الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموهبة الشعرية - بحث في أصولها و معناها

عادل عبدالله

2014 / 8 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



(ان الحس هو الكينونة الداخلية للكلمة، وان الكلمة هي الوجود الخارجي للحس).
ميرلو بونتي – فينومينولوجيا الادراك الحسي
(ان اللا شعور مبني كبناء اللغة)
- لاكان -
يدّعي العلم بوصفه ميداناً معرفياً ذا طبيعة بحثية خاصة تعتمد الملاحظة الحسية والتجريب منهجا، حق بحث موضوع الموهبة الشعرية في وسطه المعرفي ومن خلال مفرداته العلمية المادية وحدها.
ولعل هذا الامتياز الذي يعقده العلم لنفسه في موضوع بحثها يستمد مسوّغ وجوده وتبريره من طبيعة النظرة التجريبية التي يسم العلم بها موضوعاته بشكل عام والتي يفترض ويريد ان تكون الموهبة ضمنها، كونه ينظر اليها بوصفها احدى القدرات الفائقة التي يعزى تفوقها واختلافها الى حجم الدماغ وبعض الخصائص الفسلجية للجسد البشري والبيئة المادية التي يوجد فيها.
من جانب آخر، وفي اداء يحمل نبرة اليقين ذاتها، ينسب كلّ من الدين وعلم النفس الموضوعة والحق ذاته اليه، بل وصلاحية بحثها في ميدانه الخاص وحده دون سواه، فالموهبة -على وفق المنطق الديني- بدءاً باشتقاقها اللفظي، مروراً بمعناها وحقيقتها هي (هبة) منسوبة بامتياز مطلق الى الله تعالى، الأمر الذي يستلزم ان يكون عالم الغيب وحده هو ميدان بحثها مثلما يستبعد الالزام هذا في الوقت ذاته كل ميدان معرفي آخر يقدم دلائل انتسابها اليه.
فأي من الميادين تلك، هو ميدانها المعرفي الخاص ببحثها، الميدان الذي تنتسب له حقاً، وما هي البراهين التي سيجري اعتمادها بوصفها مبررات كافية لاقصاء الميادين الاخرى وبيان عدم مناسبتها لبحث الموضوعة ذاتها؟
هذا ما سنشرع بالاجابة عنه في هذا المقال الموجز.
ينبغي القول اولاً، بأن ميدان علم النفس، وهو الوسط المعرفي الذي سيجري اختياره لبحث موضوع (الموهبة الشعرية) لكونها تنتسب له حقاً، يميّز نفسه عن سواه من الميادين العلمية ، بخصائص ذاتية وبدرجة اختلاف واضحة، تمنع وتحول دون ضمّه او درجه تحت ذات التصنيف العلمي بمعناه التجريبي الشائع، اعني ان هذه المقالة تتبنى في موقفها من البحث، النظرية القائلة بوهم وجود (علم نفس علمي)، الأمر الذي يسوغ لنا ان نفرق من خلاله بين ميدانين لبحث (الموهبة الشعرية) ،، هما ميدان علم النفس بدلالته : على دراسة النفس البشرية بكل ابعادها الداخلية والخارجية، وميدان العلم قدر تعلقه بالموضوع وتفسيره لظاهرة الموهبة من خلاله، بوصفها نتاجاً لعلاقات فسلجية تخص الدماغ.
اذن فنحن هنا في الوسط المعرفي الذي سيتحدث عن الموهبة الشعرية من خلال وعي علم النفس لها، بعد مغادرتنا لميدان بحثها في الوسط الديني اولاً، وبمسوغ من القول مفاده، ان نسبتها الى عالم الغيب يعني اغلاق ملف بحث المسألة عند حدها النهائي هذا، بعد التسليم بكونه مصدراً مطلقاً لها بحيث لا يصبح من المعقول ملاحقتها وتأصيلها في عالم المجهول ذاك، ثم تقويله والكلام نيابة عنه سبيلاً لفهمها.
اما مغادرة الوسط العلمي وتجريده من حق بحثها فانما يتم لنا عبر اسباب عديدة، اهمها القول، بخصوصية وضع الموهبة الشعرية وبتفردها نوعاً، باختلافها اصلاً وطبيعة وتكوينا عن كل المواهب البشرية الأخرى، متمثلاً هذا الاختلاف بامتياز امتلاكها لعنصرين لا وجود لهما – أي لتداخلهما - في اي من المواهب الاخرى هما، اللغة والشعور، اي العنصران اللذان ينتسب لهما علم النفس كامل مهمة تشكيل وبناء النفس البشرية.
حتى اذا اردنا عبارة اكثر ضماناً في صحتها وأقلّ تطرفاً في ادعاء اختلاف الموهبة الشعرية، قلنا، بأن نسبة المواهب الاخرى الى احد اعضاء الجسد او الى علاقاته الفسلجية وحجم الدماغ -كالموهبة في الرياضيات مثلاً- تتم بثقة وضمان اكثر من القول بنسبة الموهبة الشعرية للأسباب ذاتها، اي حجم الدماغ وعلاقاته الفسلجية، ذلك، لان الموهبة الشعرية لا (مكان) محدداً لها يمكن ردّها اليه، بذات المعنى الشبيه الذي نستطيع خلاله ان نرد موهبة الصوت الجميل الى مكانه في الحنجرة او الركض فائق السرعة الى موضع الساقين،
بعبارة اخرى، نقول، اذا كانت الحنجرة هي مصدر موهبة الصوت الجميل وكانت الساق علة موهبة العدو السريع، ثم كان حجم الدماغ وعلاقاته الفسلجية مصدر التفوق العلمي (الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات) فان الموهبة الشعرية بلا مصدر واضح محدد في مجمل الجسد يمكن الاشارة اليه على انه المكان الذي تصدر عنه.
لكن، أيعني مثل هذا القول بنفي مكانها، اننا نريد نسبتها الى العالم الآخر وحملها عليه بوصفها هبة الهية مقدمة من المصدر المتعالي الذي لا سبيل لنا الى معرفة اسراره، وهذا ما يعطل ارادة فهمنا الأرضي لها؟
أم نريد القول بمجهولية مكانها (هنا) وضياع مصدرها بين قوى النفس والجسد، بين وعي الانسان ولا وعيه؟
أحسب هنا، ان فرصة القول باشتراك العلم والدين في بحث موضوع الموهبة وفهمها بشكل عام ودونما اي تعارض بينهما، اصبحت ممكنة ومناسبة.
أعني ان الصوت الجميل ليس هو بحد ذاته موضع الهبة، انما هو نتاج لعلة سابقة عليه هي الحنجرة، تماماً مثلما لا يصح النظر الى التفوق الرياضي بحد ذاته على انه هو الموهبة، لأنه معلول بهذا التفوق لحجم الدماغ نفسه، الأمر الذي يمكّن من القول بان حجم الدماغ،، طبيعة تكوين الحنجرة وقوة تركيب الساق، هن ما يمثل الموهبة على وجه الحقيقة وليس النتاج الذي يتخارج عن هذه المصادر، ولما كانت هذه المصادر، الحنجرة، الساق، الدماغ، اعضاء لا علاقة للانسان بتكوينها، ولم يتم له اختيار نوعها وتركيبها بارادة منه، انما هي هبة الهية أو طبيعية ممنوحة له بشكل مطلق، اصبح القول بنسبة الموهبة الى عالم الغيب صحيحاً وممكناً، مثلما اصبح القول بالتقاء الدين والعلم في اقتسام موضوعها وانتسابها اليهما وفهمها من خلالهما معاً صحيحاً وممكناً ايضاً، حيث ينسب الى الاول منهما – الغيب- عنصر الايجاد والانشاء والتكوين في حين ينسب الى الثاني- العلم- اجراء فحص هذا العضو الموجود، معاينته وتفسير الظاهرة التي تنتج عنه ثم تأصيلها ومعرفة سر صدور هذا التفوق، الموهبة عنه، وعند الحدود الفيزيقية للفهم حسب.
لكن، لم هذا الاصرار على اختلاف الموهبة الشعرية، و على تفريقها وعزلها عن مجمل المواهب البشرية الاخرى، وهل هي في حقيقة امرها مختلفة بالفعل ؟
يبدو ان الطبيعة اللغوية التي تتظاهر الموهبة الشعرية عبرها وتعلن عن نفسها من خلالها هي ما يحمل اللغز كله، كونها المسألة التي لا نجد مثيلاً لها في اي من وسائل تظاهر المواهب الأخرى، وهو الأمر الذي يسبب بالتالي تفردها واختلافها.
حتى اذا كان ثمة اعتراض يمكن ان يقدم باسم الدفاع عن الموهبة في علمي المنطق والرياضيات من حيث كونها متظاهرة ايضا عبر نوع من اللغة الرمزية العالية، قلنا، ان لغة الرياضيات والمنطق هي لغة تجريدية محايدة صماء تنجز بمعزل كامل عن ايما نوع من الشعور والعاطفة يمكن ان يصاحب انجازها،،
