الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كرة القدم والهوية

علاء عبد الهادي

2014 / 7 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




بداية، هناك من ينظر إلي الهوية بصفتها أحد معطيات الطبيعة، والحقيقة أن الهويات القومية بعامة أيًّا ما كانت الروابط التي قد تربطها بسلالات بعيدة، هي نتاج تواريخ حديثة نسبيًا؛ بُنيت من جُمّاع عناصر ثقافية متنوعة، ويُعدّ مبدأ الجنسية من أشهر المباديء التي ارتبطت بالهوية القومية في النظم السياسية الحديثة، وهو مبدأ استند علي عدد من الادعاءات منها: إن الهوية القومية تعد أساسًا صحيحًا لتحديد الهوية الشخصية، وأن شعور الأفراد بانتمائهم إلي قومية معينة يمثل عنصرًا من العناصر المكونة لهويتهم، هكذا يتحول هذا الاعتقاد المُتَخَيّل للهوية إلي حقيقة اجتماعية، ذلك بسبب الإيمان الجمعي به، "من هنا يعد أمرًا خلقيًّا -من وجهة نظر المؤمنين بهذا المتخيل - أن يتصدوا لحماية هويتهم ضد القوي التي قد تمثل تهديدًا لها"، كما يذهب إلي ذلك المفكر الإنجليزي انتوني جيدنز (1938).
وعلي الرغم من أن هناك من يتعامل مع فكرة الدولة القومية بصفتها الدافع الأساسي لبناء هوية ثقافية جمعية، فإن هناك من يري "أن هذه العلاقة بين الدولة والهوية، قد أضحت علاقة متآكلة"، حيث تواجه الآن النزعة القومية تحديات متزايدة، تتمثل في ميل الهوية القومية إلي الارتباط بالانتماءات ذات النطاق الضيق، أو المحدود، بسبب تقلص فاعلية القدرة التكاملية للدولة، وذلك في ظل ما يفرضه النظام العالمي الجديد من تحديات علي القوميات القديمة، مفهومًا وممارسة، وهذا ما أفقد مفهوم الهوية القومية جزءًا من معناها من جهة، مثلما زاد من تفتت دور الجماعة الخلقية التي كانت تضع المعايير الداعمة لأنساق التوافق، وللإجماع الخلقي، من جهة أخري. هنا تجدر الإشارة إلي ثلاثة عوامل ساعدت علي تفجر خصوصيات جديدة، ربطت الهوية القومية بعناصر جديدة عليها، وهي: "ارتداد الأيديولوجيات السياسية التعبوية التي كانت رائجة إبان ازدهار الدولة القومية، وتصاعد الأزمات التي باتت تؤثر علي أشكال التكامل المجتمعية في ظل ظرفنا الحضاري المعيش، بالإضافة إلي اندثار النظم الامبريالية القديمة التي كانت تشعل جذوة الفكرة القومية، كما أضعف إعادة النظر إلي الأيديولوجيات السياسية السابقة، ومراجعة ثوابتها، عمليات التعبئة الحزبية، علي نحو بات ينال من ثبات الصيغ السياسية التقليدية لشرعية الدول والأنظمة، مع زيادة الاتجاه إلي الفوضوية، من خلال مختلف آليات تحقيق الذاتية الخصوصية، وذلك علي سبيل الإحلال والتعويض. وهذا ما يفسر الأهمية التي تحظي بها النشاطات الرياضية، وأنديتها الآن، وهي نشاطات قد تمكن الدولة من اجتذاب المزيد من المؤمنين بالمعايير التي تدعو إليها، وزيادة أعداد التابعين لها، وبالرغم من أننا كنا ننظر إليها من قبل بصفتها ممثلةً لمؤسسات ثانوية، غير ذات أهمية، فإنها أصبحت الآن أنشطة مهمة قابلة للتوظيف السياسي، وذلك بسبب قدرتها الهائلة علي "إيجاد الجماعة"، وتحقيق الانتماء. كما يذهب إلى هذا أنتوني جيدنز.
يمكننا في هذا السياق أن ننظر إلي كرة القدم من المفهوم الاقتصادي بصفتها عرضًا عليه طلب اجتماعي كبير. لقد خلقت الرياضة أساطيرها، ورموزها المقنعة، ومنتجاتها مثل الساعات، والملابس الرياضية، والأحذية. إلخ. في شكل علامات تجارية معترف بها عالميا، بحيث أصبحت قوة الثقافة الرياضية مرتبطًة بقدرتها علي إنتاج الرموز التي أصبحت هدفًا تسعي إلي استثماره الرأسمالية العالمية، فأصبح لهذه المنتجات، ولتأثيرها الثقافي قدرة هائلة علي التأثير علي نحو عالمي، سواء كان ذلك في تغيير أنماط العادات والسلوك، أو في فرض أنواع جديدة من الأزياء، والملابس، بصفتها مظهرًا من مظاهر التحضر، وذلك في ضوء كثافة غير مسبوقة من التواصل الإعلامي الذي جاوز الآن أية مفهومات جغرافية سائدة في عقود القرن العشرين الثلاثة الأخيرة عن الحدود الوطنية، جغرافية كانت أو إعلامية.
يثير هذا التناول عددًا من الأسئلة حول المعني الذي تتخذه الممارسة الرياضية الآن - كرة القدم بخاصة - في داخل العلاقة الممتدة بين الثقافة والهوية. تلك الممارسة التي نقبلها هكذا، ببراءة شديدة، دون طرح أسئلة منها؛ ما دلالات ذبول معظم الألعاب الجماعية الشعبية التي كانت مشهورة في المجتمعات الزراعية، التي سبقت المرحلة الرأسمالية! وهي المرحلة التي انتقل اللعب فيها من المفهوم المرتبط بالمتعة البسيطة إلي مجال أكثر تعقيدًا وتقنينًا هو مفهوم الرياضة الحديثة، التي استثمرت الجسد الإنساني بوصفه رأسمالاً اقتصاديًّا وسياسيًّا في آن. وفي هذا ما يطرح السؤال حول الشروط الاجتماعية التي أعطتها هذا الاهتمام العالمي؟ فهل استبدلَ اليومي المعيش الهوية الرياضية بالهوية القومية!
وبالرغم من اقتناعنا بأن عددًا من الرياضات القائمة الآن قد أخذت من ألعاب أكثر قدما، فإنها قد خلقت مع ذلك ثقافة جديدة، ومنطقًا نوعيًا رياضيا يحكم اللاعب، والمشاهد، والمنتج معًا، فاللعب قديمًا كان مرتبطًا بوقت الفراع، ثم أضحي تدريجًا مهنة قائمة بذاتها. أي أن اللعب تحول إلي ضرورة لها اقتضاؤها الوَظَفِيّ، ومعاييرها العقلية، وأجهزتها المؤسسية الحاكمة التي تمارس من خلالها سلطات تأديبية تُفرض علي الأندية، وقد تُفرض علي الدول أيضًا، لاحترام القواعد النوعية التي تسنّها.
لا تملك الرياضة قدرة التأثير علي السياسة فحسب، بل إنها وجه من وجوهها، وذلك في ظل تحولها - بفضل توسط الشاشة المرئية - إلي أكبر فرجة جماهيرية منتشرة علي نحو هائل خارج دائرة الممارسين. حيث ازدادت ألوان التشجيع التي أتاحتها النزعة المتعصبة قوميًّا، والتي ترجع في جزء منها إلي القطيعة بين المحترفين والمستهلكين علي مستوي المعرفة، وهي نزعة تتجه إلي أن تصير بنية عميقة من بني الوعي الجمعي العالمي الآن. ذلك بعد أن نجحت الرياضة في اختزال الشعوب بمختلف فئاتها وأعمارها إلي مشجعين لا تخلو مواقفهم من تعصب، من هنا يمكننا أن نتفهم السبب من وراء استغلال كرة القدم إعلاميًّا لخلق حالة من التماسك الوطني والانتماء.
يشهد العالم الآن، كما يشهد الوطن العربي - علي نحو غير مسبوق - نهوض ثقافة جماهيرية واسعة، تشير إلي أهمية العلاقة بين الهوية الوطنية والرياضة من جهة، وتعدَ دليلاً علي ارتداد الأيديولوجيات السياسية التعبوية المعتادة، وانتقالها إلي مجالات جديدة من جهة أخري، بحيث أضحي تشجيع المنتخب الكروي ممثلاً لتعويض يمكنه أن يملأ هذا الفراغ، ذلك بعد أن قبض علي مخيلة مئات الملايين من الناس اهتمامها بمنتخباتها القومية لكرة القدم، وذلك علي نحو يشهد درجات متزايدة من سلوكيات التعصب. وهذا يطرح أهمية فتح باب المناقشة الهادئة حول قضية الهوية الوطنية ارتباطًا بالرياضة بعامة، وكرة القدم بخاصة. فعلى سبيل الإشارة, نجح الأداء المشرف للفريق الجزائري في جمع ملايين المشاهدين العرب الذين وقفوا معه في مباريات المونديال, وكأنه يمثل فريق كل قطر على حدة! حتى الأقطار العربية التي شهدت حوادث عنف بين جماهيرها وجماهير الفريق الجزائري -بسبب التعصب المقيت- كما حدث في مناسبات كروية سابقة بين فرق عربية كمصر وليبيا وغيرهما والفريق الجزائري, وقفت هذه الجماهير بكل قوتها, وبكل دعمها النفسي مع الفريق الجزائري تنتظر فوزه على الفريق الألماني, ورأيي أن هذه الأحداث تشكل نصوصًا اجتماعية تستحق الدراسة.
علي أية حال، ربما يساعدنا التحليل الاجتماعي لظاهرة التعصب في رياضة كرة القدم بخاصة علي فهم أبعادها السياسية، وكيف تسهم في دعم ديناميات السلطة أو الانتماء في المجتمعات المعاصرة، في الوقت نفسه الذي تفرض علينا تقويم مختلف الآثار الثقافية للرياضة علي مفهوم الهوية القومية للبلدان العربية، في ضوء الأبعاد السياسية للرياضة، وتأثيراتها علي حراك الأفكار القومية السائدة.
* (شاعر ومفكر مصري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكلات عيد الأضحى مع الشيف عمر.. لحوم بنكهة مميزة ????


.. إسرائيل من أوحال غزة إلى أوحال لبنان.. دُر! | #التاسعة




.. دعما لغزة.. المعركة بين أنصار الله وأمريكا وصفت بـ-الأكثر كث


.. على كرسيه المتحرك.. جريج من غزة يؤدي تكبيرات العيد بمشاركة م




.. شاب جزائري: -تعرضت للتنمر وكنت أشعر بالنقص وأنا اليوم لاعب ق