الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي بالخلود في زمن الحرب والمأساة

موسى ديروان

2014 / 8 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


غالباً ما تنجح أزمنة الحرب القلقة ، في خلق حزمة من الاضطرابات التي تعصف بالنفس الانسانية لكونها تعيش حالة من التوتر الدائم بسبب ما تتسم به اجواء الحرب عادة من ضبابية تكتنف عملية التفكير بالحاضر والمستقبل، فنرى تلك المظاهر الاجتماعية التي تشبه حالة النكوص الجماعي إلى الوراء على المستوى الحضاري عموماً، وكأن الانسان البدائي –بحسب تعبير فرويد- مايزال يعيش في كل منا بانتظار أن توقظه حرب ما.
.ففي أيام الحرب، لا يعود الموت ذلك الأمر المحتمل لا الحتمي، كما اعتدنا أن ننظر إليه في أيام السلم، حيث كان الوعي حينها متنكراً بشكل كلي لحقيقة الموت و مسقطاً إياها من حساباته ومنصهراً في عادية الحياة الراكدة ، أما في زمن الاضطرابات الذي تحصد فيه آلة الموت المئات يومياً ، تتساوى في وعي المرء احتمالات الحياة والموت، فيغدو واقعه عبارة عن جدلية إلغاء بينهما، فإما البقاء او الزوال. إما انتصار الحياة أو الموت، وهاهو التراجيدي اليوناني الشهير سوفوكليس، يقف عارياً في سلاميس عام (480) ق.م، يعزف بقيثارته ألحان انتصار الحياة بعد أن كانت نهاية الاغريق قاب قوسين أو ادنى لولا البطولات والتضحيات التي بذلوها في صد الزحف الأخميني على بلادهم . إن العري هنا يرمز للولادة الجديدة، الخروج من الظلمات الرحمية للانا، حيث تستدرج الحرب الانسان ليعيد تمركزه بأشد ما يكون حول ذاته، لصد العدوان عليها من الخارج الاجتماعي بشكل عام، ثم يأتي الانتصار ليعيد اطلاقه من جديد باتجاه الحياة.ويعود الأنا للبحث عن امتداده في الوجود.
إن البطولة والشجاعة والتضحية، يمكن أن يعزوها المرء، لقدرة الوعي بالخلود على تقليص الفوارق بين الحياة والموت خصوصاً في حالة الحرب،فيغدو الوجود عندها كلاً ممتداً بلا انقطاع إلى ما لانهاية كما وأن حالة القلق الانطولوجي أو الوجودي التي يفرضها على الانسان تسارع الحدث المأساوي في عصر الحرب واقترابه منه، تزيل الساتر الذي يفصل مسرح الحياة عن كواليس الموت، وتخلط بينهما بشكل غير ملاحظ، وهذا ما يعبر عنه يوربيدس بقوله " من الذي يعرف أن ما ندعوه بالموت ليس حياةً أو العكس؟ .." ولعلها رحلة" بعيدة في المجهول" كما تمنى سقراط ان تكون، هربا من واقع اثينا المكلومة في وقته، على وقع حرب البيلوبونيز الاهلية، لذلك أختلطت أفكار الخلود بمشاعر ترجع إلى الاحساس بالذنب، الحياة التي تنسل من بين اصابعنا ولا تعود، ذلك الفقيد القريب الذي رأيناه مسجى بدمائه على الأرض، هل فقدانه إلى الأبد؟ هذا ما يكثف وعينا بالخلود إذن، فهؤلاء الذين قام الفرد بدمجهم في اناه – بحسب فرويد- لا يستطيع تقبل فنائهم تماماً كما لا يتسطيع أن يتصور زوال نفسه للأبد.لذلك تتقلص الفوارق بين الواقع وما وراءه، ومن هذا المنطق كانت قبائل الكوكويو في افريقيا الوسطى تعتقد جازمة أن أرواح الاجداد الذين قتلوا ماتزال تشارك في الحرب جنباً إلى جنب مع الأحياء.
ومن منطلق هيغلي، إن خيطاً رفيعاً يفصل بين التنكر الاساسي للذات ، وبين التماهي اللانهائي بها وطلب الموت على اعتبار أن الاخير توحد في المطلق، فالخلود من وجهة النظر هذه، ليس حدثاً مستقبلياً بقدر ماهو "صفة حاضرة في الروح" تعبر عن " القيمة المطلقة للفردية الروحية" ويبدو من غير الصحيح أن عقيدة الخلود او الحياة الازلية بمختلف اشكالها الدينية والفلسفية، ترجع إلى نوع بدائي من التفكير الميتافيزيقي، بل يمكن القول بشيء من الطمانينة ، أن مصدر هذا الاعتقاد هو عدم قدرة الانسان في حالة الوعي، على تمثّل حالة الفناء و الزوال،مهما بذل المرء من جهد لانجاح المهمة، فلا يمكن تخيل حالة سلب الوعي الكامنة في تصور الفناء، حتى ولو كان رأي المرء الفلسفي يقول بالزوال، إلا أنه لا ينجح في التعبير عادة عن الفكرة ،وهذه محاولة الشاعر والفيلسوف الابيقوري المتأخر لوكريوس كاروس حيث يقول في شعره :
ولسوف نرقد .. حيث لن نستيقظ ثانية أبداً ..
يومها تُفارق الحياة ، وتفارق الألم العميق ..
ولو حلّ بك التقدير، فأسوء مافي الأمر .. سباتٌ عميق ، وليل محيق طيب ..
(...) هناك، كل شيء ساكن في ذلك الرقاد الخالد ..
طبعاً من المعروف أن الابيقوريين- كبقية مدارس عزل الالهة - ينظرون إلى الموت باعتباره فناء نهائي ، بل الانسان غير معني اساساً بالموت – على حد تعبير ابيقورس- حيث لن يشعر به عندما يأتي فالوعي حينها لن يكون بالقوة التي تتيح له إدراك أو تعقل ما يحدث في تلك اللحظة، وبناء على أن الوعي هو امتداد الأنا المتحقق في الوجود، فغيابه لحظة الموت يعني أننا قد فارقنا الوجود قبل ان نموت وبهذا تكون مسألة الموت من وجهة نظر أبيقورس هذه لا تعني الإنسان بشيء.
لكن وكما يظهر، لم ينجح لوكريس وهو اكبر شاعر وأديب ابيقوري بالتعبير عن هذه المقولة الفلسفية في تصوريه الشعري، دون اقحام تصورات تفيد معنى الخلود السلبي، الخلود في الصمت اللانهائي ، الرقاد في ليل أزلي لا ينتهي ، الراحة الأبدية ، وبكل الاحوال ثمة صور كونية ما تزال تتنفس في شعره..
إن تبخيس الحياة بلا شك والحط من قيمتها، عقيدة حربية في الأصل، إن الحياة هنا تبدو عبارة عن وهم هش لا قيمة له بالمقارنة مع ما ينتظر المقتول في الحياة الأبدية وهذا لسان حال أوديسيوس إذ يخاطب أخيل بعد مصرعه ".. إن في مملكة الموتى نبجلك كملك فهنا أنت الحاكم .. فلما الحزن على موتك إذن؟ .."
ومع أن الوعي بالخلود هو بمثابة احساس كثيف نقاوم به فكرة الموت يومياً ونعزي به انفسنا عند فقدان الاحبة، لكن يبقى الشعور الضمني بالذنب المتولد - بحسب رأي فروم- عن كراهية الموت العامة في البشر، أقوى بكثير بحيث استطاع أن يوجد سبل السلام في العالم، لقد تولد عن هذا الألم عاطفة الشفقة والاحساس بالاخرين، ويعتبره فرويد المهماز الأساسي الذي يوقظ الضمير الأخلاقي بعد كل سبات طال أو قصر، وشعاره الأول منذ أن وجدت القوانين والدساتير : لا تقتل !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: اتهامات المدعي العام للجنائية الدولية سخيفة


.. بعد ضغوط أمريكية.. نتنياهو يأمر وزارة الاتصالات بإعادة المعد




.. قراءة في ارتفاع هجمات المقاومة الفلسطينية في عدد من الجبهات


.. مسؤول في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي يعترف بالفشل في الحرب




.. مصر تحذر من أن المعاهدات لن تمنعها من الحفاظ على أمنها القوم