انها لغة لاحقة وضعت بعد كمال نمو النفس البشرية وليس قبل او في تزامن معها، على خلاف اللغة الشعرية المسكونة بالوجدان والحس والانفعال حد تماهي احدى الخصيصتين – اللغة والشعور- في الاخرى، يقول (ميرلوبونتي) في كتابه (ظاهريات الادراك الحسي) متحدثا عن هذه الحقيقة التي تسم اللغة بوجه عام، (ان الحس هو الكينونة الداخلية للكلمة، وان الكلمة هي الوجود الخارجي للحس).
اذا فخصوصية الموهبة الشعرية تتمثل في كونها، تمثل وتنطوي على عنصرين كليين يمثلان -من وجهة نظر علم النفس- كامل الكيان النفسي للانسان هما اللغة والشعور،، حيث يكون نموهما متزامنا في نفس الطفل، وحيث تختلط الكلمات بالحس في اول امرها،،
فكلمة (ماء) مثلا وهي احدى الكلمات المبكرة في قاموس لغة الطفل، ليست كلمة بقدر ماهي حس، شعور وحاجة الى الماء، وهكذا هو حال كل الكلمات الاولى،، حال الاصل الذي سيشرع نمو الطفل بالابتعاد عنه معرضا وحدة الحس واللغة الى حال من فك شدة الارتباط بينهما كلما توغل الطفل في نموه النفسي، اي كلما جرى تعلم المزيد من الكلمات من دون ان تكون هناك حاجة حسية مرافقة لها يمكن ان تعبر عنها، وهكذا حتى تبلغ الوحدة انفاصلها الكامل في اللغات الرمزية، اللغات التي لا حس بها ولا عاطفة ابداً، لغتي الرياضيات والمنطق مثلاً.
وهنا تجدر الاشارة الى ان هذه التحديد لا يشمل باي حال (لغة) الموسيقى كونها تتألف من رموز لاصوات حين تكون لغة الرياضيات بكماء لا صوت لها ولا ترمز لصوت.
اذا فثمة وحدة بين الحس واللغة في البنية النفسية للطفل، ينزع النمو الى فك ارتباط مكوناتها بعد تمكن المشاعر الاولية الاساسية للطفل من التعبير عن طبيعتها بواسطة اللغة بحيث يصبح المزيد من التعلم، خبرات مضافة الى عقل الطفل وليس الى مشاعره الاساسية المرتبطة بحاجاته مثلما يصبح العقل هو المتحدث باسم هذه الرغبات وليس الرغبة المباشرة كما كانت تعبر عن نفسها بواسطة الحس، أي ان العقل سينتقل هنا من (اللغة التصويرية الى لغة الفكر الرمزية) للتعبير عن عالم النفس، كما يرد في دراسة للدكتور مصطفى صفوان -مجلة الفكر العربي المعاصر-.
غير ان هذه البنية النفسية الاولية للطفل والتي يعزو اليها علم النفس كامل الاسباب في البناء الشخصاني للفرد في ما بعد، هي من القوة والتماسك والحضور، بحيث يصعب تجاوزها او اهمالها او نسيانها، لذا فانها تبتكر على الدوام وسائل الدفاع عن حضورها، وبقائها هناك في المكان الاثير المسكون بالحنين ما بقي الكائن حيا، متخذا حضورها هذا اشكالا شتى للتعبير عنه،، مرضيةً احيانا كما في بعض حالات العصاب والذهان لدى بعض الافراد ،او اشكالاً سوية كما في عالم الاحلام الواسع العظيم لدينا جميعا.
ولعل دفاع هذه البنية النفسية الاولية عن نفسها ومكانتها تجد مصداقيتها في نظرية (لا كان) النفسية القائلة بمسؤولية اللغة عن تكوين البنية اللاشعورية للفرد، وان لا وعي الانسان يتشكل بطريقة شبيهة بتركيب اللغة،، يقول لا كان (ان اللا شعور مبني كبناء اللغة) -التحليل النفسي من فرويد الى لا كان ص41-.
من هنا كانت هذه البنية النفسية الاولية حاضرة ابداً، اي كانت اللغة الحسية التصويرية حاضرة ابداً، في النوم واليقظة، في وعي الانسان ولا وعيه، بعبارة اكثر دقة، انها حدث تاريخي في حياة النفس الانسانية، حدث يرافق تشكيلها الاول ولا ينتهي الا بزاولها.
لكن اثمة صلة حقيقية، أو شبه من نوع ما بين اللغة الحسية التصويرية الاولى للطفل وبين اللغة الشعرية المسكونة بالانفعال للشاعر؟
لاريب في القول بان الشعر هو نشاط نفسي يقوم على تأمل قوى النفس وملكاتها العاملة، انه تراء وتحديق طويل في مشاعرها وحاجاتها الروحية، سبيلا لاشباعها عبر نوع من التخارج، تتولى خلاله اللغة تصوير هذه الحاجات -المشاعر ومسكها في صور (حسية -لغوية)، انه استبطان صامت، توغل في عالم الذات اللامتناهي، يقوم على مبدأ الحذف والسلب، حذف الشائع المعروف منه، حذف لغته الشائعة التي يشترك والاخرون بها، سبيلاً لاظهار لغته الخاصة، اللغة الاولى المشبعة بالحس والمنغلقة على كلماتها الاولى في ذلك العالم الحي الذي لا نستطيع مغادرته ابداً، الامر الذي يمكن من القول هنا بان الشاعر باستحضاره الحسي الصوري للغة - وهذا هو الاصل النفسي لتكوين الصورة الشعرية- يحاول العودة بها الى اصلها، اي الى العالم الذي كانت اللغة متحدة بالحس خلاله،، ومن جانب آخر لما كانت (الذات) خرساء مستلبة في (الأنا) وليس بوسعها ان تتكلم الا من خلالها، اي من خلال لغة الاخر، اصبح القول ممكناً وصحيحا اذ ينظر الى (الصورة الشعرية) - بما هي عليه من حيث كونها حالة مصورة في لغة- على انها تمثيل عميق وصحيح لعلاقة الذات بالأنا، الفرد بالآخر، ،،الصورة بدلالتها على خرس الذات وعدم قدرتها على الكلام، واللغة بدلالتها على الأنا الناطق باسمها والمستعار لها من الآخر للتعبير عن حاجاتها. هكذا سيصبح بالامكان القول بان الموهبة الشعرية التي يُعرف المرء من خلالها شاعراً، تجد انموذجها المصغر وشكلها البدائي في علاقة الطفل بمحيطه الاول، هذه العلاقة التي تجمع بذاتها عنصر تكوين النفس البشرية، اعني الشعور الذي يستمده الطفل من الداخل، واللغة التي تتأتى له من الخارج لتتحد بهذا الشعور وتتماهى معه داخل عالم الطفل في وحدة اسمها (النفس) هي تداخل قدري لا ينفصم، تعني خلاله الاشارة الى احد العنصرين اشارة الى الآخر.
لكن أليس الشعر هو مركب اللغة والشعور، تماما كما النفس البشرية - بوصفها موضوعا لعلم النفس- هي نتاج لهما معاً؟ اليس الشعر العظيم هو السعي لتمثيل مشاعر النفس وحاجاتها الروحية عبر اللغة، سعياً يبلغ كمال نوعه حين تتحول لغة القصيدة ذاتها الى مشاعر ماثلة في الخارج وقائمة بذاتها؟
فأي من مواهب البشر يمكن ان تحظى بمثل هذه المنزلة الكلية في التعبير عن الذات؟
احسب ان هذا التساوي الذي نود توكيد نوعيه، بين القصيدة بوصفها لغة وعاطفة، وبين النفس التي هي مركب الشعور واللغة، امر يمكّن من القول:
بأن الشاعر هو ممثل النفس البشرية والناطق باسمها، انه المخلوق المسكون بارادة البقاء معها وبالتعبير عنها على وفق حقيقة تكوينها، اي عبر التمظهر الخارجي لها في القصيدة، بايجاز شديد، ان الموهبة الشعرية هي الشكل الخارجي الذي تتجلى به النفس البشرية وتعبر عن بنيتها الأصيلة وداخليتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ألعاب باريس 2024: اليونان تسلم الشعلة الأولمبية للمنظمين الف


.. جهود مصرية للتوصل لاتفاق بشأن الهدنة في غزة | #غرفة_الأخبار




.. نتنياهو غاضب.. ثورة ضد إسرائيل تجتاح الجامعات الاميركية | #ا


.. إسرائيل تجهّز قواتها لاجتياح لبنان.. هل حصلت على ضوء أخضر أم




.. مسيرات روسيا تحرق الدبابات الأميركية في أوكرانيا.. وبوتين يس