الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منزلنا الريفي (56)

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2014 / 9 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تأملات فلسفية (2)


هل الايديولوجيا داخل الوعي أم خارجه ؟
قراءة للواقع الكرزازي على ضوء أطروحة ألتوسير *

إذا كانت الايديولوجيا في الأدبيات الماركسية هي الوعي المشوه والمزيف للواقع، بمعنى عدم تطابق الفكر مع الواقع، أي أن الفكر يعكس صورة مشوهة عما يدور في الواقع من تفاعلات و تعالقات وارتباطات، فإلى أي مدى تساعدنا أطروحة ألتوسير في فهم الواقع الكرزازي في ظروفه الراهنة ؟ هل الكرزازيون يحملون صورة حقيقية عن واقعهم ؟ كيف هو هذا الواقع ؟ كيف يتمثلونه ؟ وإذا كانوا يتمثلونه وفق ما هو عليه ؟ لماذا لا يغيرونه ؟
في مستهل معالجته لهذه الإشكالية، عرف ألتوسير الوعي بأنه إدراك للواقع، أي فهم للتعالقات والارتباطات التي يتأسس عليها الواقع، بمعنى أن يحمل الفكر تمثلات محاكية للواقع، وأن يكون الواقع محاكيا للفكر، فلابد من علاقة جدلية بينهما، لكن هل ما يحمله الكرزازيون من أفكار يعكس واقعهم ؟ إن الكرزازيين يتمثلون أنفسهم كأغنياء، ويكفينا أن نتأمل هذه اللازمة التي تتردد على أفواههم معندناش ومخصناش""، ومعناها أن الكرزازي لا يملك شيئا ولا يخصه شيئا، إن هذا الكلام كلام غني، وليس كلام فقير، فالذي لا يخصه شيئا هو الغني، ولكي لا يعترف بذلك، ومن أجل ألا تطاله أعين الحاسدين، يقول أنه لا يملك شيئا، وهذا شكل من أشكال التورية والتمويه والتعمية، ومن ثمة فالكرزازيون في فكرهم لا يتماهون مع واقعهم كون هذا الواقع كادح وفقير، فالكرزازي يفطر بالخبز والشاي، ويتسول الدقيق، وينتظر كل خريف السحاب، كما لا يملك سوى قطع أرضية جرداء، مع بعض المواشي العجفاء، كما أن أراضيهم في تقلص مستمر منذ ثمانيات القرن الماضي، لقد باعوها تبعا للهشاشة والفقر والجفاف والمرض وغلاء المعيشة، أما الدولة فتلاحقهم بالضرائب المباشرة وغير المباشرة كضريبة النظافة وضرائب السلع التي يشترونها من السوق، مع العلم أنها لا تقوم بشيء من أجلهم، فلا العمال الذين كانوا يعملون في شركة صوديا تركت لهم تقاعدا مريحا، ولا هي رممت الطرقات، وبنت الملاعب والمستشفيات، فقط يجلس القرويون قرب الشاشة، فيشاهدون القنوات المغربية الطبقية، وهي تشيد بإنجازات الملك، مع العلم أنهم لم يروا تلك الإنجازات في واقعهم، بل في تمثلهم الذي أصبح واقعا استيهاميا، فهل الايديولوجيا خارج وعيهم أم داخله ؟
يرى ألتوسير أنه يجري عادة القول أن الايديولوجيا باعتبارها وعيا مشوها تنتمي إلى منطقة الوعي كونه وعيا حقيقيا للواقع، ولهذا يدعونا ألتوسير إلى عدم الانخداع بهذه التسمية على اعتبار أن تمت إلى طرح بورجوازي غايته تضليل الواقع، فعلى الكرزازيين ألا ينخدعوا بما تبثه التلفزة من إنجازات، فهي تنشر الوعي المشوه، والكرزازي عليه ألا يتوجه إلى التلفزة، بل عليه أن يتوجه إلى الواقع لكي يفهمه، ويشكل وعيا حقيقيا عن واقعه، لا الوعي المشوه الذي تمرره التلفزة .
يؤكد ألتوسير أن الايديولوجيا لا يربطها بالوعي إلا رباط واه، وإلا لماذا الكرزازيون يقولون أنهم بخير !!! هل الواقع يبشر بخير ؟ فإذا كانوا بخير لماذا يتسولون في كل مناسبة البورجوازي المدعو الجامعي ؟ ولماذا يرحلون كل صيف إلى التيرس قصد النجوع ولا يرحلون صوب البحر قصد الاستجمام ؟ لماذا منازلهم مثقوبة ومهترئة ؟ ولماذا أبناؤهم يغادرون المدرسة كقطيع من الأغنام ؟ ولماذا تستفحل الأمية الأبجدية والثقافية في أوساطهم ؟ فهل كل هذه الاعتبارات تمت بصلة للغنى ؟؟!!! إن وعيهم المشوه يربطه خيط واه بالواقع الفعلي المزري الذي يرزحون تحته، ولا يحركون ساكنا، والأمر يعزى حسب ألتوسير أن الايديولوجيا باعتبارها وعيا مشوها هي لاواعية، أي عبارة عن تصورات تفرض نفسها على جموع القرويين كبنيات دون أن تخترق وعيهم، أي أن هذه التصورات لا تتوجه نحو الواقع من أجل التماهي معه، والتأثير فيه، بل إلى تعطيله، وعلى ضوء ذلك لا يفهم البشر مدلول هذه التصورات، فتؤدي بهم إلى الانفصال عن الواقع، فيعيشون كائنات منشطرة، فكل الكلام الذي يقال في التلفزة (الإصلاح، الحكامة، الديمقراطية، المواطنة، العدالة..) يفضي إلى تشطير الكرزازي، كونه يفتقد إلى هذه المفاهيم في واقعه، فيعيشها استيهاميا، وبالتالي يعيش فارغا لا ممتلئا.
إذا أخذنا المفاهيم المذكورة أعلاه، وأخذنا الإشهارات التي تبثها التلفزة، فنجد أنها تمرر وتصور إنسانا كاملا، وبما أن الكرزازي غير كامل في واقعه، فإنه يستدخل المفاهيم والإشهارات التي تبثها التلفزة كايديولوجيا، فيعيش كاملا استيهاميا، ومن ثمة تتماشى هذه الصيغة مع ما يقوله ألتوسير أن الايديولوجيا هي الكيفية التي يعيش بها الكرزازي مع ظروف عيشه، وهي ليست العلاقة مع ظروف عيشه، وما ذلك الاستيهام سوى تعبير عن معاناة يتكبدها في واقعه، لهذا يهرب منه نحو الخيال والوهم (مخصناش ومعندناش....في الواقع ر خصو كلشي)، فحينئذ تكون الايديولوجيا هي التعبير عن علاقات الناس بعالمهم، فيلتحم الواقع (المزري) والفكر (الجميل)، وغياب المحاكاة بين الواقع والفكر يحول دون تحقيق التغيير، كون الكرزازي يسوده الاطمئنان حيال واقعه ولو استيهاميا ...وهذا ما يعبر عنه انعدام الحس الاحتجاجي والنقدي، وسيادة ثقافة الاجترار والعبودية.
ما يمكن أن نستشفه من طرح ألتوسير أن الايديولوجيا خارج الوعي الكرزازي، لكنها سرعان ما تدخل إياه، فتعمل على تشويهه وتغييبه، فتبعد إياه عن الواقع، فينشطر هذا الأخير عن الفكر، فتصبح الايديولوجيا تعبيرا عن الكيفية التي يعيش بها الكرزازيون واقعهم وليس تعبيرا عن تلك العلاقة. إن الوعي الكرزازي وعي مشوه، وهذا هو الذي يجعل الكرزازيين يجترون واقعهم المزري ويحول دون تحركهم من أجل إصلاح وضعيتهم الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية والسياسية والتاريخية والثقافية ...

------------------------------------
* ألتوسير : فليسوف ماركسي، ولد في الجزائر سنة 1918وتوفي سنة 1990، عرف بتجديده للنظرية للماركسية على ضوء الابستمولوجيا، فانتقد بشدة عبادة الايديولوجيا، من أهم مؤلفاته قراءة في الرأسمال .

------------------------------------
عبد الله عنتار/ 31/08/2014/ بنسليمان - المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كريات شمونة في شمال إسرائيل.. مدينة أشباح وآثار صواريخ حزب ا


.. مصر.. رقص داخل مسجد يتسبب بغضب واسع • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الألغام.. -خطر قاتل- يهدد حياة آلاف الأفغان في الحقول والمدا


.. ماذا رشح عن الجلسة الأخيرة لحكومة غابرييل أتال في قصر الإليز




.. النظام الانتخابي في بريطانيا.. خصائص تجعله فريدا من نوعه | #