاوله واستخدامه للغة في غير مكانها واستخدام الألفاظ البذيئة وقمامة الكلمات من أجل شتم الآخرين والتطاول عليهم واتهامهم بما لا يليق بأدب اللغة وقدسية كلماتها. ومحاولة الاستئناف ما هي إلا استخدام سيئ لأسرار قانون اللغة، عندها قررت هيئة المحكمة إبقاء الحكم قائماً إلا وهو طرد المتهم من قاموس اللغة، ولكن هذه المرة طال العقاب حراس القاموس أيضاً، كونهم سمحوا للمتهم بالتسلل بين صفحات القاموس وكونهم لم يتخذوا التدابير اللازمة لمنعه من دخول المملكة، فكان عقباهم أن أعيدوا تفتيش القاموس ورقةً ورقة، لعلكم تجدوا خارجين عن القانون، هذا واكنسوا كل القمامات الخارجة عن صف الأدب اللغوي.

إلى هنا.. انتهت المحكمة قال المبتدأ..... حينها انبرى أحد حراس القاموس قائلاً: كيف لنا يا سيادة الملك أن نحذر الآخرين من الانزلاق في متاهات كهذه، كيف لنا أن نرشدهم، فما نحن بقادرين على أن ينزل بنا عقاب آخر. فكَّرَ المبتدأ وما لبث كثيراً حيث قرر إصدار رسالة تنبيه وإرشاد إلى كل سكان القاموس وغيرهم من خارج القاموس بموجبها دعا الناس إلى فن استخدام اللغة وطرائق التعامل معها فقال في نص الرسالة التالي: -

أيها المواطنون الكرام: على ضفاف، وهامش، وفي قلب القاموس اللغوي، وخارج إطاره، ندعوكم اليوم لتكونوا أكثر إشراقاً، أكثر تألقا، وأكثر لمعاناً. إذا همس لكم الخير فإتبعوه، وإن كان عصي الطريق، صعب المنحدر، فالخير أصل الإشياء والشر إستثنائي الوجود، يا كل من يكتب حرفا أو يهمس بشفتيه أن يدرك أن ما يقوله، ويكتبه ويستخدمه من أدوات اللغة، عليه أن يكون من أجل الخير.

كل الأشياء تتقزم أمام الصدق، فلست أنت من تملك الحقيقة وحدك، فالحقيقة لها عدة وجوه. لا تقبح وجهك بإستخدام كلمات أوجدتها الرذيلة بين ثنايا التاريخ الإنساني، لا تلوث عقلك بتفكير إعتباطي، لا تكن إتكالياً عن غباء، ولا غارق في متاهات التكتل، لا تسمح للكلمات القبيحة أن تغزوا ثنيا عقلك وروحك، لا تعكر صلاتك ووقوفك في المحراب المقدس أمام الله بهفوات لسانك، لا تقل عن الأشياء ما لا تعلم، ولا تنفي عن الإنسان صفته، أدِّبْ لسانك بقليل من الحب، أقمع غرائزك الدكتاتورية بقليل من العصا، حاول أن تتجاوز مسألة الذات.

لا تستخدم الحروف في تركيب كلمات قبيحة المنظر، ثقيلة المسمع، سيئة الطوية، فإن فعلت سوف تلعنك كل حروف اللغة وستأتي بك يوما لتَمثُلَ أمام الأفعال الكبيرة العظيمة، لتشعر بحالة التقزم اللامتناهي الدائم حتى العدم.

وقف المبتدأ برهة وبعنايةٍ واهتمام لكل الضالين قال:

صبراً، وحباً، شعرا،ً ونثراً، قصيدةً فيحاء الرائحة، مقالاً جميلَ الطلَّةِ، عصفورةٌ تغني بأعذب الألحان، قلبٌ يرقُ بحنان، يضمُ كلَّ الضالين إليه برفقٍ وهيام، يرضعهم حليبَ الخير يسقيهم ماءً مقدس، ويُطعمهم من خبزٍ مقدس، فتعالوا كي أسقيكم من خبزي وأرضعكم حليباً صافٍ، وأطعمكم خبزاً مقدساً، تعالوا قبل أن تجدكم مكانس حراس القاموس فتطردكم خارجه شر طردة، فتصبحوا على ما فعلتم آسفين.

إلي هنا انتهت الجولة الأخيرة من محاكمة........... على اللغة. فإن كان لا بد من إعادة الكرَّة من جديد دعوني أن أدعو من هنا كل الغيورين على صدق الكلمة وحب الناس، أن يتخذوا دورهم إزاء أفعال ناقصة، وحروف جر غريبة عن لغتنا. أما أنا فدعوني أسخرُ طاقتي لفعل عظيم، يضيف شيئاً ما لهذا الوجود الرائع إذا ما حذفت منه كلمات القبح والرذيلة. قال المبتدأ هذا وشبَّكَ يديه خلف ظهره، ومضى، ومن وراءه كل الأدوات تسير نحو هدفٍ واحد، وفعل خير واحد، فهل لنا أن نتبعه لفعل الخير، له ذاته سائرين، نحو الحب والأصالة متطلعين ؟!
أسدل الستار، وانقشع الضباب فبزغت الشمس، والسؤال مازال قائما هناك ؟! والتوبة بابها مفتوحٌ للضالين بين متاهاتِ الجملِ وحروفِ الكلمة، وسراديب لغة الحوار المتمدن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبكات| هل تصبح فلسطين عضوا في الأمم المتحدة بعد التصويت السا


.. -أين المفر؟-.. تفاقم معاناة النازحين في رفح




.. الغرب المتصهين لا يعير أي اهتمام لحقوق الإنسان في #غزة


.. الأونروا: أوامر إسرائيلية جديدة بتهجير 300 ألف فلسطينى




.. رئيس كولومبيا يدعو لاعتقال نتنياهو: يرتكب إبادة جماعية