الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النشاط الاقتصادى فى العالم الوسيط (1)

محمد عادل زكى

2014 / 8 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


النشاط الاقتصادى فى العالم الوسيط (1)
(1)
ونعنى بالعالم الوسيط، المجتمعات التى تكونت فى رحم العالم القديم، وتميزت بالملكيات العقارية الكبيرة، ودوران النشاط الإنسانى فيها حول الأرض الزراعية، وسيطرة النشاط الزراعى، وما يرتبط به من حرف، على مجمل النشاط الاقتصادى للسكان. ويمكننا أن نحدد العالم الاقطاعى زمنياً بالفترة الممتدة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر.
(2)
فلنتوجه أولاً نحو شمال أفريقيا فى القرن التاسع(1)، فسنجد مجتمعاَ متطوراً فعلاً يسود فيه الإنتاج من أجل السوق، والتبادل، كما تهيمن فيه النقود على مجمل النشاط الاقتصادى. سوف نقابل مجتمعاً غادر منذ قرون بعيدة جداً اقتصادات المنزل، وصار يعتمد على الريف فى غذائه بشكل أساسى، وسنرى حركة السلع القادمة من المناطق الزراعية للبيع فى المدينة، أى أن هناك ثمة فصل تاريخى ما بين الريف والمدينة. لقد أصبحت الحوانيت، المنظمة حكومياً، هى الأماكن الرسمية كى يعرض التاجر بضاعتِه، ومن المحتمل أن يكون هو الذى صنعها باستخدام قوة العمل المأجورة (ن -- و أ + ق ع -- س -- نَ) أو ربما يكون اشتراها ويُعيد بيعها رغبةً فى استرداد نقوده التى دفعها فى سبيل هذا الشراء، بالإضافة إلى ربح محدد (ن --- س --- نَ)، وقد نجد السلع التى
يعرضها تخص مُنتِج آخر. كما نلاحظ حركة السلع، أياً ما كانت أشكالها، يُصاحبها ظهور عُمال أُجراء وربما بالمعنى الذى سوف يطرح نفسه أيضاً بعد ذلك بعدة قرون، أى ثمة إمكانية لوجود العمل المأجـــور، مثل عمال الطحن والخبازين والخياطين. وهؤلاء قد يعملون بأيديهم كصناع مستقلين، أو يستخدمون عمالاً مأجورين يستعملون أدوات ومــواد صاحب الحانوت، فى سبيل الإنتاج، ولا يشاركون إياه فى الربح. إنما لهم فقط الأجر. وليس ما يعطل عمل قانــون الحركـــــة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) أن نرى صاحب العمل يعمل بيده مع مستأجريه، طالما كنا بصدد قوة عمل مأجورة من جهة، وان المنتَج ليس مِلك منتجه فى النهاية من جهة أخرى. فبغض النظر عن طبيعة العمل المأجور، فى ظل نظام الطوائف الحرفية، وأنه يتم من أجل التعليم وإعداد العامل المأجور كى يكون معلماً أو أستاذاً بعد أن يتقن الصنعة، فبغض النظر عن ذلك فنحن أمام الصيغة العامة لقانون حركة رأسمال الصناعة (ن --- و أ + ق ع --- س --- نَ) والتصور الذى يرى المعلم يعمل بيديه مع أجرائه، ولا يربح أكثر منهم بعد سداد الأجور والضرائب، يغفل البحث فى مصدر الأرباح التى سدد منها الضرائب! فقد جاءت هذه الأرباح من عرق الشغيلة لدى المعلم! والمعلم الذى لا يستخدم شغيلة، مصدر الربح والتراكم، ويعمل بيديه لا يحصل على أرباح، إنما يتلقى أجوراً فى مقابل بيع قوة عمله للزبائن بعد حساب ثمن مواد العمل والمستهلَك من أدوات العمل. نجد أيضاً الخراز الذى يصنع الخف. إن هذا الصانع إنما يُنتِج سلعته، أى الخف، ليس من أجل الاشباع المباشر، وإنما ينتِج للسوق، ويتأكد ذلك، بوجه عام، حين نُلقى النظرة على حوانيت مدينة القيروان فى القرن التاسع، فسنجد ثمة حانوتاً يبيع أثواباً، أى أن هناك ثمة إنتاج للسوق وليس للاشباع المباشر، فتتبدى هنا قيمة المبادلة بجوار قيمة الاستعمال، بل ومن الممكن أيضاً أن نرى الأثواب المنتَجة للسوق مكدَسة بداخل الحانوت لدرجة احتوائها لحشرات نتيجة هذا التكدس الراجع لفيض إنتاجى من نوع ما. باختصار، نحن أمام سوق وتداول نقدى وريف ومدينة وفصل تاريخى بينهما، مع وجود مجتمع موازى يمتهن الصيد، وبصفة خاصة صيد الحيتان، وثمة عُمال وأُجراء ورعاة وصناع، وأجور، وفنادق، ومطاعم، وتوريد، وضرائب، ودولة قوية تبسط رقابتها على النشاط الاقتصادى والمالى فى المجتمع من أجل الحفاظ على الاستقرار، وثبات الأسعار فى الأسواق وضمان إلتزامات المتعاملين من خلالها على إختلاف صفاتهم، من مشترين وبائعين، وموردين، وصيارفة، وتجار، وأجراء، وصناع، وعمال وأصحاب الأعمال والحوانيت(2).
(3)
والأن، فلنتوجه صوب المشرق الإسلامى فى القرن العاشر، العصر الذهبى للحضارة الإسلامية. إذ سنجد اعتناء الخلفاء العباسيين بتحسين الصناعة(3)؛ فلقد شيد الخليفة المعتصم مصانع لصناعة الصابون بالدهون والعطور، وكانت بغداد تنتج شتى أنواع الزيوت، كذلك أنشأ العباسيـــون مصنعاً للورق فى بغـــداد، وجلبوا له الصناع وأرباب الحرف من مصر التى اشتهرت بهذه الصناعة، وكان ببغداد عدد كبير جداً من المصانع حتى قيل أنه كان بها أربعمائة رحى مائية وأربعة آلاف معمل لصنع الزجاج، وبضعة آلاف معمل لصنع الخزف. وقد عمل بهذه المصانع والمعامل مئات بل آلاف العمال والصناع والموظفين، الذين يتلقون الأجور والرواتب، أى يبيعون قوة عملهم فى مقابل وحدات النقد. كما ازدهرت فى بغداد صناعة الأدوات الحديدية والخشبية المختلفة، كذلك كانت تصنع السفن والقوارب سواء الحربية أو التجارية أو الترفيهية.
كما أنشأ العباسيون، كما فعل الأمويون فى دمشق من قبل، دور الطراز التى كانت تُنتج ثياب الخليفة والوزراء وكبار رجال الدولة، كما كانت تنتج أيضاً للسوق الدوليـــة، ويمكننا أن نلمس بداخل هذه المصانع قانــون الحركة (ن -- و أ + ق ع -- س -- نَ) وسوف نرى ذلك بشىء من التفصيل حينما نذهب إلى مصر المحروسة. وبوجه عام، لدينا عبارات هامة، كتبها الفراء (1059- 1131) توضح لنا معرفة المجتمع للعمل المأجور، بل والقيمة الزائدة النسبية والمطلقة (4)، فقد كتب:"... وإذا تعدى مستأجر على أجير فى نقصان أجر أو استزاده عمل... ولو قصر الأجير فى حق المستأجر فنقصه من العمل أو استزاده فى الأجرة."(5)
ولدينا نص آخر فى غاية الأهمية أيضاً ورد فى كتاب الخراج وصناعة الكتابة لقدامة بن جعفر(من علماء القرن العاشر) إذ لا نجد فقط إشارة واضحة لقوة العمل المأجورة، إنما أيضاً إشارة إلى القيمة الزائدة، التى يتم اقتطاعها من الأجور، فقد كتب ابن قدامة: "لما أخذ أمر الفرس يضمحل. ودولتهم تضعف، وسلطانهم يهن، وتدابيرهم تفسد، وسياستهم تضطرب، فسدت نقودهم، فقام الإسلام ونقودهم من العين والورق، غير خالصة فما زال الأمر على ذلك إلى أن اتخذ الحجاج دار الضرب، وجمع فيها الطباعين، فكان المال يضرب للسلطان مما يجتمع له من التبر... ثم أذن للتجار فى أن تضرب لهم الأوراق، واشغل الدار من فضول ما كان يؤخذ من الأجور، وختم على أيدى الصناع والطباعين"(6) وسوف نجد لدى القرشى (1250- 1329) ما يُفهم منه أن العمل المأجور، قد يكون مأجوراً مياومة، أو، بمفهوم الموافقة، بالإنتاج أو بالقطعة:"فقد يوافق أكثر الصناع على أجرة معلومة كل يوم فيتأخرون عند الغدو وينصرفون قبل المساء"(7)
ولدينا رأى للسرخسى(899-1096) نفهم منه ليس إجارة قوة العمل فحسب، إنما معالجة أعمق لطبيعة الأجرة ذاتها، فقد كتب فى المبسوط: "وإن استأجر أجيراً بذهب أو فضة يعمل له فى فضة معلومة يصوغها صياغة معلومة فهو جائز، وكذلك الحلى والآنية وحلية السيف والمناطق وغيرها؛ لأنه استأجره لعمل معلوم ببدل معلوم، فلا تشترط المساواة بين الأجرة وبين ما يعمل فيه من الفضة فى الوزن؛ لأن ما يشترط له من الأجرة، بمقابلة العمل، لا بمقابلة محل العمل"(8).
(4)
وفى فارس(9) فى القرن العاشر والحادى عشر، نجد المراكز الصناعية الكبيرة، فنسيج الكتان فى كازرون، ومعامل السكر وصناعة القطن فى خوزستان. وفى مرو ونيسابور نسج الحرير. وفى سابور صناعة العطور، كما وجدت مصانع الورق بدمشق وطبرية بفلسطين، وبطرابلس بالشام. وبوجه عام كانت المدن الكبرى، مراكز صناعية منتجة لمختلف أنواع السلع من أجل السوق المحلية، والدولية أيضاً، وكانت الوحدات الإنتاجية التى يمتلكها صاحب الرأسمال صغيرة إلى حد ما، ولكننا نجد أيضاً العمال المأجورين الذين يعملون فى هذه الوحدات الإنتاجية، أما الصناعات على نطاق واسع، ويعمل فيها ألاف العمال المأجورين، فهى التى تُنتج للحكام أو للجيش كالترسانات والمشاغل الملكية، ومعامل السكر(10).
(5)
ومن المهم قبل أن نغادر المشرق الإسلامى فى هذه المرحلة التاريخية أن نوضح أن الحركات الدينية قد بلغت أوجها فى القرنين العاشر والحادى عشر. فقد كان الشعور الدينى قوياً بين الطبقات العامة، وقد تجلى هذا الشعور بظهور سلسلة فرق متزندقة منشقة منذ القرن الثامن حتى الحروب المغولية، وقد اتصفت جميع هذه الفرق تقريباً بفلسفة اجتماعية ثورية وبصفة خاصة فى القرنين العاشر والحادى عشر. فقد كانا مرحلتى تطور صناعى وتكتل حضرى. فظهور نظام راق للبنوك فى بغداد، تغطى فروعها الإمبراطورية، ساعد على تجهيز الدولة بالنقود، وعلى حفــظ النقود بصورة عامة أساساً للاقتصاد. وقد أثر هذا على النمو الصناعى، فأنتج تمركزاً فى الرأسمال والعمل. كما ولد النمو السريع فى الرأسمال مشاكل اجتماعية خطيرة، وحركات تحررية هددت عرش الخلافة نفسه، وفى مقدمتها الحركة الإسماعيلية أو حركة القرامطــة تبعاً لاســـم أهـــم شعبها وأكثرها أهميـــة. ويمكننا أن نلاحظ الاهتمام الشديد الذى أولته هذه الحركة لطبقات العمال وأصحاب الحرف؛ فمثلاً خصص فصل كامل فى رسائل إخوان الصفا، كما ذكرنا، للنظر فى الحرف اليدوية وتبويبها وتصنيفها. وأهم ما يمكننا ملاحظته هو الفرق فى وضعية أصحاب الحرف والنقابات تحت حكم الفاطميين، إذ كانت تتمتع برخاء عظيم. فقد كانت معترفاً بها من قبل الدولة، ويظهر أنها كانت تتمتع بامتيازات كثيرة، وأنها لعبت دوراً هاماً فى النشاط التجارى الذى حصل فى العهد الفاطمى، وحينما قضى صلاح الدين على الخلافة الفاطمية 1171، وأعيدت مصر إلى الحكم السنى، جردت فى الحال الطوائف الحرفية من أكثر حقوقها وامتيازتها وأخضعت لرقابة صارمة. فصارت النقابات تحت الحكم السنى مضطهدة وخاضعة لقيود لا تعد، ومحرومة من حقوق قانونية. ولن يختلف الأمر تحت تحكم المماليك كما سنرى. ويمكن تصور المحتسب هذا الموظف الحكومى التى تتركز مهمته الرئيسية فى مراقبة أصحاب الحرف والطوائف الحرفية وقتل أية محاولة للعمل المستقل فيها منذ البداية، وتمدنا كتب الحسبة التى تم تأليفها بالأساس لتنبيه المحتسب لخطر أهل الصنائع وأحسن الطرق للسيطرة عليهم، بمادة ثرية نفهم منها عدم ثقة الدولة فى الطوائف بوجه عام(11).
(6)
وإذ ما توجهنا غرباً ناحية قرطبة(12) فى حدود القرن العاشر والقرن الحادى عشر، فسوف نجد أسواقاً متطورة تسودها مبادلة نقدية معممة من جهة، وتخصص وتقسيم للعمل من جهة أخرى؛ فلقد وجدت الأسواق المتخصصة فى أرجاء الأندلس؛ فهناك أسواق الزياتين، والعطارين، والخبازين، والسماكين، والشوائين، كما سنجد أسواقاً كاملة متخصصة فى تجهيز وبيع الأطعمة الجاهزة للعاملين بالأسواق من عمال وحرفيين وتجار. فى الوقت نفسه نجد شتى أنواع الصناعات والحرف، فهناك الصاغة والنجاريين والصباغين والخياطين والفخارين وغيرهم من أرباب الصناعات والحرف. وهؤلاء يستخدمون أجراء. يدفعون لهم أجوراً نقدية. وكل ذلك يعنى أننا أمام رأسمال، ومبادلة نقدية(13) وإنتاج، وبيع وشراء، وأجر، وربح، وريع، وفائدة،... إلى آخر المظاهر التى نراها بوضوح فى أسواقنا اليوم. بل يمكننا أن نقول وبمنتهى الاطمئنان أننا أمام تناقضى جلى بين اقتصاد حر بالمعنى الدقيق للكلمة من جهة، ورقابة صارمة للدولة من جهة أخرى.
(7)
وتمدنا الوثائق الخاصة بالحملات الصليبية على الشرق الإسلامى، التى امتدت من القرن الحادى عشر حتى القرن الخامس عشر، بمادة خصبة لتكوين الوعى بشأن الدور التاريخى الجوهرى الذى لعبته هذه الحروب فى التقابل التجارى، والأهم التقابل الثقافى والمعرفى والحضارى(14)، بين الشرق الإسلامى بحضارته العالمية، والغرب المسيحى الوريث التاريخى للمجد الإغريقى والروح الرومانية العظيمة. فلقد توغلت أساطيل البندقية وجنوه(15) والمدن التجارية فى إيطاليا فى البحر الأبيض المتوسط حتى تفى بالحاجات الملحة لنقل الأعداد المتزايدة للصليبين مـــن أوروبا (وغالبيتهم من الأقنان)، وفى نفس الوقت جاء استئناف التجارة مع الشرق نتيجة طبيعية لحروب الصليبية؛ لأن التجار الأوروبيين كانوا إما أن يصاحبوا الحملات المختلفة وإما أن يتبعوها ويفتتحوا أسواقاً جديدة فى كل ميناء يتم فتحه فى الشرق. وبينما خصصت البندقية أسطولها التجارى للتعامل مع المركز التجارى فى سوريا ومصر فى الشرق، احتكرت جنوا المعاملات مع شمال أفريقيا والبحر الأسود.
وعلى الرغم من أن الاتصال المباشر بين الشرق والغرب بدأ عن طريق الحرب فإنه كان مقدراً له أن يخضع لطريق السلام فى مجالى التجارة والثقافة. فقد تم اخضاع القراصنة العرب أو على الأقل أوقفت هجماتهم عندما استعيدت جزائر سردينيا فى العام 1022 وكورسيكا فى العام 1091 وصقلية فى 1058-1090، وكانت هذه تستخدم كقواعد وخلايا للراحة لسفن الرحالة المسلمين من شمال أفريقيا وإسبانيا. كل ذلك أدى إلى ازدهار بعيد المدى فى المدن التجارية، كما أدى إلى نهضة المجتمعات فى جنوب أوروبا، وكذلك إلى اقامة اتحادات تجارية فى الشمال لتوزيع السلع عبر أوروبا، وكانت البندقية وجنوه وبيزا فى مقدمة هذه المدن فى شمال إيطاليا. أما اتحاد ميلانو الذى ضم مدن سهل لمبارديا الأخرى مثل برجامو، وبرشه، وكريما، فقد قام أساساً لمعارضة الإمبراطور فريدريك بربارت، ولكنه لعب دوراً اقتصادياً فى النهضة التجارية. وفى جنوب ايطاليا انتعشت نابولى، وسالرنو، وأمالفى، وبارى. على حين اكتسبت بالرمو فى جزيرة صقلية موقعاً بالغ الأهمية. وفى فرنسا بلغت مارسليا، ومونبلييه، وناربون، مبلغ الشهرة فى تاريخ متأخر، وكذلك برشلونة، وكتالونيا فى شمال إسبانيا.
(8)
ولنبطىء المسير الأن قليلاً فى مصر المحروسة. ولنبدأ بالدولة الطولونية (868-905) فلقد قامت فى مصر فى عهد الطولونيين مجموعة من الصناعات التى تبرهن بجلاء على الانتعاش الاقتصادى فى هذه الفترة من أهمها صناعة النسيج، وقد نمت هذه الصناعات فى مصر فى مدن تنيس وبهنسا والأشمونيين ودمياط وأخميم وأسيوط، وفيها كان يُنسج الكتان والصوف والقطن، أما الأقمشة الحريرية فكانت تصنع فى الإسكندرية وديبق.
وقد ذكر ابن عبد ربه، فى العقد الفريد: "ان فى تنيس التى كان بها خمسة آلاف مغزل، مصنعاً يعمل من أجل الخليفة" (16) وفيما بعد سوف يحدثنا ابن بسام المحتسب عن تنيس، بما يمكننا أن نعرف منه استخدام قوة العمل المأجورة على نطاق متسع فى هذه الصناعة، كتب ابن بسام: "وفبها من المناسج التى تعمل فيها الثياب خمسة آلاف منسج: عدد عمالها عشرة آلاف نفس" (17)
كما كانت هناك مصانع حكومية، إلى جوار المصانع الخاصة، يطلق عليها دار الطراز تقوم بنسج ثياب الأمراء وكبار رجال الدولة، وكان لهذه المصانع، التى كانت تستخدم عدداً كبيراً من العمالة المأجورة(18)، مديرون فنيون يتقاضون مرتباتهم من الدولة. وكانت هذه المصانع، العامة والخاصة، مصدر ثراء للدولة بوجه عام، فلم تكن كل المنتجات التى تُنتَج فى مصانع الحكومة توزع ككساء للخليفة وأعوانه وكبار الرجال فى الدولة من ساسة وعمال وفقهاء ورجال إدارة ... إلخ، إنما كان جزء كبير من الإنتاج يخصص للتصدير، ويحكى لنا المقريزى(1364-1442) الذى أفاض فى الحديث عن تنيس بالذات، أن دور
الطراز كانت تدر على الدولة مبالغ كبيرة بفضل منتجاتها النفيسة. فقد تمكنت مدن تنيس ودمياط والأشمونيين أن تؤدى من بيوت مالها لخزينة الدولة فى يوم واحد 200 ألف دينار، وذلك فى عهد الوزير الفاطمى ابن كلس، وكان المصروف على خيوط الذهب يبلغ عادة 31 ألف دينار، وقد بلغ فى عهد الآمر بأحكام الله 43 ألف دينار(19)
والظاهر أن الأمور قد تبدلت بعض الشىء فى عهد سلاطين المماليك، إذ نجد ابن خلدون يذكر أن المنسوجات وثياب الطراز لم تعد تصنّع فى المصانع ودور الطراز فى القصر، فقد أوقفت الدولة إنتاجها فى منشآتها الخاصـــة، وأصبحت تطلب حاجـتها، التى اقتصرت على الكساوى المنسوجة من الحرير والذهب الخالص، من بيوت النساج، أى انها صارت تعتمد على الموردين. ولكننا فى جميع الأحوال نجد عند ابن خلدون وصفاً دقيقاً نفهم منه أن دار الطراز كانت مشروعاً رأسمالياً مملوكاً للدولة وتستخدم عمال يشرف عليهم ويدفع لهم أجورهم أحد رجال الدولة المقربين من مؤسسة الحكم فى الدولة، كتب ابن خلدون: "... وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم فى قصورهم تسمى دور الطراز... وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز ينظر فى أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها واجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم" (20).
ولدينا نص مهم لابن المأمون (القرن الحادى عشر) نعرف منه مقدار الأجرة التى يقبضها النساج:"... بدلة خاص جليلة مذهبة ثوبها موشح مجاوم مذايل عدتها باللفاتين إحدى عشرة قطعة السلف عنها مائة وستة وسبعون ديناراً ونصف، ومن الذهب
وبخصوص الأجر، بوجه عام، فلدينا نص مكتوب على ورق بردى، لا يقل أهمية من نص ابن المأمون، يرجع تاريخه إلى القرن التاسع، وهو محفوظ بدار الكتب المصرية تحت (لوحة 12) وهو عبارة عن عقد استخدام عامل مأجور، أى بيع لقوة العمل، فالأمر إذاً على ما يبدو له أهمية اجتماعية تستدعى التوثيق، كما تتبدى أهمية النص من جانب آخر فى أنه يمثل وثيقــة مهمة نعرف منها قيمة الدينار آنذاك: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما استأجر سعيد بن عيسى استأجر هارون بن بقام شهرين كاملين على أن يعمل له عمل الفول وعلى أن يعطيه فى هذين الشهرين سدس دينار لكل شهر درهمين وأول يوم من الشهر أول يوم من كهيك من شهور العجم من سنة متين وسبعة وعشرين شهد على ذلك أيوب بن موسى وكتب شهادته ومحمد بن أيوب وكتب بخطه وليد بن مسلم القرشى وكتب شهادته بخطه"(22)
كما توجد لدينا بردية أخرى (لوحة 13)، ترجع إلى القرن العاشر توضح أن الخدمات أيضاً كانت مأجورة نقداً، إذ نجد بردية تعيين خادم مسجد حددت أجرته السنوية بثلاثة دنانير ونصف، كما حددت واجباته واختصاصاته بدقة (23).
ولدينا أيضاً بردية ثالثة (لوحة 22)، تعود إلى القرن العاشر كذلك نجد أن أحد العمال يتقاضى أجراً عن عمله مقداره ديناراً فى الشهر.(24)
ومن الصناعات المهمة أيضاً التى عرفت فى عهد الدولة الطولونية صناعة الأسلحة، وكانت دار الصناعة، والتى كانت بالأساس تتخصص فى صناعة السفن، هى التى تقوم بصناعتها. كما عرفت مصر فى ذلك العهد صناعة الصابون وصناعة السكر. وكان أكثر الصناع المأجورين من المصريين(25).
ونجد لدى المقريزى نصاً يوضح لنا كيف كان العمل مأجوراً، وهو يحكى قصة ضرب الدينار الأحمدية، فى عهد الدولة الطولونية. إذ كتب المقريزى:" ثم أمر لكل رجل كان يعمل بمائتى دينار منه، وأنفذ بأن يوفى الصناع أجرهم..." (26)
وفى عهد الفاطميين (953-1171) استخدمت أساليب جديدة فى الصناعة، وأصبح عمل المصانع ليس مقصوراً على إمداد الجيش والأسطول الفاطمى بالسلاح والعتاد الحربى والملابس لطوائف الجند، بل تنوعت المنتجات لسد حاجة الخلفاء والوزراء ورجال الدولة وغيرهم، واحتلت صناعة السكر مكانة متميزة(27)
وكانت صناعة النسيج أيضاً من الصناعات التى تابعت ازدهارها بعد أن تنوعت أصنافها وأشكالها. وكانت القاهرة فى عهد الفاطميين مركزاً رئيسياً لصناعة المنسوجات الحريرية. وعمل فى هـــذه المصـــانع ألاف العمال المأجــــورين نقداً. ويمكن القول أن أجـــور الحرفيين لم تكن واحدة؛ إنما تفاوتت تبعاً لنوع النشاط وأهميته عند الحكام الفاطميين من جهة، وتبعاً
للملكية الخاصة أو التبعية للدولة من جهة أخرى، فقد كانت أجور الصناع المأجورين فى دار الطراز الحكومى أفضل بكثير مما يقبضه زملائهم العمال فى دور الطراز الأهلية(28).
كذلك تقدمت صناعة الزجاج والخزف وكانت الفسطاط من أكبر مراكز صناعة الزجاج. ومن البلاد التى اشتهرت بهذه الصناعة أيضاً الفيوم والأشمونيين والإسكندرية(29).
وكان لكل طائفة من الصناع وأرباب الحرف عريف(30). يتولى أمورهم ويشترط فيه أن يكون على دراية بأمور الصناعة أو الحرفة التى يشرف عليها ومشهوداً له بالثقة والأمانة، وكان العريف، نظراً للوضع المختلف للنقابات فى المشرق كما سنرى، بمثابة عين للمحتسب يطلعه على أخبار أهل صنعته، ويدله على مواطن الغش والتدليس التى قد يلجأ إليها البعض لغش الصنعة أو السلعة. وكانت الدولة تستخدم الأجراء من أرباب الحرف من غير موظفيها، وفى هذه الحالة كان يحصل العامل على أجر مقابل ما أداه من عمل.
وفى عهد الدولة الأيوبية (1174-1252)، كان الشكل السائد للملكية الإقطاعية للأرض يتميز بالملكية الحكومية؛ فالحكومة لم تقم بدورها العادى كمالك أعلى للأرض فقط، بل إنها قامت أيضاً بدور المستغل المباشر للمنتجين المباشرين، وكما نفهم من كتابات المقريزى، فإن الوسيلة الرئيسية
للانتفاع بأرض الدولة هى التأجير مقابل الالتزام، ولكن مع بداية حكم الأيوبيين تحول إقطاع الالتزام إلى الإقطاع الذى يعنى المنح الإقطاعية الحربية.
ويمكن القول أن النظام الإقطاعى الحربى فى مصر فى ذلك العهد شأنه فى ذلك شأن دول الشرق الأدنى الأخرى فى العصور الوسطى؛ كان يتميز تقريباً بالغياب الكامل لحيازة الملكية الخاصة للإقطاعى فمن المعروف أن السلطان صالح نجم الدين أيوب ألقى فى السجــــون بكثير من الأمراء المشتبه فى ثقتهم، وذلك عند اعتلائه العرش، ثم قام بإعادة توزيع إقطاعاتهم على المماليك.(31) وعلى الرغم من سيادة الإقطاع على هذا النحو إلا أننا نجد مظاهر التداول النقدى والسلعى، والأرباح، والرأسمال،... إلخ، فقد تجاوزت الأرض الدور الذى تؤديه فى غرب أوروبا كمظهر للثراء الاجتماعى والسلطة. إلى تأدية دور اقتصادى أكثر إيجابية.
وفى عهد دولة المماليك (1382- 1517) كانت مصر إقطاعية بكل معانى الكلمة(32) فقد قسمت أراضى مصر إلى أربعة وعشرين قيراطاً، اختص السلطان منها بأربعة قراريط، واختص الأمراء بعشرة، والعشرة الباقية كانت نصيب الجنود(33). وكان الإقطاع، كما جاء فى الشروح على المقريزى، أمراً
شخصياً لا دخل لحقوق الملكية أو لأحكام الوراثة فيه بمعنى أنه كان مفروضاً فى المقطع أن يحل محل السلطان فى أن يتمتع بغلات الإقطاع وإيراده فحسب، فإذا مات المقطع أو أخل بشروط الإقطاع، جاز للسلطان أن يستولى على إقطاعه فوراً. والجدير بالذكر ان الأمراء المماليك حال حكمهم لمصر كانوا فاحشى الثراء بالمقارنة مع بقية الشعب، ففيما كان العامل أو الموظف الدينى الصغير يستطيع أن يجنى درهمين فى اليوم، كان دخل الأمراء فى القرن الرابع عشر يبلغ نصف مليون درهم أو مليوناً من الدراهم سنوياً، أى ما يعادل الدخل السنوى لمليونى عامل تقريباً(34) وكان جنود المماليك السلطانية شأنهم فى ذلك شأن الأمراء الكبار، يتسلمون شهرياً من الخزانة رواتب نقدية ويعطون منحاً عينيه.
وفى عهد المماليك يمكننا أيضاً أن نرى حياة اقتصادية معقدة كالمضاربات المالية وانفلات الأسعار والتضخم والكساد والركود والفائض، والثراء الفاحش والفقر الموحش. والتنظيم الدقيق والفوضى العارمة!
وإذ ما نظرنا لقوة العمل، فلكى نتفهم التنظيم النقابى للعمل فى مصر المماليكية، فيتعين أولاً أن نتفهم الاختلاف بين نظام النقابات الذى كان موجود فى الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الغربية. فقد كانت الاتحادات البيزنطية تنظم بواسطة سلطات الشرطة فى الدولة، وليس بالتلاقى الارادى بين أعضائها. ومع أنها انشئت للقيام بوظائف اقتصادية محددة، ومنها عدم الاحتكار، فقد كانت تمنح احتكارات ضمن إطار أعمالها. ومع ذلك لم تكن أبداً سيدة نفسها ولم يكن لديها أى مالية خاصة أو أى موظفين رسميين يُنتخبون وفقاً لمشيئة مجموع الأعضاء. وكانت قواعد أعمالها توضع وتفرض من خارجها، ولكن ذلك لم يحل دون قيام تضامن داخل الاتحاد، إلا أنه أزال الرقابة من أيدى الحرفيين والتجار. أما فى الغرب، فقد لعبت النقابات، التجارية فى مرحلة أولى، ثم الحرفية فى مرحلة ثانية، دوراً مهماً فى سبيل ترسيخ الاستقلال قبل السلطة الإقطاعية من جهة والسلطة الكنسية من جهة أخرى، وقامت النقابات الحرفية بتأدية الدور الحاسم فى الصراع بين طبقة التجار وطبقة الصناع، وكانت الوظائف الرئيسية لنقابات الحرف هو: "تحقيق الخير لأعضائها وضمان تشغيلهم بالكامل بأعلى الأجور" (35)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التبوريدة: فن من الفروسية يعود إلى القرن السادس عشر


.. كريم بنزيمة يزور مسقط رأس والده في الجزائر لأول مرة




.. بعد إدانة ترامب.. هل تتأثر فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية ا


.. لابيد يحث نتنياهو على الاستجابة لمقترح بايدن بخصوص اتفاق غزة




.. الوسطاء يحثون إسرائيل وحماس على التوصل لاتفاق هدنة في غزة