الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الأسطورة ونشأتها

جمان حلاّوي

2014 / 8 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مفهوم الأسطورة ونشأتها

جُمان حلاّوي

كان الغموض يطارد الإنسان أينما حل وبسبب من نضوج عقله وقابليته على الاستنتاج والتحليل المستقبلي لمصيره بدأ يضع حلولا ً عن كيفية خلق الكون وخلق الإنسان ، ولماذا الحياة ، وما معنى الموت في أن يفقد إنسانا ً كان قبل لحظات قربه يشاركه في كل شيء . هذا النضج الفكري هو النقطة الفاصلة العظمى التي ميزت الوعي البشري عن الانتباه الآني للحيوانات الأخرى ، فبدأ بوضع حلول ترضيه وتقنعه وتهدهد نومه وسكينته فلم يجد إلا الأسطورة حلا ً مقنعا ً بعد أن كان لا يمتلك شيئا ً من الأدوات والوسائل المعرفية لاكتشاف الحقيقة . وفي الواقع أن الاكتشافات لم تأت هبة أو هدية بل هي تواصل معرفي ابتدأها الإنسان بابتكاره الرمزي في السحر ، وتطبيقه كطقوس فعلية تحاكي المحيط الضاغط . ومن ثم تكوينه للأسطورة لينضج ذهنه وتتطور أساليبه لغور الحقيقة فيبتدع مفاهيم أرقى وأكثر قربا ً، حتى ولوج الفلسفة ودحض معطيات الأسطورة ذاتها .
فالأسطورة لم تنشأ مع نشوء الوعي في حقب الكهوف والتشرد إبان فجر التاريخ ، الأسطورة هي واقع استقرار لذا لم تظهر ولم يبتدعها الإنسان إلا حين كان هادئا ً هانئا ًمستقرا ً في مستوطناته ضمن مساكن داخل قرى، تحيطها الحقول فكان هناك الخيال المبدع .
إنها انجاز عهد الثورة النيوليثية ( العصر الحجري الحديث ) الزراعية ، إذ لم توجد أساطير وقصص مرسومة أو مدوّنة في عهد ما قبل الزراعة والاستقرار، فالاستقرار قد ابتدع الخيال الخصب وبالتالي الكتابة المرمزة وتسطير أجمل القصص والحكايات الأسطورية ذات الإيقاعات الشعرية التي تتغنى بها الشعوب حتى الآن .
ومن هنا نستطيع القول أن العصر النيوليثي ـ المتأخر منه ـ هو عصر الخيال والإبـــــــداع والأسطورة ؛ وهو عهد جديد كل الجدة على حياة الإنسان في استقرار الأرض جيولوجيا وما صاحبه من تفكير الإنسان نفسه في الركون نحو البقاء وتشييده تجمعات قروية بعد أن توفرت له أسباب ذلك من حيوانات مدجنة ، واستغلال الأرض في الزراعة ، وبالتالي ابتكاره للرمز من اجل التفاهم وتصوير الواقع المتخيَّل . كل ذلك جعل منه كائنا ً واعيا ً متخيـلا ً مستنتجا ً مستثمرا ً ذلك في امتلاك مبدأ التغيير ؛ تغيير الطبيعة لصالحه فكان ندّا ً لها محوّلا ً إياها مطواعة بين يديه الساحرتين ، فقام برسم الصور الذهنية وتشكيلها في أشكال نحتية أو أشعار أسطورية أو رموزا ً مسمارية ورسوما ً تجريدية وكلها تصب في جانب الإبداع الرمزي الذي هو حصيلة الوعي المسبق الذي امتلكه حين انسلخ عن أجداده النياندرتال ومن أصولهم الحيوانية.
وعند الرجوع إلى الأسطورة التي كان محتواها أنّ وراء كل مظهر كوني عام أو حركة من حركات الطبيعة روحا خفية فاعلة لها ، تلك المقدرة على الخلق الايجابي ، والفعل الجبار. فملأ السماء والأرض بالآلهة مدرجة حسب تخصصها وإمكاناتها . وكان أكبرها وأكثرها إجلالا ً الإله الأعلى الذي يحرك ويدير بقية الآلهة الموكلة بالظواهر الجزئية ، والتي تحترمه وتقاد بإشارة منه فهو المسيطر على الخلق والتكوين .
ومن خلال صياغة الإنسان الذكية لقصص إبداعية تحمل رموزا ً شتى وما تحمله من علاقات متشابكة ، وما ينجم عنها من ظواهر مفتَرَضة مرئية أو محسوسة ، ظل يصوغ منهجا ً أسطوريا ً في فهم العالم لغرض استيعابه وفهم دوره من خلال ذلك .
لذلك فالأسطورة هي قصة رمزية يلعب الآلهة الأدوار الرئيسية فيها. وتتميز الجديّة والشمولية في موضوعاتها كالتكوين والنشوء والفناء والموت والعالم الآخر ( وهذا ضروري جدا ً لإنسان يدافع عن بقائه ) ومعنى الحياة وسرّ الوجود في فعل اسطوري يربط الجماعة بنظام ديني معتقدي اوجد من خلالها طقوسا ً لتفعيل التأثير الخفي للأسطورة زادت على مر العقود من قدسية الفعل الطقسي المرتبط بقدسية المؤثر الأسطوري من خلال فاعله الخفي ( الإله).
وغالبا ما تصاغ هذه الأساطير في قالب شعري يساعد على حفظها وترتيلها إثناء أداء مراسيم الطقوس ، وما لتأثير الترتيل والتنغيم الشعري على العواطف والقلوب .

