الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحديثيون الدينيون والنقد التاريخي (3)

عبدالله خليفة

2014 / 6 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



يقوم عبدالرحمن الكواكبي بالحكم المُعمّم على الإنجيل والتوراة فيقول إن الحكم حقيقي بشأن (مغزى أساطير الأولين والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المُضافة إلى الإنجيل, ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما)، لكنه لا يقوم بعرض وجهة نظره هذه, وكيف استطاع أن يفصل الأقسام التاريخية عن الأقسام التعليمية والأخلاقية؟ وهل الرسائل, ولعله يقصد رسائل بولس الرسول, تنفصل عن الأناجيل الأربعة, لأنه لا يوجد إنجيل واحد؟! إن الكواكبي لا يدخل معمعة البحث هنا, وينتقل إلى الظواهر الاجتماعية البسيطة والمنتشرة عبر العصور, وهي استخدام رجال الدين للأديان من أجل المصلحة, ويقول إن أساس وضعهم يعتمد على ما في الأديان من تهديد بالعقوبات الكبرى أو بالثواب العظيم, وإن الأمر يعود لسيطرة رجال الدين على هذا الطريق بين الإنسان وربه, فهم يقيمون الحصالات المالية و يأخذون المكوس على أرواح البشر الحرة: (ولكن على تلك الأبواب حجاب من البراهمة والكهنة والقسوس وأمثالهم الذين لا يأذنون للناس بالدخول ما لم يعظموهم مع التذلل والصغار ويرزقوهم باسم نذر أو ثمن غفران).
لكن هذه العملية في رأيه ناتجة من المماثلة في وعي العوام بين الخالق والحاكم: (وبعبارة أخرى يجد العوام معبودهم وجبارهم مشتركين في كثير من الحالات والأسماء والصفات, وهم هم, ليس من شأنهم أن يفرقوا مثلاً بين (الفعال المطلق) والحاكم بأمره). وهذا ما يؤدي في رأيه إلى انتحال بعض الحكام القدماء صفات الألوهية. في رؤية العلاقة بين الأديان والاستبداد يعطي الكواكبي للعوامل الشخصية الدور الكبير في صياغة الاستبداد, فرجال الدين والحكام, كلٌ على حدة، أو مجتمعين, يقومون بالدور الاستبدادي كلٌ في مجال اختصاصه, وهم يشكلون عالماً استبدادياً مشتركاً, وهم يفرقون الشعوب إلى شيع وطوائف (فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ), أو مثل قيام (السلاطين الأعاجم في الإسلام بالانتصار لغلاة الصوفية), إن هذه الظواهر التي يقدمها الكواكبي تركز على الشخوص ولا تقوم بالتحليل الذي يربط بين هذه النماذج الشمولية والأفكار, فلماذا استطاعت هذه النماذج دوماً من احتكار صياغة معاني الأديان واستغلتها للسيطرة, وما هو التداخل بين الفكري والسياسي والاجتماعي هنا؟ أي كيف حدثت هذه الديمومة ولماذا؟ ولماذا لم تظهر شخصيات تركز على معاني الأديان الإيجابية وتستمر في الدعوة إليها؟
لقد استطاع الكواكبي بعد هذه الفقرات أن يكشف معانيَّ دقيقةً, لا تزال حتى وقتنا الراهن غير معروفة لكثير من المثقفين, هي تلك الرؤية الدقيقة لتطور المذاهب الدينية في أوربا, حيث يتمكن من تمييز التحرر في البروتستنتية والتقليد في الكاثوليكية, فهو يفسر تحرر القسم الأول على ما يستقيه من الرواية التي يستشهد بها, بأنه راجع إلى أن التحرير الديني ساهم في تطور تلك الشعوب السياسي, في حين إن الحرية السياسية في الدول الكاثوليكية لم تؤدِ إلى التحرر الديني, ورغم إن هذه ملاحظة دقيقة منه, إلا أن الكواكبي عبر منهجه المثالي (فلسفياً) يقوم بفصل تطور الوعي في شكليه الديني والسياسي عن التطور الاجتماعي, فهو هنا لا يقرأ تطور الرأسمالية الأوربية ودرجاتها, حيث سارعت الأقطار الأكثر والأسبق في النمو الرأسمالي في إنتاج البروتستنتية, في حين كانت الأقطار الجنوبية الأقل تطوراً قد أنتجت المذاهب المتشددة, أي أن نمو الحريات الاقتصادية قام بتفكيك شبكة الإقطاع في المستويات المختلفة للبنية الاجتماعية, بدءً من حرب الفلاحين مروراً بنشوء عمليات الإصلاح الديني حتى الثورة الصناعية الخ..
ولكن كان طرح الكواكبي هنا يتصف بطابع متقدم, وسنجد في مقاطع تالية, أفكاراً مدهشة متقدمة أخرى حتى على وقتنا الراهن . ولكنا وجدنا هنا مشكلة وعي الكواكبي المحورية حيث التحليل النقدي للاستبداد الديني والسياسي تنقصه عمليات تشريح اقتصادية واجتماعية وفكرية متضافرة, وفي الفقرات الكبيرة التالية المتعلقة بتفسير نشوء ظواهر الألوهية في بلاد الإغريق يرجعها الكواكبي إلى عمليات الخداع التي قام بها حكماء بلاد الإغريق, كوسيلة للإصلاح الديني الذي هو البوابة للإصلاح السياسي كما يرى. وهو تفسير لا علاقة له بالتاريخ, وإذا كان هو هنا يواصل عدم معرفة التاريخ الموضوعي وأهمها نشوء المدن الحرة والصناعة والطبقات الوسطى القوية التي أنتجت الديمقراطية الأثينية, إلا أن استنتاجه بشأن أسبقية الإصلاح الديني هو غير دقيق, لكون الإصلاح السياسي والديني كانا متداخلين, بل أن المحافظة الدينية ظلت قوية في بلاد اليونان رغم التقدم السياسي, ثم لعبت دوراً كبيراً في الارتداد عن النهضة .
بطبيعة الحال كان دخول الكواكبي لتحليل الظواهر التاريخية في بلاد اليونان هو بحد ذاته إنجازاً, كما يشير إلى محاولاته الموسوعية لتفسير الظواهر الإنسانية, رغم نقص المواد المعرفية والمنهجية في زمنه.
ويأتي تحليله للإسلام معبراً عن هذا الترابط في وعيه بين الإسلام والديمقراطية والحداثة بل والاشتراكية, وإلى استبصاره المدهش لكون الإسلام ثورة اجتماعية وضعت العرب والمسلمين على طريق التطور والتحديث, وهو يقول إنها وضعت (أصول حكومتها: الشورى الأرستوقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لا بسيوفهم . وجعل أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي أي الاشتراكي حسبما يأتي فيما بعد).
إن شورى الأشراف التي أقيم عليها الحكم الإسلامي لم تنفصل عن رغبات ومصالح الرعاة العرب, أي الجمهور الأوسع . ونستشف هذا الفهم من تعبيره الاجتماعي الدقيق هنا: (الأرستقراطية) فالفئات الوسطى القرشية التي تسلمت زمام الدولة الوليدة, ظلت أشرافية, واعتمدت شورى أهل الحل والعقد, وليس النظام الديمقراطي الانتخابي, أي لم تعتمد التصويت الواسع للجمهور, ولهذا فإن تقييم الكواكبي للحدث الإسلامي رغم نواته الموضوعية, يظل مضطرباً, ولهذا فإن جمعه للديمقراطية والاشتراكية هنا يشير إلى رؤيته لعملية الديمقراطية الاجتماعية العميقة: توزيع الأراضي على الجنود العرب, وتأميم أراضي الفتوح لصالح الناس, ووجود السلطة في متناول نقد وتصحيح الجمهور, وعدم وجود هياكل بيروقراطية ومؤسسة أمن وقمع الخ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 98-Al-araf


.. 99-Al-araf




.. أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع


.. بن غفير يحاول منع الأذان في القدس والداخل المحتل




.. فرحة وزغاريد بعد إحالة قاتل نجله بسوهاج لمفتي الجمهورية