الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدخل نفسي للفاسد في المجتمع العراقي*

محمد لفته محل

2014 / 7 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعتبر العراق من الدول المتصدرة في قائمة معدل الفساد الإداري والمالي عالميا، ويعتبر الفساد ثالث محور الشر في ثالوث (الطائفية، الإرهاب، الفساد) بالعراق، حيث ينخر هذا المرض المجتمع سياسيا واقتصاديا بهدر الأموال العامة واختلاسها وفشل التنمية وسوء الخدمات والمشاريع التجارية، وزيادة البطالة المقنعة وفشل عمل المؤسسات والوزارات الحكومية والبنى التحتية، وتفشي الفقر والبطالة، وللفساد شبكات ومؤسسات ظِل تحميه من القضاء وتقدم له الدعم السياسي بالحصانة القانونية! فيصبح قوة مادية لها اذرع ورؤوس كأفعى (الهيدرا) التي كلما قُطع رأسها، خرج رأسين مكان الرأس المقطوع! حتى صار الفساد ثقافة اجتماعية وسياسية، فما أن يتسلم شخص ما منصب أو سلطة أو مال عام حتى يسارع للاختلاس والرشوة والمحسوبية وكأن هذا ديدن كل مسئول عراقي؟ إلا الاستثناء القليل، حتى أن كثير من الناس لا يعترضون على السرقة من الوزراء لكن بشرط ترك شيء ولو قليل للشعب! والغريب إن النزيه يكون هو الشاذ ومحط سخرية همسا فيسمى (من أهل الله، يخاف الله) أو (مخنث أو غشيم أو خواف) بينما الفاسد يسمى (سبع، ﻨ-;-ﭽ-;-ر، لوتي، ابو درب، بايع ومخلص) وهي كلها تعني شطارة وحنكه! وقد يُحارب من شبكات الفساد والمتنفذين الفاسدين إذا صار النزيه عقبة في طريقهم، فينحوه من منصبه أو يكيدوا له مكيدة! مع ذلك الكل يدّعي بالنزاهة علنا! وقد بُحث الفساد كظاهرة كثيرا إلا إن الشخص الفاسد لم يدرس نفسيا إلا قليلا؟ باعتبار إن الفاسد هو نتاج الظاهرة وليس مصدرها، إلا أني أرى إن دراسة شخصية الفاسد يضيف للظاهرة ويزيد في فهمها، وهذا ما سأبحثه في الفساد الإداري والمالي من منظور الفاسد نفسيا.
لماذا يكون الشخص فاسدا؟ هل الفاسد شخص مريض؟ أم قليل الأخلاق والدين؟ إن الفاسد شخص يعيش معنا وليس له وجود مجرد في الذهن، لهذا علينا معاشرته والاحتكاك به لدراسته مباشرتا، ولا بد إن كل شخص عاشر أو احتك بفاسدا في وظيفته وهم كثيرون طبعا وبلا حسد، فالفاسدون حسب ملاحظاتي عنهم وتجربتي مع بعضهم لأنهم زملائي بالدوام، ودودون، ذو أخلاق وأدب بالتعامل مع أقرانهم، غالبا ما يلتزمون بالطقوس الدينية، وبعضهم أصحاب شهادات بكالوريوس أو دبلوم، يتكلمون بالحلال والحرام وينتقدون الحكومة على فسادها! ملتزمون أخلاقيا في حياتهم المدنية! وليس هناك أدنى شك أنهم أناس أسوياء كالآخرين، لكن تبقى أموال الحكومة وممتلكاتها خارج هذه الاعتبارات الأخلاقية والدينية، وبحسب نقاشاتي مع بعض الفاسدين عن سبب الفساد بالدائرة دون أن أحسسهم أنهم المقصودون، عللو انتشار الفساد بفساد الحكومة وغياب العدالة والقوانين الرادعة؟ فإذا كان الفاسد له ضمير وأخلاق وتحصيل دراسي، فهل هذا يعني إن كل إنسان ممكن أن يكون فاسدا؟ إذن ما الذي يجعل بعض الناس فاسدون دون سواهم؟ وما الذي يميز الفاسد عن الأسوياء إذا كان مثلهم، لماذا لا يمنعه ضميره وأخلاقه ودينه كالبقية؟ إن الفاسد إنسان سوي لكنه يتحايل على ضميره وعقله باللاوعي بشرعنة المحظور والحرام، فهو لا يعتبر نفسه فاسدا؟ ويزعل كأي إنسان إن لقبته بهذه الصفة؟ ذلك إن له حيل نفسية لاواعية تجعله لا يشعر بفساده عبر شرعنته أخلاقيا (أي جعله شرعيا)، لذلك يبقى الفاسد إنسان ملتزم دينيا بالعبادات، خلوق في حياته العامة لا يشعر بالذنب على فساده، لهذا يبقى على حاله دون تغيير ما لم تطاله القوانين العقابية، فقد اكتشفت إن لكل فاسد مبررا لفساده، وإن لكل فاسد يعوض ضميره عن فساده، وأن للفساد مفردات خاصة متداولة، بدون أن يعلم الفاسد بهذه الطرق لأنها من مصدر نفسي لاشعوري؟ إن للفاسد حيل نفسية لممارسة فساده بشكل طبيعي ليتجاوز تأنيب الضمير والتحريم الأخلاقي والديني بشرعنة الحرام، وهذا حجر الزاوية في شخصية الفاسد بتصوري، وهذه الحيل النفسية هي (التبرير)، (التعويض)، (تحريف مسميات الفساد)، فحيلة (التبرير) أي أن يقوم الفاسد بتبرير فساده فيتحجج بالعوز أي بعدم كفاية الراتب مهما كان مرتفعا (بعد أن يخفي المبلغ عن الناس) بحجة الغلاء أو الديون أو الإيجار أو إعالته لأسرة كبيرة، أو يتحجج بانتشار الفساد، بحجة أن الحكومة فاسدة قائلا (راس السمچة خايسه) أو (بقت عليه) أو (حالي من حالهم) وهذا الفساد يأتي من التأثر بالظروف المحيطة والتعلم من الفاسدين الكبار فيصبح سلوكه مقبولا لديه ولغيره لكونه جزء من ظاهرة الفساد المنتشرة بشكل شبكي عمودي؟ وهناك من يدعي إن المال لا يستفيد منه بحجة أنها سريعة التبذير! ولا يجمع منها أي شيء! وسمعت عن مرتشي كان يبرر رشوته بأنه يخصصها للسجائر التي تمرضه ويعزلها عن أمواله الحلال كما قال!! أما حيلة (التعويض) فإن الفاسد يعوض فساده بممارسة الطقوس والعبادة أو عمل الخير كمساعدة الفقراء والتبرع لبناء المساجد والمؤسسات الخيرية، لتعويض الذنوب بالحسنات، وقد لا حضت أن أكثر الفاسدين مواظبون على ممارسة العبادة أو الطقوس الدينية، ويجب الإشارة هنا إلى أن الفاسد لا يتخذ من الدين كغطاء كما يتصور الناس بل لخداع ضميره أولا، وإلا لمارس العبادة والطقوس أمام الناس فقط وما التزم بها بخلوته وهذا خلاف الواقع حيث الفاسد ملتزم بالعبادة والطقوس بصدق، أما حيلة (تحريف مسميات الفساد) فهو ما جعل للفساد قاموسا شفهيا معروفا يمنحه شرعية، فالذي يدفع الرشوة لتمحى غياباته يسمى (تبرع)! والفرق واضح جدا بين الرشوة والتبرع، حيث الأولى للمصلحة الشخصية على حساب الآخرين، في حين أن الثانية هي الإيثار من أجل الآخرين، وإذا كانت الرشوة عينية تسمى (هدية)! في حين تمنح الهدية الحقيقية دون مقابل؟ والذي يأخذ الإجازة بالرشوة أو تمحى غياباته يسمى (طار) أو (فضائي)! بدل المتغيب عن الدوام، أو الفاسد إداريا، أما الذي يأخذ الرشوة أو يسرق فتسمى غنيمته (المالات) أو (البضاعة) ويسمى صاحبها (تمساح) أو (حوت) وهذا كله لمنح الشرعية بتحريف المسميات لفعل غير شرعي قانوني وأخلاقي، وقد يبدوا إن هذا التحريف لمسميات الفساد الغرض منه سرية الفعل، لكن الحقيقة إن الغرض منه هو التحايل على الضمير بالأساس بتحريف مسميات الفساد، وبدليل أن الفاسدون يستخدمون هذه المفردات حتى مع أصدقاءهم في خلواتهم.
لكن ما الذي يجعل الفاسد يمارس الحيل النفسية للممارسة فساده الإداري بسهولة بدون أن يحدث هذا الفساد في حياته العامة مع أصدقائه وأقرانه؟ إذ أصبح الفساد يمارس بمعزل عن التزامات الفرد الأخلاقية والقانونية والدينية، عن طريق الحيل النفسية، ذلك إن الانتماء للحكومة من الأساس ضعيف يتقدم عليه الانتماء العشائري والديني، إن المواطن لا يزال يشعر بعدم انتماءه للحكومة حتى بعد انتخابها بسبب فسادها أو طائفيتها أو ظلمها أو استبدادها، ولأنه لا يزال مقيد بالعشيرة التي تحدد انتمائه بالدم، لهذا نسمع الموظفين يعللون سكوتهم على الفاسدين بعبارة (قابل مال أبويه) أو (آني شعليه) أو (مال عمك ما يهمك)، لهذا ينظر الفرد للحكومة بحذر وريبة ولا يلجأ إلى قضائها لحل مشكلاته بل للعشيرة وعلاقته بها قائمة على المصلحة والخوف والتملق فقط وليس قناعة متبادلة من الحقوق والواجبات؟ والحقيقة أن السكوت على الفساد هو بحد ذاته مشكلة أخرى، وهو فساد من نوع آخر، لأن الناس تعتقد بالعقاب الرباني للفاسد، معتقدين إن أمواله سريعة التبذير قائلين (ما بيهن بركة) (مال اللبن لل لبن) (مال حرام للحرام) (تطلع بعائلته لو بصحته)! وهذا العقاب لا يتضمن تعويض الخسائر والأضرار التي سببها بالمال العام.
فساد المواطن أيضا هو انعكاس وامتداد لفساد السلطة وهو تحصيل حاصل بعد ضعف الانتماء وبتراكم السنين أصبح الفساد عادة شبه طبيعية موجودة حتى لو تغيرت الظروف التي أوجدتها، حتى سمي الفاسد ب(السبع) و (اللوتي) أي الذكي الماكر وهذا يعني إضفاء الشرعية الاجتماعية علنا على الفساد وهذا اخطر ما في الموضوع؟ فالبقشيش والهدية والإكرامية التي تعطى للموظف لمجرد القيام بواجبه الطبيعي بسرعة أو التجاوز على السياقات القانونية أو كما يقال (تسهيل أمر) أصبح من الأمور اليومية المعتادة التي نشاهدها في الدوائر الحكومية وأصبحت الناس هي من تبادر بإعطاء الرشوة من ذاتها في أحيان كثيرة؟.
هذه المقالة بمثابة مدخل لفهم نفسية الفاسد إداريا أو ماليا، ولا تفسر كل الأسباب النفسية للفساد هذه الظاهرة العالمية، وقد أسميتها (الحيل النفسية) لأنها التحايل على الضمير بتشريع الممنوع والمحظور فيصبح فعله مشروعا ومقبولا، ولأن هذه العمليات تجري في أللاوعي، ويجب الإشارة إن هذه الحيل النفسية تنشط في الظروف الموضوعية كالفقر والظلم والجهل والاغتراب وانعدام المحاسبة وتفشي الفساد وضعف الرقابة والقوانين الرادعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*بينما كنت أقف في الطابور المزدحم والمتدافع كما هي عادة المجتمع العراقي الذي لا وجود فيه لثقافة الطابور أصلا، لاستلام راتبي خرج أحد المنتسبين كالبقية يعد راتبه مرارا وتكرارا حتى تأكد إنه استلم راتبه ليس ناقصا أو كاملا وإنما فيه زيادة قدرها 300 ألف! بدون وجود أي علاوة أو مناسبة تقتضي زيادة الراتب؟ وإنما كان بسبب خطأ في الحساب من المسؤول عن توزيع الرواتب، عندها بادر الرجل بإرجاع المبلغ الزائد فورا إلى هيئة الرواتب، فلاقى استحسان الواقفين بالطابور، لكن المفارقة إن معرفتي الشخصية بهذا الرجل انه لا يداوم بالدائرة نهائيا إلا لاستلام الراتب فقط!؟ إذ يدفع جزء من راتبه رشوة (لجهات ما) تقوم بمسح غياباته وإعطائه إجازة رسمية! والسؤال إذا كان هذا الفاسد إداريا يبيح لنفسه كسب مال الحكومة بطرق غير شرعية لماذا يعيد هذا الراتب لها في هذه الحالة الاستثنائية؟ لهذا رحت ابحث في تفسير هذا السلوك، وعندها استنتجت إن هذا الشخص حين أرجع الراتب الزيادة، كان من حيلة (التعويض).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منظومة الصحة في غزة الأكثر تضررا جراء إقفال المعابر ومعارك


.. حزب الله يدخل صواريخ جديدة في تصعيده مع إسرائيل




.. ما تداعيات استخدام الاحتلال الإسرائيلي الطائرات في قصف مخيم


.. عائلات جنود إسرائيليين: نحذر من وقوع أبنائنا بمصيدة موت في غ




.. أصوات من غزة| ظروف النزوح تزيد سوءا مع طول مدة الحرب وتكرر ا