إن أولى الأساطير المدوّنة في تاريخ البشرية هي الأساطير السومرية . وقد استمدّت هذه الاساطير ميثولوجيتها بعد استقرار الإنسان على ضفاف نهر الفرات وتخوم الخليج وقتذاك ، وكانت الزراعة مزدهرة وعلامات التجارة مع ساكني مدن الخليج واضحة المعالم . وكان التنصيب الإلهي لم يزل غير محتكـَر من قبل الحكام الذين يسطّرون لحظات حكمهم كما في الحضارات اللاحقة فكانت الآلهة مجردة ومرمّزة من الوجود المحيطي فكانت الحكاية السومرية تبتدئ في عملية الخلق من مادة أولية هي المياه الأولى ( نمو ) حيث تشكّل منها العالـَم ، وان ( نمو ) هذه هي رمز لكل السُدُم في السماء وكما رآها وشخّصتها عين الإنسان السومري الذكية . ومن هذا الرمز الإلهي الواحد تشكّل الثنائي الحقيقي : الأرض والسماء فأسماهما بعد أن أنجبهما هكذا ؛ الأول ( آن ) اله السماء المذكر ، والثانية هي ( كي ) إلهة الأرض المؤنثة .
ثم كانا متحدين ومرمّزين في صفة واحدة هي صفة الكون ( آن – كي ) بمعنى السماء والأرض ، فكان الإله الموحد ( انكي ) .
إن رمز التأنيث للأرض لدى هذه الشعوب كونهم عاشوا في أحضانها كأم معطاء منحتهم الدفء والأمان والغذاء من المحاصيل وغيرها . وسال من فخذيها نهرين ملآى بالماء العذب مانح الحياة والاستقرار والنمو ، انه ترميز ذكي وفريد حمله الوعي السومري في تحويل ما آل إليه الواقع المستقر والرخاء الزراعي ومن خلال اعتدال الأجواء ووفرة المياه إلى حكاية غاية في الجمال تحمل الطابع الأسري الذي ألغى من ذهنه تماما نهج البداوة والتشرد وعدم الاستقرار.
وقد اخذ العقل السومري بتشبيه آلهته كهيئات شبيهة به لكن قواها كانت اكبر ، فالكون اكبر وأكثر تعقيدا ً من مدينته إضافة إلى انه لا يحتمل الموت وإلا سيتفتت الكون وتعمّه الفوضى . لذا اعتبر المفكر السومري أن لتشغيل الكون وتوجيهه والإشراف عليه لابد من وجود مجمع آلهة يتألف من كائنات ذكية شبيهة بالبشر شكلا ً ولكنها فوق قدراتهم إضافة إلى كونها خالدة . وهي وان تكن محجوبة عن رؤية العين الفانية إلا أنها تسيطر على الكون وفق خطط محكمة .

وللعودة إلى النص التكويني السومري نلاحظ أن الإلهين التوأمين كانا في البدء لصيقين في كتلة تهيم في الأعماق المائية حتى نضجا فتزوج اله السماء ( آن ) إلهة الأرض ( كي ) فأنجبا الابن الحقيقي ( إنليل ) إله الهواء وكأن النص السومري وواضعيه لم يكتفوا بوضع الرموز في مواقعها الحقيقية في هذه الحركة المفعمة بالحياة والحنان بل قد توجت بمنح الوجود دفق الحركة والتغيير من خلال خلق الرمز الإلهي ( إنليل ) ليمثل الهواء باعث الحياة المستقبلي لما سيحدث . وأما ما حدث بعدئذ أنّ ( إنليل) قد باعد ما بين أبويه فرفع السماء إلى أعلى وبسط الأرض تحته في هذه الصورة الجنسية الحسية التي أنهت عصر الأمومة وتربع الرجل / الذكر على مقاليد الأمور لتكون الأم مجرد حاضنة تبسط نفسها وتفتح فخذيها ليفيض منها نهرين عظيمين حضنا حضارة سومر .

ونلاحظ من خلال أسطورة الخلق السومرية انه كان على عاتق الابن البكر (إنليل ) أن يمد الحياة لما سيحيا فوق هذه الأرض الحنون إضافة إلى امواهها ، فكان لزاما ً عليه أن يمنح المحصول ضوءا ً ليستمد منها لون خضرته البراقة فأنجب اله القمر (نانا ) وأنجب الأخير اله الشمس ( أوتو).

افترض العقل السومري أن إدارة شؤون الأرض لا تتم إلا بوجود آلهة ثانوية ضمن مجمع إلهي ، ولم يكونوا جميعا بنفس المستوى والأهمية، وأنهم مقسمين إلى أجيال من أبناء وأحفاد لآباء من الناحية الأسرية والامتداد العشائري الذي يظهر كتنظيم سياسي بعد حين . وان رئيس مجمع الآلهة هو إله يعترف به كل الآلهة بأنه ملكهم وقائدهم بالإضافة إلى كونه حاكمهم . ومن ناحية أخرى تم التقسيم الآخر على أساس حرفي فصانع الكون له أهمية قصوى تتدرج بعدئذ لدى الأبناء والأحفاد حتى الآلهة الصغار المسئولين عن الزراعة أو السقي أو الحصاد ..الخ
لذا كانت هناك الآلهة الصغيرة التي تدير شؤون الأرض وما عليها والتي ما أن تعبت حتى ثارت مشتكية لدى ( إنكي ) لينصفها ، ( ونلاحظ هنا ثورة الأبناء على الآباء ، وهي ثورات مستمرة من هذا الشكل دافعها التطور المنهجي للحياة نحو التغيير ) ، مشتكية إلى الأم الأولى (نمو) التي مضت بدورها إلى ابنها اله الماء والحكمة (إنكي) راجية :

أي بني ، انهض من مضجعك واصنع أمرا ً حكيما ً
اصنع خدما للآلهة ودعهم يتكاثرون ،

فدعا ( إنكي ) الحرفيين الإلهيين ( أو الأميريين كما يسميهم المفكر السومري ) المهرة ليقوموا بتشكيل البشر من عجينة من طين ، وقال لأمه (نمو ) :

يا أمي ، إن المخلوق الذي نطقت اسمه سيوجد
شدي عليه صورة الآلهة
أغرفي حفنة من طين من فوق الغمر
والصناع المهرة الأميريين سوف يكثفون الطين
وبينما تعملين على تسوية أعضائه
( نينماه) سوف توجه عملك
عندها ستقف إلى جانبك ربات الولادة
وتقدرين للمولود الجديد يا أماه مصيره
وتعلق (نينماه ) عليه صورة الآلهة
انه الإنسان

فكانت إذن أسطورة خلق الإنسان حسب الفكر السومري . نلاحظ هنا فقدان الأنثى زمام الأمور وإصدار القرار ، فالأم الأولى ( نمو ) تطلب من ابنها اتخاذ القرار ومنحها صلاحية خلق البشر ، وهو لم يقم بشيء سوى وافق لها على غرف الطين لتقوم هي ببقية المهمة ،
فقد فقدت المرأة مكانتها الأولى في قيادة التجمعات البشرية إلى الرجل. فالأم الأولى كانت تنادي ابنها السلطوي بنبرة الأم الحنون أن يمنحها الإذن بالعمل لمنح التكوينات الطينية نفحة من لدنها ليكون الإنسان الذي سيحمل عن الآلهة الثانوية عبء العمل الأرضي والذي اشتكت بسببه عندها.

إن الوعي السومري بسبب حاجته لفهم الكون وتنسيق عمله بما يتماشى مع الواقع الحالي جعل من المكونان الرئيسيان للكون هما السماء والأرض وبالفعل فأن مصطلحهم الدال على الكون هو ( أن – كي ) وهي كلمة مركبة كما هو واضح وتعني السماء والأرض . ثم أن كلمة ( ليل ) بالسومرية تعني الهواء المتحرك أو الريح لذا كان اله الهواء ( انليل ) مستعيرا اسم أبيه ( أن ) فكان اسما مركبا ً ( أن – ليل ) . وهنا نعرج عما بدأنا ببروز فرضية الأب في العلاقات الأسرية السومرية وانتقال الأنساب إلى الأب بعد أن كانت تنسب إلى الأم ، وتحول المجتمع إلى مجتمع ذكوري فالرجل سيد الأرض وسيد العائلة وهو ما سمي بالمجتمع البطريركي .
ومن هنا يتأكد لنا أن الأسطورة كترمز فلسفي واعي تجاه المحيط قد ظهرت في العصر النيوليثي ( الحجري الحديث ) أو عصر الاستقرار الجيولوجي وابتكار الزراعة ، وفي وقت سيطر فيها الرجل على زمام الأمور وتسيّد المجتمع والعائلة وظهور الاقطاعات .



المصدر : كتاب الوعي ونشوء فلسفة الترميز ـ تأليف / جمان حلاّوي
ــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 8 / 10 - 23:04 )
لا توجد (أسطوره) بل توجد (حقيقه) , (الخالق -الله-) (حقيقه) مطلقه , تابع :
- الحجة الكونية على وجود الخالق Fine-tuning & Cosmological constant :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?52146-الحجة-الكونية-على-وجود-الخالق-Fine-tuning-amp-Cosmological-constant
- نشأة الحياة الاولى بين خرافة التطور الكيميائى وحتمية الخلق والتصميم :
http://creationoevolution.blogspot.com/2013_08_01_archive.html
- التاريخ المصمم (القدر) :
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?52577-التاريخ-المصمم
أو
http://www.youtube.com/watch?v=tbqaLqhpxCM

اخر الافلام

.. تحفظ عربي على تصورات واشنطن بشأن قطاع غزة| #غرفة_الأخبار


.. الهجوم الإسرائيلي في 19 أبريل أظهر ضعف الدفاعات الجوية الإير




.. الصين... حماس وفتح -احرزتا تقدما مشجعا- في محادثات بكين| #غر


.. حزب الله: استهدفنا مبنيين يتحصن فيهما جنود الاحتلال في مستوط




.. مصطفى البرغوثي: نتنياهو يتلاعب ويريد أن يطيل أمد الحرب