الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التحديثيون الدينيون والنقد التاريخي (4-4)

عبدالله خليفة

2014 / 6 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



لعل الرؤية الاجتماعية التي عبر عنها الكواكبي بشكل مشوش، هي التي فصلت رؤيته الدينية عن الشمولية، وجعلتها رؤية دينية ديمقراطية، وخاصة مع التحامها بالوعي الحديث.. إن الكواكبي بتقييمه للإسلام كثورة اجتماعية لعب أشرافُ مكة دوراً طليعياً فيها، لا يقوم بمتابعة التحليل لمسار هذه الثورة، فهو يجد بعدئذٍ أن تلك الفترة المضيئة قد زالت لأسباب ليست عبر قراءة تحليلية لتطورها، فهو يعيدها إلى: (.. هذا الإهمال للمراقبة، وهو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد أوسع لأمراء الإسلام مجال الاستبداد وتجاوز الحدود). فهو يعيد ظهور الاستبداد إلى مجال ضعف المراقبة الجماهيرية للحكام، وغياب جماعة الأمر بالمعروف، والحقيقة أن المسلمين لم يقصروا في هذا المجال، ونحن نجد مختلف الجماعات السياسية والفكرية طوال العهد الأموي تناضل وتتصدى بالسيف والكلمة للحكام الجائرين، وامتد ذلك إلى العصر العباسي، كما حدث في انتفاضة النفس الزكية والمعتزلة ضد جور بني العباس.. الخ، ونستغرب من الكواكبي كيف لم يقم بدراسة هذه الظاهرات الواضحة في التاريخ الإسلامي، ثم كيف يقفز إلى جانب جديد اعتبره هو المسئول عن انهيار الحكم الإسلامي العادل؟ ألا وهو (والخلاصة أن البدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان تكاد كلها تتسلسل بعضها من بعض وتتولد جميعها من غرض واحد هو المراد، ألا وهو الاستعباد).
فما هو شكل هذا الانحراف؟ أي كيف تمكنت مظاهر دينية أخرى غير إسلامية من التغلغل في الإسلام، وما هي الأسباب؟
لا بد أن نرى الشق الأول من السؤال، ويبدأه بأن المسلمين اقتبسوا من المسيحيين مقام البابوية وحاكوا مظاهر القديسين وعجائبهم وقلدوا الكهنوت في مراتبهم والوثنيين في الرقص وتطبيب الموتى والاحتفال الزائد في الجنائز وشاكلوا الكنائس في مراسمها وجاؤوا من المجوسية باستطلاع الغيب وتعظيم الكواكب.. الخ.
تغيب هنا عن منهجية الكواكبي مثلما غابت في السابق، القراءة المتابعة لتغير المراحل التاريخية، فهو لا يقوم بدراسة الإسلام التأسيسي وظروفه وتطوره، واعتماده على رعاة الجزيرة لتغيير المنطقة، وتأثير ذلك في توحيديته وبساطته، ثم ظهور مرحلة جديدة بانتقال العرب إلى البلدان المفتوحة، وتأثير ثقافاتها ومقاومتها وصراعها على تطور الإسلام، وبالتالي تغلغل تقاليد جديدة تعكس التداخل والصراع بين مستويين من الوعي والتطور، وهو ينتبه إلى دور الاستبداد في تبديل هذه الثقافة المشتركة وتوظيفها لخدمة سيطرتها، لكنه لا يرى كذلك أن هذه الثقافة لعبت دوراً في مقاومة السلطة الشاملة وتفكيكها..
هذا الجانب التركيبي المعقد لا تستطيع أدوات الكواكبي فرزه وإعادة تحليله، فهو ينطلق من رؤية تبسيطية للدين وللإسلام، وهذه العمليات المركبة من التطور الاجتماعي الروحي تصعب على أدواته أن تدرسها.
لكنه ينجح في تحليل ظاهرة عصره التي خبرها بمرِ تجاربه، وهي التي تعبر عن مضمون رؤيته، ألا وهي ظاهرة النبالة، أي الإقطاع، ففي فصل الاستبداد والمجد، يقوم بكشف أصحاب الأمجاد هؤلاء الذين يتجه المستبد للإكثار (منهم ليتمكن بواسطتهم من أن يغرر الأمة على أضرار نفسها تحت اسم منفعتها)، (والخلاصة أن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة..)، (ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز).
ثم يقوم الكواكبي بتعريةٍ واسعة لقيم المجد الزائف متغلغلاً في ظاهراته بلغة نارية ساخرة كاشفاً سمات التنبلة الاجتماعية حيث يرث ابن العائلة (الترف المصغر للعقول) و(الوقار المضحك للباطل السائد) ولا (يستخدم الثروة في غير الملاذ الدنيئة البهيمية ويرتبط (بأقران السوء المتملقين المنافقين)..
هذه المظاهر الاجتماعية للإقطاع يتبعها الكواكبي بتحليل اجتماعي سياسي مترابط ودقيق (فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة الأشراف) فقدرة الأسر الإقطاعية العربية على تأسيس الحكم يعتمد على قدراتهم العشائرية العسكرية، وهو أمر سبق لابن خلدون تشخيصه باتساع، لكن الكواكبي يتتبع مختلف المظاهر المترتبة على فكرة الأصالة الأرستقراطية، فتظهر النبالةُ العربية بشكلها القبلي المترفع، وبحياتها الاجتماعية الخاوية، ويظهرُ الاستبدادُ العربي مرتكزاً عليها، ثم على رؤساء العشائر الأخرى وعلى الإدارة الفاسدة، بحيث يستطيع المستبد أن يستمر في حكمه المتفرد..
بطبيعة الحال لا يقوم الكواكبي بربط هذه الجوانب الدقيقة من تحليله الاجتماعي المعاصر بالقوى الاجتماعية المختلفة، وبالمسار التاريخي للأمة العربية، فتحليلاته تحليلات موضعية جزئية لا تتسع في تعميمات وتكتشف قوانين، ولهذا يغلب على ملاحظاته التجزؤ والتفتت وغياب الترابطات المختلفة، فهو هنا يكشف جذور الاستبداد الإقطاعي في المنطقة، لكن لا يربطه بما فحصه سابقاً عن المذاهب الأوروبية، أو عن التاريخ العربي، فتتحول ملاحظاته الدقيقة إلى وعي جزئي بالتطور العام.. المستبد هنا يتحول إلى فرد وليس إلى بناء سياسي واقتصادي وثقافي تاريخي، ولهذا تغيب الهياكل الاقتصادية والاجتماعية العامة التي أسست الاستبداد وأعطت الأفراد والفئات إمكانيات توظيفها للتفرد بالحكم.
استطاع الكواكبي أن يجمع بين نقد الماضي والحاضر الإقطاعي الديني العربي الإسلامي ونقد الرأسمالية الغربية الحديثة، وأن يقترب من جذور التطور في كلا المنظومتين، لكن هذا الدرس لم يرتبط برؤية التشكيلات التاريخية ومسارها، وبالتالي أن يحلل واقع العرب الراهن بينها ومسار تطورهم، ومن هنا تظل ملاحظاته المهمة في طور القراءة الاجتماعية لم تتطور إلى أفق فلسفي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادات وشعوب | مجرية في عقدها التاسع تحفاظ على تقليد قرع أجرا


.. القبض على شاب حاول إطلاق النار على قس أثناء بث مباشر بالكنيس




.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا