الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة كتاب : تأملات الهوية والإبداع تجارب إنسان

محمد الشوفاني

2014 / 8 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فلسفة، وإبداع، وتجارب إنسان

ثلاث كلمات، ثلاثة أرقام صعبة لا غنى عنها لتَسْتَقيمَ المعادلة،
وإلاّ
ما الإنسان بدون فلسفة؟
ما الفلسفة بدون عقل إنساني مُتَبَصِّر؟
وما الإبداع بدون وجدان الإنسان وانفعاله، وهفهفة الروح الشعرية والفنية في وجوده؟
ثلاث كَيْنوناتٍ لا غنى عن بعضها، هي الأطراف الضرورية ليستقيم نمو الإنسان فلا يتعثر، هي الشاغل المتجذر الأصيل، لمن أمّنَ ضرورات العيش الأساسية من أجل البقاء.
هناك فئة من المدافعين عن هويتهم بسلاح الإبداع الجمالي، والفلسفة، وقد يتساءل امرؤٌ : هل ما يزال لهذين الأخيرين مبرر وجود؟ مَن يهتم بهما أو يشغل نفسه بمتعتهما؟، نحن في مناخات اجتماعية وسياسة متوترة لدى البعض، كارثية لدى البعض الآخر، وحتى لا ندخل في جَدَل وتعميمات عن واقع الحال الراهن، أجيب بأنني أتحدث هنا عن تجربة ذاتية فحسب، غير أن الخاص مدخل للعام في تصوّري.
ومن هذا المنظور أرى الزمان يسيطر على الإنسان فيسلبه نفسه بالتدريج قبل أن يجهز عليه حتما؛ يشرع بإسدال ضباب كثيف ساهم في نَسْجِ حياته، ثم يهوي عليه بمطارق الأدواء، يجاهد في النضال ضدها، إن كانت له قدرة، إلى أن يغلبها قبل أن تغلبه، ثم يختطف منه الأحبة تباعا إلى أن يجرده من هوياته الإنسانية، وساعتئذٍ، تتم الضربة القاضية حسب المزاج، إما بقسوة ماكرة، أو ببرودة دم، وهدوء رحيم.
وما العلاقة بموضوعنا؟
العلاقة هي الإخلاص للهوية والإحتفاء بها، والهوية متعددة الأبعاد.
وإذا كنّا نملك هويات متعددة؛ إجتماعية ونفسية وإنسانية وإبداعية، ففي سياق وجودنا نتشبت بالإنتماء لفصيلتنا، وحتى لا تندثر هويتُنا الإبداعية، نراجع أنفسنا، إذ المراجعة من صميم المنهج كما نعلم جميعا.
في هذه الصيرورة التي بدأتها منذ سنّيَّ الرابعة عشرة، واستمرت في امتداد، ثم انقطعت حركتها المتتالية، وعادت في شكل إيحاءات شعرية مُعَزَّزَةٍ بتجارب عُمُرـ بدا لي أن أخرج للنور في كتاب، بعضا من أوراقي التي كتبتها في سنوات الفكر الخصيب، حيث لم يكن لي همٌّ إلاّ التأمل الصافي في ما يدور ويتفاعل داخل النفس وخارجها.
لقد صهرت بين ثنايا هذا الكتاب، تأملات كتبتها حديثا في مطلع هذه السنة، مع بعض تأملات ومقالات أخرى، وتجارب في صيغة قصص قصيرة، إنتقيتها مما نشرتُ في مجلات وجرائد في العقود الماضية، وأعدت صياغتها لتصبح ملائمة لما جدّ في العقد الثاني، من القرن الواحد والعشرين، وربطها بالتجارب التي أتتْ بعدها.
إنّ الفائدة من العودة إلى ما فات وانقضى، هي الإطلاع على ما وصل إليه الفكر، والإبداع الفكري عامة، بين الأمس واليوم، أتقدّمنا أم تراجعنا؟ ألا نرى أن عالم السياسة يتراجع فيما حولنا؟ وتضمحل فيه مِهاد المبادئ الأولى. هنا وهناك.
ثمّ إنّ عالم الفكر لا يفوت ولا ينقضي، إنه يتطور في ذات العقل، ويتطور من عقل إلى عقل، يتلقّفه ويرفع شعلته إلى الأبعد، فإلى أين وصلنا اليوم؟
وصلنا إلى الموقف التالي :
لكي يكون الإنسان في سلام مع نفسه، عليه أن يبدع ما خُلِقَ من أجله. بهذا المعنى تحدّث أرسطو عن طبيعة الإنسان، منذ أكثر من ألفيْ سنة، وبهذا المعنى أكّدَ الأمرَ (ماسلو). تحديث الذات عنده، أو تحيينها بلغته، هو التطور الجوهري في نظام الكائن الحي، أو بدقة أكبر، هو نفسه الكائن الحي.
الموسيقِيُّ ينتج الموسيقى، الفنانُ يرسم لوحات، والشاعرُ يكتب شعرا. على الإنسان أن يكون ما خُلِقَ أن يكونه.
هذا هو المبرر الذي أقدمه بأن الفلسفة لن تموت، بصفتها اجتهادا في تصور الوجود، وممارسة التفكير فيه، والإبداع الشعري والفني عامة، لن يموت، بصفته إبحارا في سحر المجهول، وفي داخل النفس ـ مهما تنكر لهما المتنكرون. وربما لم يتنكروا لهما طوعا وإنما قهرا؛ وحتى نحافظ على توازننا قبل الضربة المحتومة التي ذكرت أعلاه، علينا أن نجدد ذواتنا. وأن نستغرق في إعادة تشكيل حياتنا.
وتحديث الذات أخيراً، هو أن يصير الإنسان بالفعل، ما هو كامن فيه بالقوة. تلك هي أقصى سعادة يمكن الظفر بها في نظري. الفلسفة والإبداع الفني، الجمالي، هما أرضية السعادة. عليهما نهضت بقية الأركان، بِهِما يتمّ التوازن.
إنّ الكامنَ عندي، والمُتَطَلّعَ للظهور، هو الإفصاح عن حياتي النفسية، بتركيب مشاعري في جمل وفقرات وأبيات. محاولا جعلها محركة للعقل والروح. وكانت البداية بين الطفولة والشباب، بالنشر في المجلة الحائطية، قبل النشر في الجرائد والمجلات.
ثم اتسعت مجالات الإهتمام الفكري والفلسفي واللغوي لِتَطال كلَّ إبداع عن طريق الكلمة.
كتبت ونشرت وترجمت، بأنفاسٍ متلاحقة وبدون هوادة
ثم توقفت واستكنت لضرورات المناخ، والتطلع لآفاق أرحب، مما يفرض طرح السؤال: ما حجم الحرية لدى المبدعين اليوم؟
أعود اليوم إلى الإبداع الجمالي، حيث أجد فيه نفسي عارية صافية من كل أدران التيه.
أجد فيه كُنْهَ الإنسان مُضْمَرًا وصريحا.
ولا تَلِذّ قراءة الإبداع بالكلمة، إلا إذا اسْتَبْطَن القارئُ أغوارَ الكاتب، فَتَماهَيْنا معه وامتزج انفعالنا بانفعاله.
ذلك لأن التعبير الجمالي، ليس منافسةً استعراضية لأكبر ما يمكن من التعقيد اللفظي، وصورِ الخيال المبهمة، إنه بثٌّ لأوسع ما يمكن من الموجات الأثيرية، لأعمقِ انفعال وأصدقِ إحساس. إنه مُناغاتٌ لِلْفَهْم وللإحْساس معا.
كيف نَرْصُد ذلك؟
نرصده عندما تُفاجئُ الكاتبَ والقارئَ حُرْقَةُ الدموع، و كل منهما في سياق مهمته؛
فالقلب يفكُّ شفراتِ الجمال الفني، ويُطلق سَراحَ المعاني والدلالات.
ولا تتمدد تخوم الإبداع بعَدَدِ الكلمات وكمّها، بل تتمدد بكَمِّ ما تفجره من شعور ـ مهما كانت سهلة وبسيطة ـ ومن إيحاءات، ومن شَحْناتٍ نفسية، وما تخلقه من عوالم، لا حدود لأبعادها وخيالها.
علاوةً على أن القراءة للنصوص الإبداعية عامة لا تُمْتِعُ إلاّ إذا أدركنا مسيرة الكاتب، صعودا وانحدارا، قبل أن نتوقف ونعيد التوقف على أسطره، لتتسرب الكلماتُ إلى أعماقنا، حرةً طليقة دون قيود مصنوعة، لا يَحْدوها ويُحرِّضُها إلاّ إيقاعُ الروح، وبلاغةُ المدلول، بِلا حتميات أخرى.
إن المُنْزَلَقَ سَهْل هنا، وعلينا أن نتوخى الحَذَر، لِنُفَرِّق بين الغموض المُتَكَلّف، الذي يستِر عجزا مّا، وبين الرموز التي يفرضها المَقام، ونَمْتطي ظهرَها بمشروعية، لتبليغ المعاني.
الغموض الذي يفرضه التأمل في الإبداع، هو حافز للخيال، إذا تمَ التّحَكُّمُ في تحليقه المُجَنَّح، وكانت تجربةُ الكاتب النفسية هي أرضيتَه. واليقين أن الصوَّر لا تتشكّل من مادة رَخْوَة في الفراغ، مجردةً تجريدا مطلقا، إنها بنت الإحساس والتجارب الحسية، مهما بلغت حُمولتُها من الأبعاد الميتافيزيقية، وأعماق اللاّوَعْي، حتى ولو سايرنا (كارْلْ يونْغْ)، بأن الأحلام هي تَذَكّرٌ لحياة عاشتها النفس، وأننا نعيش في أحلامنا التي هي بمثابة تيار من الألغاز.
أظن أنه لا مهرب من الإدراك الحسي، ورجوع الصور إلى منابعها الأولى، فالتّجْريد وحدَهُ لا يربط بين الكلمات ويُسْلِمُها كَبَناتٍ للإبداع الجَمالي.
هذا موقفي مما يبدو غموضا، وهو في الواقع ليس إلا رموزا كاشفة.
أقول لابد من الفلسفة والإبداع الجمالي غذاء لروح الإنسان؛ فلسنا أجسادا فحسب.
ينبغي بالطبع أن نكدح ونَسْعَى في الحياة لنقتات، ذلك قدَرُنا.
وليس المالُ وحده هو المخرج، ولا هو مسلك النجاة من عدوانية ما يحيط بنا.
وإذا كنا لا نجد غرابة في ابتعاد كثير من الناس عن مجال العقل والقلب، فلِأنّ الكثيرَ منا إبتعد عن نفسه.
ولنا يقين بأن هناك دائما نخبةً مستنيرة تستوطن أعلى الجبل، حيث لا زحام، وحيث الأوكسجين أنقى وأنظف.
وحَيْثُ الكتابة تكشف عن النفس بلغة مغايرة؛ إذْ إيقاعُ العَفْويّة أبلغ.
أمّا عن الفلسفة؛ فهي التأمل فيما يُمَتِّنُ أواصر المعرفة بين الإنسان وذاته، إنها تَدَبّرٌ في علاقته بما وراء الطبيعة، وبالوجود، وبكل ما هو جميل ومُلْهِم كالحرية، وكالخيال ـ الذي يجمع عناصر العالم كما نراه ونقتنع به ونعيشه ـ وكالحب، والسعادة الفردية والمجتمعية، والمساواة بين الجنسين، والعدالة؛ إنها تأمل في أنماط التفكير والسلوك والمعرفة كافة، وفي الوجود.
الفلسفة أيضا تأمل عميق في الإبداع الجمالي، ومن هنا علاقتها بالشعر، وبالصورة وبالنغمة الموسيقية وبصخرة النّحّات، وبكل ما هو مُتاحٌ لإثارة الشعور بالإنْبِهارِ والجمال والروعة، وهي تأمل في إبداعات الخيال وحقيقته المتفردة.
يظهر مما سلف ارتباطُ العقل بالخيال الإبداعي؛ فلِلْفَهْم علاقةٌ حميمية بالمخيلة، وهو تبرير مختصر لما بين النشاطين من تمازج وتزاوج.
الخيط الرابط ، أو القاسم المشترك بين كل المواضيع المنشورة في هذا الكتاب، من تأمل ، وتجارب شخصية، وقصة قصيرة، هو محاولة لمعرفة الذات، والتنقيب عن دلالة ومعنى الحياة، عن طريق التّمَثُّلِ الذّهْني، والتجربة في الواقع، كنشاطَيْن يَلُمّان الأطراف الثلاثة.
إنه "تطبيق" للتفكير في الوجود، وفي مجرى الحياة، بلغة مفهومة، وكيف تتم عملية البناء النفسي، من خلال العثرات المريرة، واللحظات الهانئة، والتخبط في التعقيدات التي يحملها معه تيار النهر، نهر تعاقب الأيام والليالي، نهر الحياة، وما يحمله في جريانه من آلام وأفراح... من عطاء... وغفلة، وفطنة.
القوة الدافعة في نهر الحياة هي التغيير، إذا لم يحدث تغيير فالنهر قد توقف.
وفي الحياة، لا يتم التغيير إلا بإرادة التغيير.
والوجود، في فهمي، هو حياة الإنسان الداخلية والخارجية، بانفعالاتها، وتصادمها مع صخرة الواقع، ومعانات العيش يوما بيوم.
ففي الجمال تفكير في وجود الإنسان الإنفعالي، الداخلي.
وفي التأمل الفلسفي، تفكير في وجود الإنسان العقلي، والفعلي. إذ لا مطلق تحت الشمس وفوق الأرض.
وفي القصة ـ وسرد الأحداث الواقعية ـ تفكير وتدَبُّرٌ في وجود الإنسان، ومشكلات عيشه اليومي، ومجاهداته، هذا الإنسان الكادِحُ المُكابِد.
في هذا الكتاب نَجِدُ تفكيرَ الفرد بصيَّغٍ مختلفة، تجمعُها التجربة الحية. ذلك لأن الحياة الواقعية هي الأرضية الصلبة ل "تطبيق" التفكير، وإلاّ بقيتْ ممارسةُ التفكير مجرد لعبة يغلّفها الغموض، وتُمارَسُ بين الجدران، على جثة هامدة، يُشَرِّحها المُغْرَمون بالتعقيد، أو المتخوفون من طرح ما يُضمرونه، في ضوء النهار.
والتعقيد في التأمل الفلسفي والشعري، وفي وجود الإنسان، وعدمُ عَرْضِ هذا الوجود في دائرة التطبيق على حياة الناس، هو مساهمة في قتل التفكير، وفي إخماد نشاط العقل والشعور، إخماد الشرارة المقدسة.
وأوجز الأمر بصيغة أخرى:
إن التعقيدات التي تتعرض لها حياة إنسان فرد، الداخلية والخارجية، والتعبيرَ عنها بشكل أدبي مبدع، هو تبسيط بلغة مفهومة، لتعقيد الفلسفة وعُقَدِها التجريدية. ولا فصل عندي بين الأجناس الأدبية، حيث إن كل كاتب مبدع، مهما حاول التّخَفّي والتعمية، يكتب سيرَتَه الذاتية، بطريقة أو بأخرى، في نهاية المطاف.
ونظرا لما سبق :
سيجد القارئ هنا تأملات في معنى الحياة ودلالاتها، في صيغة رحبة
لا تضييق فيها،
وإذا ما دقَّقَ في ما تحت السطور،
سيعثر على لَمَساتِ إنسان.
والتحيةُ الدّافِئَةُ للجميع أينما كنتم.
مراكش يونيو 2014








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينتزع الحراك الطلابي عبر العالم -إرادة سياسية- لوقف الحرب


.. دمر المنازل واقتلع ما بطريقه.. فيديو يُظهر إعصارًا هائلًا يض




.. عين بوتين على خاركيف وسومي .. فكيف انهارت الجبهة الشرقية لأو


.. إسرائيل.. تسريبات عن خطة نتنياهو بشأن مستقبل القطاع |#غرفة_ا




.. قطر.. البنتاغون ينقل مسيرات ومقاتلات إلى قاعدة العديد |#غرفة