الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزواج في المسيحية بين النظرية و التطبيق- الجزءالسادس

طوني سماحة

2014 / 8 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


ماذا علّم المسيح عن الزنى؟

اختلف مفهوم الزنى بحسب اختلاف الثقافات. يذكر قاموس المعاني ان الزنى هو " الفجور، إتيان الرجل المرأة من غير عقد شرعي" أو "الخيانة الزوجية لدى الشعوب الغربية". أما قاموس الكتاب المقدس (النسخة القبطية) فإنه يصف الزنى بإنها خطيئة تلوث حياة الانسان و نفسه و جسده. و يفصل القاموس بين المفهوم اليهودي و المفهوم المسيحي للزنى. فبحسب الشريعة الموسوية، الزنى كما ورد في الوصايا العشر هو " كل اتصال جنسي غير شرعي، كأن يضاجع رجل امرأة غيره، أو فتاة مخطوبة لرجل آخر، أو أي فتاة حرة غير مخطوبة". و كان عقاب الزنى في الشريعة الموسوية الرجم. أما المفهوم المسيحي، فقد تعدى الاتصال الجنسي المباشر، ليطال "كل نجاسة في القول و الفكر و العمل" كما وردت في الموعظة على الجبل (متى 5: 27، 28) " قد سمعتم أنه قيل للقدماء (أي الشريعة الموسوية) لا تزن، و أما أنا فأقول لكم ( الشريعة المسيحية): إن كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه".

شكّل ارتقاء مفهوم الزنى من الفعل المباشر وصولا للقول و الفكر تحديا للمستمع الذي وجد نفسه أمام تعليم يصعب على الانسان تطبيقه. فمن هو الرجل (والمرأة) الذي لم يزن بقول ما أو فكر ما على الأقل لمرة واحدة؟ وهل يكون عقاب الزنى الفكري و الشفهي الرجم شأنه شأن الزنى الفعلي؟ لا شك أن هذه الاسئلة طرحت نفسها بعمق أمام المستمع اليهودي والقارئ المعاصر.

ورد تعليم المسيح هذا عن الزنى في ما يعرف بالمسيحية " بالموعظة على الجبل". وكان هدف المسيح من خلال هذه الموعظة الانتقال بالانسان من العهد (القديم) الموسوي الى العهد الجديد (المسيحي)، لذلك استطرد " إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة و الفريسيين (رجال الدين اليهودي)، لن تدخلوا ملكوت السماوات". و أنهى المسيح هذه الموعظة الشهيرة بالقول "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل."

هنا تطرح إشكالية الكمال نفسها. هل باستطاعة أي إنسان أن يكون كاملا؟ الجواب البديهي لمسألة الكمال هو لا. الكمال هو الهدف. هو المقياس الالهي الذي يجب على المسيحي ان يسعى اليه. هو تغيير في المسار. هو إعادة تصويب الهدف. هو صراع بين القديم و الجديد، بين فكر أرضي وفكر سماوي، بين إنسان مادي و إنسان روحي، بين الضعف و القوة، بين الخطيئة و البر، بين القضاء الإلهي و النعمة. و للبلوغ لمرحلة الكمال، لا بد للإنسان أن يعترف بنقصه و عجزه أولا، ثم أن يسير في الاتجاه الصحيح، يتعثر مرة و يقوم مرات.

كان الفريسيون ينظرون الى ذواتهم على انهم ابرار. لكن تعليم المسيح لهم وضعهم أمام مرآة كشفت لهم فسادهم. و النتيجة الحتمية ان رجل الدين اليهودي ساقط حسب المعايير الالهية، شأنه شأن رجل الشارع العادي إن لم يكن أكثر حسب النص التالي " لا تدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون... ولماذا تنظر الى القذى الذي في عين أخيك، و أما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك: دعني أخرج القذى من عينك و ها الخشبة في عينك. يا مرائي، أخرج أولا الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى من عين أخيك." (متى 7: 1-4)

وضع تعليم المسيح هذا رجال الدين اليهود أمام امتحان صعب. فقبولهم له يعني نزع هالة البر عن رؤوسهم و اعترافهم أنهم أشرار شأنهم شأن جميع الناس، و أنهم بحاجة للتوبة للخلاص من الدينونة، الأمر الذي ما كان لهم أن يقبلوه. و رفضهم له يعني خلق هوة بينهم و بين الجموع التي كانت تتبعه و كانت حسب تعبير متى "بهتت من تعاليمه".

