الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روبن وليامز، بسمة لطيفة و رحيل مأساوي

طوني سماحة

2014 / 8 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


أضحكنا، أبكانا، أسعدنا، أدخل الفرح الى قلوبنا، حثنا على التفكير و التأمل، فاجأنا بمواقف طريفة، ثم رحل حزينا يمسح دمعة عن عينيه، و يجترع كأس الخيبة و الألم. هذه هي مأساة الحياة. هذه هي مأساة روبن وليامز.
جسّد وليامز شخصية الأستاذ الثانوي في فيلم "Dead Poets Society"، حث تلامذته على اكتشاف ذواتهم، على التأمل و نقد القيم الاجتماعية، على الغوص في مشاعرهم، على إدراك مناطق القوة و الضعف في شخصياتهم، على المغامرة الفكرية من خلال قراءة الاعمال الشعرية، و على الجرأة في مواجهة القوى الاجتماعية و الثقافية التي ترفض التغيير.

في فيلم " Mrs. Doubtfire"، لعب وليامز دور الأب الذي يحاول أن يبقى قريبا من أطفاله الثلاثة، بعد أن حصل الطلاق بينه و بين زوجته التي أعطاها القانون حق رعاية الاطفال. و عندما علم دانيال هيلارد (روبن وليامز) أن زوجته تبحث عن خادمة لمساعدتها بالاهتمام بمنزلها و عائلتها، انتحل شخصية آنسة اسكوتلندية أعادته الى البيت و أكسبته ثقة زوجته و أطفاله و أبقته قريبا منهم.

رحل وليامز الرجل الخفيف الظل، صاحب الابتسامة اللطيفة، و رجل المواقف الظريفة بطريقة مأساوية لا تعكس الإرث الذي تركه لنا في أفلامه. رحل منتحرا و هو يعاني من اكتئاب حاد و إدمان شديد و مزمن على الكحول و المخدرات. رحل يائسا و هو الذي لعب دور المدرس الذي زرع في روح تلامذته حب الحياة و مواجهة الصعاب.

لقد حصل وليامز على ما نصبو إليه جميعا: الشهرة، المال، الرفاهية، التكريم، الجوائز، العائلة. لكن على ما يبدو أن كل هذه الامور لم تملأ الفراغ الذي في قلبه و لم تعطه السعادة التي نحلم بها. فلقد فتحت له الحياة بابيها على مصراعيه و خذلته. و ليامز ضحية أحلامه التي وعدته بالسعادة و لم تفِ. هو ضحية ثقافة أهملت القيم الروحية و رفعت القيم المادية في الحياة التي و إن أشبعت الجسد، تبقى عاجزة عن سداد جوع الروح.
نحن نعيش في عصر الجفاف الروحي، عصر الفكر العبثي الذي لا يرى في الحياة معنى. هو عصر الوجودية الذي يرى في الانسان غريبا عن مجتمعه و منفصلا عن عالمه كما جسده الروائي الفرنسي ألبير كاموس في روايته الشهيرة "L’étranger". هو عصر الفيلسوف الالماني الشهير نيتشه الذي أعلن أن " الله قد مات"، فكانت النتيجة يتما روحيا جرّد الانسان من مرجعيته الروحية و تركه يتخبط بين قيم تفرضها المبادئ الاجتماعية المتناقضة في أزمنة، ثقافات، و حضارات مختلفة. هو عصر الوجودية التي لا ترى في الحياة سوى سنوات معدودة على الارض تنتهي في بحار العبثية و اليأس.

عندما تحول الغرب عن قيمه المسيحية، وجد نفسه يلهث وراء السعادة في عالم المال و السلطة و الشهرة و الانانية و حب الذات. حاول إشباع رغباته من خلال الثروة و الجنس و الكحول و المخدرات و لم ينجح. تخلى عن مبدأ الزوج أو الزوجة الواحدة و استسهل الطلاق لأبسط الامور، فكانت النتيجة المباشرة تفكك العائلة.

لقد أطلق الغرب النار على الله، لكن النتيجة ان الرصاص عجز عن اختراق حدود السماء و ان الانسان اصيب اصابة قاتلة. إثر عجز الحداثة عن توفير السعادة للانسان، قد لا نجد مفرا من العودة للاصول: محبة الله من كل القلب، محبة الانسان للانسان حبه لنفسه، تقديم الآخرين على الذات، العطاء دون التفكير في حساب الأخذ، إشراك الآخرين في ما نمتلك، المغفرة للأعداء، التحوّل من "الأنا" إلى "الآخَر"، و عدم الانصياع لرغبات الجسد في إطار الجنس غير المشروع أو الركض المحموم لجمع الثروة على حساب الضمير أو العائلة أو...

لقد رحل روبن وليامز و كم كنا نتمنى لو انه بقى معنا وقتا اطول ليتمعنا بحضوره الجميل، لكن و للأسف غلبه الاكتئاب و لم يمهله الإدمان. تعازينا الصادقة لعائلته و لمحبيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ طوني سماحة المحترم
امال طعمه ( 2014 / 8 / 14 - 09:44 )
شكرا على تلك الكلمات الطيبة بحق الممثل الراحل عن عالمنا باختياره روبن ويليامز واتفق معك تقريبا على ما اوردته في مقالك ولي بعض الكلمات حول ذلك فأنت تعزو انتحاره الى فقدانه القيم الروحية وما اسميته عصر الجفاف الروحي قد تكون بذلك مصيبا ولكن لا اعلم لماذا استذكرت كلمات العريفي حول سبب انتحاره وهو افتقاده لذه العبادة وطبعا هو يقصد من الناحية الاسلامية اعتقد ان المسألة فردية وهي ليست بالذات منوطة بالدين او التدين لقد كان مصابا بمرض الاكتئاب وحالته متأخرة وربما ما عاناه من ادمان قد ساعدت على تدهور وضعه لكن باعتقادي يا استاذ ان الشخصية المتزنة او المتوازنة والتي وصلت الى مرحلة القناعة والرضا وذات مسلك واضح ولديها قيمة متصورة عن معنى لحياتها تطرح جانبا اية ميول يائسة او بدائل عقيمة وضارة مثل المخدرات او اللجوء اخيرا الى الانتحار وقد يكون الايمان عاملا مساعدا لانه يتطلب منا الصبر على مشاكلنا واللجوء الى خالق الكون وقد قرأت مقالا بالانكليزية حول ان المبدعون هم اكثر عرضة للاصابة بحالات قد تصل الا كتئاب المرضي فاحساسهم بالاشياء ونظرتهم الى الامور تختلف عن الانسان العادي البسيط ،لترقد روحه بسلام


2 - سيدتي العزيزة امال طعمة
طوني سماحة ( 2014 / 8 / 14 - 21:09 )
شكرا لمشاركتك اللطيفة و التي دون ادنى شك تثري النقاش و تدفعنا جميعا لاعادة التفكير في الكثير من القيم التي نؤمن بها او نعتنقها. اما بالنسبة للسيد العريفي فأنا أجهل ما قاله كما انني لم اتطرق اليه لا من قريب و لا من بعيد، بل جل اهتمامي هو التركيز على ما يعانيه الغرب من
جفاف روحي يفقر الانسان روحيا و اخلاقيا مما يدفعه لطلب الارتواء في اماكن خطأ مثل الادمان
أما بالنسبة للراحل روبن وليامز انا لا اريد ان احكم عليه شخصيا او اتهامه بفقدان القيم، فالله وحده يعلم ما في قلبه. لكنني اريد ان اقول اننا جميعا ضحية مجتمع او عصر تخلى عن الكثير من قيمه مما اثر علينا جميعا سلبا
تحياتي

اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah