الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صبري الاعمى تاريخ وحكايات

مفيد بدر عبدالله

2014 / 9 / 2
المجتمع المدني



أبدأ كلماتي بتعريف القارئ الكريم "بصبري الاعمى"، هو (منولوج ست) أتخذ من أرصفة شوارع قضاء ابي الخصيب - جنوب مدينة البصرة- مسرحاً وفضاءً لإدائه فنونه المميزة، له جمهوره ومحبيه، أكثر من نصف قرن من الزمان قضاها يرسم البسمة على وجوه الناس بمواهبه المتنوعة، يجيد الغناء والمشاهد التمثيلية الساخرة، أضافة لتقليده لأصوات المكائن والحيوانات بموهبة واتقان قل نظيرهما، له قدرة كبيرة على التحكم بطبقاته الصوتية، فالمشاهد التمثيلية التي يؤديها بعدة شخوص، رجال ونساء واطفال، يقطع المسافات البعيدة لوحده ويتوقف في المحطات التي ينتظره فيها عشاقه، لم اره يوما يمسك عصا، تحمله أقدامه بحركاتها الرتيبة والسريعة، يتحسس موضع خطواته القادمة بأطراف اصابع قدميه قبل ان تطال الارض ، شاهدته مرات وانا طفل صغير في طريقي لمدرستي(باب سليمان) ،ظلت تلك الصور محفورة في مخيلتي ولم تغادرها الى اليوم، رغم اني في منتصف عقدي الرابع من العمر، تراودني كثيرا في منامي ويقظتي، يتراءى لي وهو جالس تحت "قصرالهارون" الاثري مستظلا بشناشيله المزدانة بأخشاب الساج ذات اللون البني الزاهي وبطابوق مزخرف مستورد من الهند حيث قام بجلبه الجد الاكبر لعائلة الهارون، فامتزجت فيه عدة فنون حتى صار احد روائع البناء في التاريخ الحديث، والصورة الاخرى لصبري وهو يعبر واثقا "جسر باب سليمان" الخشبي القديم، الذي بناه العثمانيون قبل دخول القوات البريطانية البصرة، وعند ناصيته الجسر الجنوبية يباع السمك والقصب والحلفاء، يربط الصيادون بخشبه قواربهم، كان صبري الاعمى يمر من فوقه ولا يخشاه، مشهد كنت اراه من امام مدرستي التي تقع على الجانب الاخر من النهر وفي موقع يتوسط المسافة بين الجسر والقصر، غادرت ابي الخصيب هاربا من رائحة البارود والموت في حرب الثمانينيات، أحمل معي ذكرياتي التي ظلت متقدة في ذهني وقلبي عشرات السنين، فالقصر والجسر وصبري الأعمى ومدرستي وذكريات الطفولة لم تفارقني، وما كان يذكرني بصبري في مكاني الجديد "تومان" عازف الناي بأنفه، المتمايل راقصاً بجسده الطويل والرشيق، شاهدته في بعض عروض الحفلات، وصرت اقارن لا اراديا بينه وبين صبري الاعمى، فوجدت تومان اوفر حضا من صبري فقد نال شهرة واسعة وتناولته وسائل الاعلام مرارا، واذكر اني شاهدت (اوبريت) سمي باسمه .
عدت لقضاء ابي الخصيب بعد توقف الحرب بأعوام، فلم اطيق البقاء بعيدا عن الترع والانهار، والنخيل وافياءها، وكل ما حول مسكني القديم من عوالم خصيبية، تبرق بالتعاطف والمحبة، لكن معاول الازمنة القاسية كانت قد فعلت فعلتها باشيائي التي اعشقها، فلم يعد القصر الذي كنت اعرف، ولا الجسر الخشبي الذي عهدته، تهرأت الشناشيل الخشبية وتساقطت اجزاء كبيرة منها ولم يعد يستظل بها صبري الاعمى، ترك المكان مبتعدا، اما الجسر فصار يخشى عبوره هو والمبصرون بعد ان صار محطما، مقطع الاوصال، و المفارقة العجيبة أن يحس الاعمى بالخراب ويبكيه ولا يحسه او يراه المسؤولون، يبدو ان التراث عندهم لم يعد ذا قيمة تستحق الاهتمام، فقصرالهارون وجسر باب سليمان الخشبي، يحتاجان للاهتمام والترميم، ومعهم صبري الاعمى هو الاخر يحتاج للرعاية الحكومية ليتقاعد ويخلد للراحة وهو يقضي ايامه الاخيرة بعد ان نوفر له حياة كرية ويمنح أجر ثابت مكافئة له بعد اكثر من خمسين عاما أمضاها للإسعاد الناس ولو كان زهيدا ولا يعادل عشر ما يتقاضاه البرلمانيون عن اربع سنوات أمضوها بعضهم في عرقلة التشريعات و ظلم الناس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال


.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني




.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط


.. خالد أبو بكر يرد على مقال بـ -فورين بوليسي-يتهم مصر بالتضييق




.. جامعة كولومبيا: فض اعتصام الطلبة بالقوة واعتقال نحو 300 متظا