يبدو للقارئ للوهلة الاولى ان المسيح وضع الانسان امام خيارين مستحيلين: الكمال أم الدينونة. فإن لم يكن باستطاعة أي إنسان أن يكون كاملا، إذا لا بد أن تكون الدينونة مصير جميع البشر. وهذا ما عبر عنه نيقوديموس أحد قادة رجال الدين اليهودي الذي أتى ليلا سرا للقاء يسوع. وقع نيقوديموس في حيرة من أمره عندما قال له يسوع " الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله." لم يستطع نيقوديموس فهم هذا المفهوم الجديد، إذ أجاب " كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ. ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية و يولد؟" فكان رد المسيح " إن كان أحد لا يولد من الماء و الروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو و المولود من الروح هو روح." (يوحنا 3)

لم يفهم نيقوديموس الشيخ معنى الولادة من جديد. فهو يفكر بمنطق الجسد فيما المسيح يتكلم لغة الروح. و لغة الروح أعجمية بالنسبة للغة الجسد. الجسد يريد أن يشبع شهوته. الجسد يجعل من الانسان محور ذاته فيما الروح يجعل من الله محور الوجود. المولود من جديد أي من الروح يُقبل الى النور (المسيح) و يفعل الحق، فيكون الله هو العامل فيه. أما المولود من الجسد يُبغض النور و يعمل السّيّآت. و انتهز المسيح الفرصة في كلامه مع نيقوديموس ليحل اشكالية الدينونة في المسيحية و اليهودية. فالزاني في الشريعة الموسوية يرجم. أما في زمن الروح و النور، فالله يظهر محبته له و ينتظر عودته اليه بالتوبة للنجاة "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية" (يوحنا 3: 16). فالله هنا لم ينقض الشريعة الموسوية، بل أتى بالبديل و بذل ابنه للموت فداء للإنسان، لكي يخلص بدم الابن كل من يؤمن به. فالمسيح مات على الصليب لكي لا أموت أنا فيما بعد بل لكي أحصل بدمه على الخلاص الابدي. و هنا يعلن يسوع عن طبيعة الله التي لا تريد الدينونة للعالم " لأنه لم يرسل الله ابنه الى العالم ليدين العالم، بل ليخلص العالم" (يوحنا 3: 17). و النتيجة الحتمية أن " الذي يؤمن به (المسيح) لا يدان، و الذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا 3:18). أما الدينونة فهي " إن النور قد جاء الى العالم، و أحب الناس الظلمة اكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة" (يوحيا 3: 19).

لا يمكن لنا ان نطوي صفحة الزنى دون التطرق للقاء المسيح مع المراة الزانية كما وردت في إنجيل يوحنا 8. أمسك رجال الدين اليهود امرأة زانية و أتوا بها للمسيح. قالوا له :" يا معلم، هذه المرأة أمسكت و هي تزني في ذات الفعل، و موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه ترجم. فماذا تقول أنت؟" ... و أما يسوع فانحنى على اسفل و كان يكتب بإصبعه على الارض. و لما استمروا يسألونه، انتصب و قال لهم: " من كان منكم بلا خطية فليرمها أولا بحجر."

كان إعلان المسيح لليهود أنهم جميعا خطاة شأنهم شأن هذه المرأة و أنهم بحكمهم على هذه المرأة إنما كانوا يحكمون على انفسهم. " وأما هم فلما سمعوا و كانت ضمائرهم تبكتهم، خرجوا واحدا فواحدا، مبتدئين من الشيوخ الى الآخرين. و بقي يسوع وحده و المرأة واقفة في الوسط. فلما اتنصب يسوع ولم ينظر أحدا سوى المرأة، قال لها: " يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟" فقالت: " لا أحد يا سيّد!" فقال لها يسوع: " و لا أنا أدينك. إذهبي و لا تخطئي أيضا."

كان يسوع منسجما مع نفسه في حديثه مع نيقوديموس و في قضية المرأة الزانية. ففي كلتا الحالتين أظهر لنا أن هدف الله ليس دينونة الانسان، إنما خلاصه. فهو أطلق المرأة الزانية حرة مشجعا إياها على عدم الاستمرار في الزنا. و مع أنه الوحيد الذي كان من دون خطيئة و بالتالي يحق له رجمها، و مع ذلك لم يفعل. أعلن لنا أننا جميعا خطاة و مستحقون الدينونة، كما أعلن لنا أن الله محبة، لذلك أرسل ابنه بديلا عنا لكي يحتمل الدينونة من أجل خلاصنا. و بالتالي إما أن يقبل الانسان المسيح بالتوبة عن خطاياه و ينجو و إما أن يكون قد حكم على نفسه بالاستمرار في خطاياه و الحياة في الظلمة بعيدا عن الله في هذه الحياة و في الحياة الآتية.

