الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرقابة بين حريتين؛ الجميل والقبيح

علاء عبد الهادي

2014 / 8 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قوّضت وقائع السلوك الاتصالي المعاصر, المدعومة بانفتاح إعلامي, وبتطور تقني لم يشهد العالم مثيلاً له من قبل, مفاهيمَ سيادة الدولة القومية على أراضيها, وكان من أبرز تجليات هذا التقويض؛ ضعف قدرة الدولة القومية على الحفاظ على سيطرتها على فضاءاتها الإعلامية, وعلى ملكيتها لها, بحسبان الملكية هي حق إبعاد الغير, فقد فتحت ثورة الاتصالات الحديثة حدودَ الدولة الجغرافية, واعتقتها من مجالها “Reserved Domain” المحلي؛ المكاني والزماني, المحدود, إلى مجال ثقافي مفتوح, سواء في علاقاتها بمواطنيها, أو في علاقاتها بغيرها من الدول. وكان من نتائج ثورة الاتصالات الحديثة التي يشهدها عالمنا العربي اليوم, إنعاش بعض الأسئلة القديمة التي خلقت -بسبب الشعور بالتهديد- مناخًا صالحًا للاحتراب؛ بين جزء من الخطاب الثقافي العربي السلفي الذي تبنى الانغلاق على تراثنا, وجزءٍ آخر من الخطاب الثقافي الحديث الذي تبنى الانغلاق على الغرب, بحسبان تراثنا العظيم هو سبب تخلفنا, على الرغم من أن الانغلاقين وجهان لعملة واحدة. كما أثارت ثورة الاتصالات الحديثة في عالمنا العربي المعاصر مجموعة أخرى من القضايا, ربما كان من أهمها, قضية حرية الكاتب في التعبير, ضد ما تمارسه الرقابة في -عصر السماوات المفتوحة- على النتاج الثقافي بخاصة, على الرغم من أن جمَّاع ما تمنعه الرقابة في مصر, لا يجاوز حيّزًا ضئيلاً مما يستطيع أي مواطن في أفقر قرانا الاطلاع عليه, بضربة زر واحدة على حاسبه الآلي, أو عبر الشاشة المرئية, وما تبثه مختلف الأقمار الصناعية التي ملأت فضاءاتنا. الأمر الذي يضع جدوى بقاء الرقابة في مجتمعنا موضع المساءلة.
يعمل الجهاز الرقابي -في أية دولة- بوصفه وسيطًا أيديولوجيًّا يسعى إلى مصادرة ما يظن أنه يهدد قيم المجتمع, وهذا ما أخضع النتاج الثقافي الأدبي والفني بخاصة, إلى نظام معياري ارتبط بما يسمى موروث المجتمع الخلقي, أو بوهم وجود هذا الموروث الجمعي على أقل تقدير, الأمر الذي مثّل شكلاً من أشكال الوصاية الأخلاقية على ما يستقبله أفراد مجتمعنا, من النتاج الفكري والثقافي, دون حسبان تباينات المجتمع الفكرية, والاختلافات القائمة بين فئاته الأيدولوجية. وهذا ما صبّ معظم النتاج الثقافي في قوالب تحاشت مراجعةَ السياسي, والجنسي, والعَقَدِي, وذلك من خلال المهمة التي يمارسها هذا الحارس الأيديولوجي, الذي حكم الحراك الفكري والثقافي بضلعي المقص؛ "الإباحة بعد التعديل, أو الحظر والمصادرة", وأرى أن مجتمعًا عمره سبعة آلاف سنة, توالت عليه حضارات شتى, وامتلك هذا التراكم التاريخي الفريد, هو مجتمع راشد, لا يحتاج إلى رقيب ديني أو غير ديني على نتاجيه؛ الفكري والأدبي, فلنكتفِ بالمجتمع رقيبًا على ثقافته, وذلك من أجل فتح الأنساق الفكرية المغلقة, وتطوير حركة الجدلين الفكري والثقافي؛ اللازمين لأي تطور سياسي واجتماعي وثقافي, بعد أن غاب عن بيئتنا الثقافية المعيشة أي تفاعل مؤثر بين المؤسسات الثقافية الرسمية, وما يموجُ به الواقعُ الثقافي الحالي من تيارات, فكرية وثقافية وجمالية, منذ أن تبنت المؤسسات الثقافيةُ القائمة الاهتمام بقضايا ثانوية في خارج صلب اهتمامات المجتمع, وشيدت سلطتها على ملكيتها لموارد ثقافية حددت سلفًا شروط استثمارها!
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه النقابات الفنية, والاتحادات الفكرية, في دعم حرية الفكر, وذلك إذا استطاعت أن تعدل قوانينها على نحو يحدّ من المساس بأمن الكاتب أو الفنان, بسبب رأي أبداه, أو نشاط إبداعي مارسه. ربما تدفعنا هذه الحرية المنشودة إلى ما لم تستطع نخبة هذا المجتمع الفكرية والثقافية أن تقوم به من قبل؛ وذلك في أن تقف موقفاً نقدياً من تراثها من جهة, وموقفًا نقديًّا آخر مما تفرضة الثورة المعرفية الجديدة من قيم لا تناسب مجتمعاتنا من جهة أخرى, وهذا ما لن يتم إلا عبر الإيمان بالجدل, والتمسك بحرية التعبير, من أجل أن يسمح المجتمع للموضوعات جميعها, أن تدخل تحت مظلة الحوار والمساءلة, بدلاً من أن تُناقش في الغرف المغلقة, على نحو قد يؤدي إلى خلق مجتمع منافق؛ يقول ما لا يقصده, ويقصد ما لا يقوله.
ولا يمكننا في هذا السياق أن نغض الطرف عن الإشارة إلى رفض -معظم المثقفين- أن تقوم أية مؤسسة دينية, في مصر أو في الوطن العربي, بدور رقابي على الإبداع, فالحكم على منتوجات الخيال, وتقويمه, ليس من اختصاص الجهات الدينية, لأن ما يحكم عالم الخيال يختلف عما يحكم عالم الواقع. وفي ظل تحول الفنون والآداب إلى علوم متخصصة, أصبح تقويم رجل الدين, أو المؤسسات الدينية والعقدية, للعمل الأدبي أو الفني, يشبه تقويم مخرج سينما, أو شاعر, لمسألة فقهية, أو عقدية, فضلاً عن أن عالمًا عربيا تعيش تحت جناحه مجتمعات مختلفة الديانات والمذاهب, والأعراق؛ جمعها معًا تراكم واحد لحضارات غنية متعددة, لا يمكن أن تعبّر عنه جهة دينية واحدة فقط, في موضوع مثل موضوع مكانة الأخلاق والقيم في النتاج الثقافي المعاصر, فالعمل الأدبي أو الفني سريع الاستجابة لواقعه, ومن طبيعة الفن الجيد إثارة الأسئلة, وتجاوز الواقع, ونفيه, إيمانًا بممكن آخر وجديد, أي أن أسئلة العمل الادبي أو الفني القوي هي أسئلة إشكالية على الدوام, وهذا ما يناقض أية أفكار ثابتة؛ عقدية أو أيدولوجية, تؤمن باستقرار المفاهيم. أما الموضوع في العمل الأدبي, فمثل الموضوع في العمل الفني, لا ينظره الراشد إلا من خلال شكل المضمون فيه, ولا يطل معناه على القاريء إلا حين يفقد العمل جمالياته, ولا يتبقى منه غير رسالته المباشرة الفجة, ربما قال صديقي, أراك تنادي بحرية الجميل! وربما قلت, نعم أنادي بحرية الجميل, أما السؤال الذي سيبقى مؤرَّقًا, ودون إجابة قاطعة, فهو سؤالنا الدائم عن معنى الجميل!
*(شاعر ومفكر مصري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذ الفاضل، لفت انتباهي مصطلح مصري
المُحدَّث ( 2014 / 8 / 30 - 19:35 )
(الدولة القومية)= (الدولة الوطنية، القطرية)، ومصطلح نقيض (تأسيسا على معنى ومبنى مفردة القومية، الدولة الأوربية في الأصل) تفضلتم به في ذات هذا الموضوع؛ (عالمنا العربي اليوم)= وطننا العربي أدناه ذكرتم لفظ (في مصر أو في الوطن العربي).. بدلالة قولكم القومي (بحسبان تراثنا العظيم). قولكم: (بضربة زر واحدة على حاسبه الآلي, أو عبر الشاشة المرئية) فعل معمول به في هذا الموقع (الحوار المتمدن) إدارته تستسهله مع زملاء الخانة السفلى، لصفحة الموقع الأشبه بنمط طبقات المجتمع الروماني القديم، لحجب حريتهم في التعبير مع أكذوبة مهنية شروط النشر!، على نهج حجب أنظمة البدوبترودولار لهذا الموقع.
لاحظ ادعاء حرمة الكاتب زميل الخانة الأعلى لصفحة الموقع، وعدم حرمة
الأنبياء والوجدان العام!. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى الدور (الهام) للضحية المسكون بجلاده معجبا باللاوعي به!.

أتابع باهتمام مايخطه باعكم ويراعكم.


2 - سكوتكم الذهبي أيضا موقف!
حورية مدني ( 2014 / 8 / 31 - 15:38 )

يذكرنا الميز المؤدلج بين زملاء هذا الموقع الإلكتروني الافتراضي (الحوار المتمدن) أيضا ببصيغة مجلس الطبقات التي كان معمولا بها في فرنسا اعتبارا من عام 1614. فقد قضت هذه الصيغة بتكوين مجلس مؤلف من ثلاث طبقات هي الطبقة الارستقراطية وطبقة رجال الدين وطبقة العامة.

اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة