الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يفعله البهاضمة يتكرر – 6 -

حسين الرواني

2014 / 8 / 14
الادب والفن



بوسعي القول إن خضر لم يكن جاهلا بأمر سلامة، لذا فدخول خضر الى بيت فالح في تلك العصرية الشاتية، لم تكن هي السبب في تعارفهما، فقد كانت الاحاديث في بيت ابو فاروق، تذكرها، بل إن أم رعد عمة خضر، قالت لأختها موزة أمام خضر يوما وهو في بيت موزة التي كان يمر على بيتها بإلحاح منها ومن احسين زوجها، قالت ام رعد وقد سألتها موزة عن بيت فالح، سؤالا لم يسمعه، لأنه لم يكن لحظتها موجودا في جلستهما، لكنه دخل وسلم على العجوزين وهما آخذتان في الحديث عن تفاصيل بيت شقيقهما الاكبر فالح، وقد فات خضر من هذا الحديث شيء، وسمع الباقي:
موزة: خيي بيت فالح هم رايحة الهم؟ شايفتهم؟
أم رعد: إي دادا، رحتلهم گبل شهر، اخذت من مظفر (لا يتذكر خضر المبلغ بالتحديد، كان هذا قبل 15 عاما من الآن) ومرگت بالسوگ، واخذتلهم طماطيات ووصلة قماش، ادگ بالباب محد يفتح، تالي رفعت راسي من الحايط وشفت سلامة تكنس بالطرمة، صحت عليها: سلامة، سلامة شالت راسها وفتحت لي الباب، شبگتني وحطت راسها بحضني وظلت تبچي.

ظلت لحظة هذا اللقاء الثلاثي، بين خضر، وموزة، وام رعد، واحدة من اللحظات التي ظلت مفقسا لتساؤلات خضر وهو يفترش الارض في متنزه البلديات في حلقة اخرى من مسلسل تشرده الطويل، او يستمتع بدفء بطانية في بيت سيد جعفر، متأملا في ملايين المواقف المتقافزة في ذهنه، كان يكفي عند خضر ليحتفظ بذكرى موقف ما، ان يكون الموقف مرتبطا بسلامة ولو بشعرة.
في ليالي المخزن، وبعد أيام حادثة الدفن الثاني مباشرة، ظل خضر يتقلب ليالي وليالي، يتأمل في هذا اللقاء وغيره، وإذا كان خضر قد تعامل مع أشياء كثيرة في الواقع، وفي خاطره، بمزيج من التجريدية والسريالية، فيمكنني القول على نحو الجزم، إنه لم يكن أمامه طريقة للتعامل مع احداث الشتاء الذي قضاه في الگرغولية، الا بسريالية، سريالية عزائية فحسب.
موزة: وشلونها
ام رعد: شلونها يخيي، بالظيم، البنت غادية تراب، يا من يجي ويخلصها من فالح وظيمه.
تفرز ذاكرة خضر ما هو مهم من الاحداث، والاقوال، والاشخاص، والحكايات، وما لا يهم من ذلك كله، كل شيء يتعلق بسلامة فهو مهم، ومن الضروري له الجلوس بين فترة واخرى واستذكار كل ما يخصها من قريب او بعيد، ورغم أنه لم يتأكد فيما بعد من سبب عدم تذكره بقية الحديث الذي دار بين العجوزين يومها، إلا أنه اطمأن الى ان السبب هو عدم تعلق بقية الحديث بسلامة، وإلا لظلت ذاكرته محتفظة بنسخة صوتية من تتمة الحديث من النوع الثلاثي الأبعاد، ولهذا السبب لم يتعب نفسه في استخراج بقية الحوار من مخلفات الذاكرة الزئبقية السيالة.
في المخزن نافذة كان يطل منها رأس ضوء القمر على عيني خضر الساهرتين، كانت النافذة زجاجة بيضاء في مربع محفور في أعلى الحائط، تحت هذا الضوء في الليالي المقمرة في منتصفات الشهور، وعلى مدى شهور طويلة قبل رحلته الى مساطر السليمانية، حظي خضر بوقت طويل من الليل والنهار، للتفكير بكل شيء.
مواعيد أكاديمية الشرطة تحتاج الى كراوي، ومسطر الكبيسي أمام قدميه أنشف من شط قطعت عنه مياه الارض، ومياه السماء، لكنه متشبث بهذا الامل، لقد حاكه من يأس لا يشبه أي يأس على الارض، إنه يأس (مهدي منتظر) خاص، مطلوب في عملية انقاذ عاجلة لا تحتمل أية حماقة في التأخر، او التراخي، او التلاعب بقائمة الاولويات، عملية إنقاذ لحياته، وحياتها.
"أحبك جدا..
وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل
وأعرف أنك ....."
يتكور داخل أحشائه ألم يشبه جدا ألم من نسيهم الله في زنزانات البعثيين، ظلام المخزن، اختزال كيمائي لكل ظلامات الليل العراقي الثقيل، وكثافة الهواء ليست أقل من ضيق هذا النفق الممتد بين ثقبين في زمن الموت المتوقف على لحظة الموت فقط، الخربون هم من يعيشون في لحظة موت متوقفة، لا تتقدم الى موت، ولا تتأخر الى حياة، لحظة مستمرة من موت، مستمرة في الزمن، فقط لا غير.
يجتر هذا الليل خراطيمه التي تقطر على حواسه الست قطرانا يصيبه بالذهول، أمام مرآة لا تعكس إلا صورة واحدة، صورة سديم من مليارات الاشارات الكهروعصبية فائقة السرعة، تتبادلها مراكز الادراك، وقسم الأرشيف، وقسم الذاكرة، وغرفة العمليات الذهنية، في مخه الشره الى مضغ آلاف الافكار في دقائق معدودات.
لا شيء اسمه وقت، ولا ساعات، ولا يوم في هذا الحياة يستحق ان يستعمل خضر له اسمه الذي وضع له، لا يحتاج الى اسماء الخميس، والاثنين، والجمعة، كل الايام عنده زمان واحد سائح يحتضنه ويهرول بخاطره من بيت ابو فاروق، في الامين الثانية، ويجتاز به أماكن خمسة وعشرين عاما، بكل ما فيها من أناس، وزوايا، وأِشياء، ونسخ من خضر، تغيرت سابقا وستتغير في ما بعد كثيرا. ليؤول به إلى مكانين فقط، مكان يعيش فيه ممارسا اللطم بزناجيل من نيوب ضباع وإبر عقارب، مجبرا كل ذرة من ذرات وجوده على الانتحار، في عملية احراق ذاتي عالية الصمت والسرية، والالتزام بطقوس الشموع والبخور وتقليب الصور، ومكان آخر، يتخيل في بعض الاحيان أنه تحول الى عصفور يتلصص النظر الى سلامة وأماكنها في بيت فالح، لا شيء في هذا الزمان الا الزمان وحده.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في