بقي علينا قبل إغلاق هذه الصفحة أن نجاوب على هذا السؤال: هل يستطيع الانسان تطبيق تعليم المسيح كما ورد في الموعظة على الجبل " قد سمعتم أنه قيل لا تزن، و أما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه"؟ لا بد من القول أن الامر مستحيل لمن لم يقبل المسيح و تعاليمه. أما أولئك الذين ولدوا من الروح، فالكثيرون منهم فتحوا قلوبهم للروح القدس و شاهدوا معجزة الولادة الجديدة تغير تفكيرهم وتشكل شخصياتهم و تعطيهم حياة جديدة حياة، البر و القداسة. و للإنصاف نقول أن الكثيرين منهم تعثروا و سقطوا مرة و اكثر، لكنهم عادوا و قاموا بدموع التوبة يطلبون المغفرة و يقفون بقوة و ثبات أكثر من ذي قبل. و لا ننسين أن الكثيرين ورثوا المسيحية او قبلوها تعليما و فلسفة او اتوا اليها من باب المنفعة الشخصية او الربح او التعصب. أولئك افتقدوا سكنى الروح القدس في حياتهم و ما زالوا يعيشون في الظلمة رغم انتسابهم الى العائلة المسيحية، و بلوغ مرحلة الكمال التي دعى اليها يسوع ليست بالنسبة لهم سوى تعليما ليس إلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاستاذ طوني سماحة المحترم
امال طعمه ( 2014 / 8 / 21 - 10:52 )
شكرا على هذه السلسة الحقيقة ..لم اقرأ كل الاجزاء وسأعمل على قراءتها كاملة

تعاليم المسيح لم تكن يوما تعاليم حرفية ليست تعليمات بمعنى اعمل كذا ولا تعمل كذا تعاليم المسيح روحانية من يلتفت الى تلك التعاليم ويأخذ بها في الجوهر من داخله سوف يتغير وسوف حينها لن يفكر كم هو صعب الالتزام بها وينطبق هذا على علاقة الزواج للاسف في عالمنا اليوم تسيطر المادة ولم يعد للروحانيات مكان

تحياتي


2 - شكرا سيدة امال
طوني سماحة ( 2014 / 8 / 22 - 04:05 )
بكل تاكيد نحن نعيش لذواتنا لاننا اهملنا تعاليم المسيح في حياتنا. لذلك على الرغم من كل الرخاء الذي يحيط بنا لسنا سعداء.
تحياتي


3 - مقال رائع لتعاليم اروع
صباح ابراهيم ( 2014 / 8 / 22 - 14:39 )
تعاليم السيد المسيح هي تعاليم السماء للبشر ، تعاليم الكمال والسمو بالروح والجسد .
لم ينطق اي انسان بكلمات قالها السيد المسيح ، لم يقل احد من البشر احبوا اعداءكم ، باركوا لا عنيكم .
ولم يعلم انسان ما عدا المسيح الزهد حتى في نظرته الى المراءة بنظرة شهوانية ، بل اعتبر تلك النظرة الغير بريئة من اعمال الزنى ، هل يوجد قداسة اكثر من هذا ؟
لم يقل المسيح (حاشاه ) سبحان مقلب القلوب !!! بعكس من ادعى النبوة ، عندما نظر ذلك الشهواني الى كنته عندما كانت حاسرة الملابس فاشتهاها متمتما سبحان مقلب القلوب ، ثم خطط لطلاقها من زوجها وتزوج بها ونفذ رغبته الشهوانية بالقول وبالفعل .


4 - شكرا صباح ابراهيم
طوني سماحة ( 2014 / 8 / 22 - 21:31 )
شكرا للإطراء اللطيف على المقال، لكن لا بد من القول أن تعليم المسيح هو الذي يضفي عليه روعته. أما نحن فلسنا سوى بناقلي الرسالة

تحياتي


5 - شكرا صباح ابراهيم
طوني سماحة ( 2014 / 8 / 22 - 21:31 )
شكرا للإطراء اللطيف على المقال، لكن لا بد من القول أن تعليم المسيح هو الذي يضفي عليه روعته. أما نحن فلسنا سوى بناقلي الرسالة

تحياتي

اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah