الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 3 جنسنة الشرق

سعد محمد رحيم

2014 / 5 / 31
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


بات الجنس مفصلاً إشكالياً في منظومة علاقات السلطة بعد صيرورته ظاهرة ثقافية إلى جانب كونه فعالية بيولوجية. أي منذ نضوج عوامل التمدن والوعي بها، فعُقلن الجنس وقٌيّد بأعراف وتقاليد ومبادئ وحدود لما هو محلّل بصدده أو محرّم. بيد أنه لم يدخل في حقل اهتمامات السلطة وخطابها كموضوعة محورية، لها قواعدها الوظيفية، وميكانزماتها، واشتراطاتها السياسية والأنطولوجية، إلا مع عصر التنوير والحداثة. ويشير ميشيل فوكو إلى حقيقة أننا عرفنا ( الجنسانية ) مع علوم النفس والتحليل النفسي منذ القرن الثامن عشر على أبعد تقدير لتغدو "موضوع بحث علمي ورقابة إدارية واهتمام اجتماعي". وكلها غير منفصلة بطبيعة الحال عمّا أسميناه بمنظومة أو شبكة علاقات السلطة.. أما محاور الجنسانية، بمنظور فوكو، فهي ثلاثة؛ "تكوين المعارف التي تتعلق بها، والأنظمة السلطوية التي تنظم ممارساتها، والأشكال التي بها يستطيع الأفراد ويتعين عليهم أن يكتشفوا أنفسهم كموضوعات لهذه الجنسانية".
خرج الغرب من فضائه القديم، بعد القرون الوسطى، مستعمِراً لما يقدر على اغتصابه من فضاء الآخرين. وقد أضحى الخطاب الكولونيالي المشبع بالجنسانية أداة سلطوية للسيطرة والتحكم، وقبل ذلك لتعريف الآخر/ المستعمَر وموضعته وتنظيم شكل وجوده الاجتماعي في ضمن شبكة العلاقات الكولونيالية. ويرى روبرت يانج أن "فكرة الاستعمار ذاتها قائمة على خطاب مصطبغ بالرغبة الجنسية للاغتصاب والإيلاج والتحبيل ( impregnation ) بينما تُقدّم العلاقة اللاحقة بين المستعمِر والمستعمَر في الغالب في خطاب يعبق بالغرائبية الجنسية". وبحسب يانج "كانت حركة التجارة وحركة سير الجنسانية إحداهما مكمِّلة للأخرى ومتضافرة معها".
جعل السعي الاستعماري وما رافقه من فضول معرفي، وقبل ذلك التخيلات المحمومة المكوّنة تحت تأثير قراءة ( ألف ليلة وليلة ) وغيرها من السرديات المشرقية، الشرقَ محفِّزاً ذا نكهة جنسانية للمخيال الغربي القاصد بناء هويته على مبدأ ( الاختلاف ). المخيال اللاعب في أفق متع محرّمة يُعتقد أن فضاء الآخر/ الغرائبي متخم بها.. والسرديات التي كُتبت في شكل أدب رحلات ومذكرات، أو قصص وروايات، أو تقارير صحافية واستخبارية، كانت متشربة دوماً بعصارة جنسية جليّة أو خفية، وباستيهامات تشوِّش الحقائق المستلّة من التجربة الموضوعية الخابرة والمحسوسة.
ما كان يهم كثراً من الرحالة والمستشرقين والمشاهدين الغربيين عموماً في أرجاء الشرق هو الجسد الأنثوي الشاب والمغوي، وليس أي جسد آخر؛ ليس الجسد المريض أو الشائخ أو المتضوِّر جوعاً أو المعذّب.. كان هناك الجسد الخادم أيضاً، والجسد العامل بأجر زهيد، وفي بعض الأحيان الجسد المُرغم أو المتطوع للقتال دفاعاً عن مصالح الإمبراطورية كما كان الحال مع الجنود الهنود في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى. وفي الأحوال كلها لم يُستغن عن المجازات الجنسية في رؤية بلدان ومناطق الشرق واستعماره.. والسرديات الغربية، التي راحت تعيد إنتاج تلك المجازات الجنسية طوال عقود طويلة، سواءً أكانت متخيلة أو لا، ساهمت "في بناء الشرق بطريقة معينة، بإعادة ابتكار مواقعه الأصلية على نحوٍ مجنسن. فمن خلال التنميط المقولب، الاستعارة المكررة، التمثيل الانتقائي، والحيل الأخرى، بنى الخطاب المجنْوَس والمجنسن البلد الأجنبي، المكان ( الآخر )، بفعله هذا، عرّف بقية العالم بطريقة تصادت مع الإمبريالية الأوروأمريكية، والأهم من ذلك ربما، أنه ساعد على تشكيل الهوية الذاتية ومعنى الوطن لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية".
كان تمثيل الاخر في الخطاب الغربي المتبّل بالجنسانية يتراوح بحسب رفن جميل شِك في كتابه ( الاستشراق جنسياً ) بين وصف البلد الأجنبي ( المتاح للاستعمار ) امرأة يجب إخضاعها ( فض بكارتها ) حيناً، ووصفه ملاذاً جنسياً حيناً آخر. وتصوير الآخر كليّ الجنس تارة ( الأنثى بوصفها تهديداً لغواية الرجال البيض، والذكر بوصفه تهديداً حاضراً لاغتصاب النساء البيضاوات )، وتصويره متخنثاً أو مغتصِباً، استبدادياً، مضطهداً للنساء الشرقيات تارة أخرى. وهكذا توطّد مبدأ الهيمنة بتوسّل حيل ومناورات خطابية تراوحت بين تخنيث الآخر، وتصويره وحشاً جنسياً.. بين إظهاره عاجزاً وضعيفاً مرة، وفحلاً مهدِّداً مرة ثانية.. حيث اُستخدمت هذه التعارضات والتناقضات في تمثيل الآخر/ المختلف، ومن غير شعور بالذنب المعرفي، على وفق تبدلات الأحوال ومقتضيات المصلحة ومتطلبات السيطرة والتحكم، ولتعزيز هوية الذات المتفوقة في مقابل إنكار الآخر وثقافته.
ظلت الموتيفات المكرّرة والأنماط القبلية والقوالب الثابتة القارّة فضلا عن الأفكار المسبقة شغّالة في متن الخطاب الغربي القاصد تمثيل الشرق ونسائه. ولا يهم فيما إذا كانت تلك الموتيفات والأنماط والقوالب والأفكار متعارضة بعضها مع بعض، أو متناقضة، طالما أن كلاً منها يؤدي وظيفة تسويغية أو إقناعية مفيدة في كل مرة يُستخدم فيها. "على سبيل المثال، توصف المرأة الشرقية بأنها هيفاء رشيقة ومستهترة رديئة الطبع، فاتنة ومنفرة، فظة ومهذّبة، قذرة على نحو يثير الاشمئزاز ومهووسة بالاستحمام.... شوهاء ومتناسبة القوام على نحو مثالي، رشيقة كالغزالة وخرقاء كالبطة، واهنة كسولة ودابة حمولة، سجينة لا حول لها ولا قوة وشريرة ماكرة". فأن تُصوّر قذرة رثة الثياب حيناً فذلك يسوِّغ الوجود الاستعماري الجالب للصحة والرعاية الاجتماعية والعمل على تحضير السكان البدائيين. وأن تُصوّر منهمكة بالتجميل وتنظيف جسدها في الحمامات، فهي إذن شهوانية وفاسقة وخطرة.
لكن الغرض الأخير كان إتمام عملية الاستحواذ.. استحواذ الطبقة البرجوازية الغربية على مكان ( آخرها ) عبر مخيال شهواني. والآخر لم يكن الشرقي فقط وإنما من عدّوا من الطبقات الدنيا ( العاملة ) في المجتمعات الغربية ذاتها.. كان ذلك المخيال يتلصص على أمكنة الحريم/ الشرقي وينشئها لا على أساس مشاهدات حية على أرض الواقع بل انطلاقا من تلكم الموتيفات ليُماهي بين نساء الشرق ( الافتراضيات ) العاريات المشتعلات بالرغبة والداعيات أن يُخترقن، وبين أرض الشرق العذراء المتطلِّبة الباحثة عمن يستعمرها ويحرثها ويجني ثمارها.. وفي لحظة ما صارت "جنسانية النساء ( الأخريات ) بما فيهن الأوربيات من الطبقة العاملة والأصلانيات غير الأوربيات، مكوِّناً هاماً من مكوِّنات بناء الذات للبرجوازية الأوروبية. فقد سمحت للأوربيين الغربيين أن يتنكروا للخصائص المميزة التي يعدّونها غير مرغوب فيها لديهم بإعكاسها على الآخر".
استندت أحكام عديد من المفكرين الأوربيين لاسيما ما قبل الحرب العالمية الأولى إلى نظرة عرقية ترى في البشر أصنافاً ذوي طبائع جوهرانية ثابتة.. وإذا كان معيار الإنسانية، نسبةً لهم، هو الغربي/ البرجوازي فإن الآخر المختلف أُنزل إلى خانة الأشياء، أو في أفضل الحالات جرى نعته بالبربري/ البدائي/ الوحشي الذي يقف خارج الثقافة، والذي يجب ترويضه وإخضاعه واستعماله.. الآخر/ غير الغربي الموصوف بأنه لا يعرف أي نوع من التنظيم الاجتماعي والقوانين، ويعيش على وفق أهواء منفلتة، ولا يُحسن تكوين أفكار مجردة، فيما علاقته بالزمن عائمة، لا حدود لها. هذا الآخر في صورته المؤبدة اللاتاريخية يستحق من منظور المفكرين العرقيين لا مكانته الدونية حضارياً وحسب، ولكن لون بشرته أيضاً، كما لو أن الثقافة هي التي تُحدّد وتُسيّر وتؤثر في الطبيعة وليس العكس مثلما يلاحظ تودوروف في كتابه ( نحن والآخرون )، محللاً النظرة الغربية ـ الفرنسية في حالته ـ للتنوع البشري. وها هو بوفون يقول عن سكان من يقطنون خارج النطاق الجغرافي الغربي: "إنهم يعيشون بطريقة قاسية ومتوحشة، وهذا يكفي لكي يكونوا أقل بياضاً من شعوب أوروبا". ويقول في مكان آخر: "الطبيعة في أسمى وجوه كمالها، صنعت البشر البيض".
حاولت النظرة العرقية النهل من معطيات التقدّم الحاصل في حقول العلوم الطبيعية، وتوظيفها بطريقة منحرفة لضبط أيديولوجيتها التي ستبرر فيما بعد واقعة الهيمنة الكولونيالية وكأنها من نواميس الطبيعة وفرضياتها ومتطلباتها. فالصفات الجسدية والمورِّثات وخصائص العرق المزعومة هي التي، بمقاييس هذه الأيديولوجيا، تحدد سلوك البشر وقيم أخلاقهم، ولا جدوى إذن من محاولات تغييرهم.. اعتقد فولتير أن الأعراق البشرية المختلفة لم تنحدر من الإنسان نفسه.. وتحدّث رينان عن "طفولة أبدية لعروق غير قابلة للكمال"، وعن "شعوب كتب عليها الجمود" معلناً أن "غزو بلد عرق أدنى من قبل عرق أعلى يقيم فيه من أجل أن يحكمه ويديره ليس فيه ما يصدم". وهناك تصنيفات وتراتبية للأعراق يقترحها لوبون. ولا أظننا بحاجة إلى جهد علمي ومعرفي كبير لمواجهة مثل هذه الرؤى العنصرية وبيان سخفها وقصورها، والتي فندتها منجزات علوم الطبيعة، فضلاً عن وقائع التاريخ الاجتماعي في قارات الأرض.
الميل للمقارنة بين العالم الطبيعي والعالم الإنساني جعل جوبينو يقارن الأمم بالأجسام البشرية ناعتاً الحضارات بأنها إما مذكرة أو مؤنثة. وبطبيعة الحال فإن المذكر الغربي البرجوازي هو من يتمتع من دون سائر البشر بخصائص الجمال والذكاء والقوة، والذي بمقدوره تشميل سلطته لتغطي موضوعاً لها، كلاً من الآخرين؛ النساء، الطبقة العاملة، والمستعمَر. ففي الغالب تخفي النظرة العرقية بعديها الجنساني والطبقي، أو تظهرهما بطريقة مواربة.
يحضر الآخر شبقياً/ مثيراً للرغبة؛ امرأة هي كناية عن المستعمَر، ليس بالضرورة أن تكون لها لغة وفكر.. يفضِّلها بيير لوتي خرساء؛ موضوعاً حسيّاً سلبياً لذات مترعة بالفحولة والنشاط، ففي رواياته التي كتبها في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر يحكي عن تجاربه الشهوانية في بلدان الشرق.. يتعلم التركية غير أن هذا لا يقرِّبه من عشيقته التركية.. إنه ليس بحاجة إلا إلى متعته معها.. يقول: "إنها قوية في إيحاءات النظر لدرجة أنها تستطيع التقليل من الكلام، أو حتى التخلي عنه تماماً".
غرائبية فضاء الآخر تستدعي الحاجة إلى صون اختلافه/ إغرابه لتوكيد هوية الذات الغربية ومركزيتها.. الفضاء الذي هو في آن معاً؛ موضوع دهشة، والتذاذ، وتملّك، وتغريب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إلكتروني على وزارة الدفاع البريطانية.. والصين في قفص ا


.. -سابك- تستضيف منتدى بواو الآسيوي لأول مرة في الرياض




.. السياحة ثروات كامنة وفرص هائلة #بزنس_مع_لبنى PLZ share


.. المعركة الأخيرة.. أين يذهب سكان رفح؟ | #على_الخريطة




.. بايدن: دعمنا لإسرائيل لن يتزعزع حتى عندما نختلف | #عاجل