الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ورقة من بقايا الذاكرة ..

حامد حمودي عباس

2014 / 9 / 4
الادب والفن


كنت منكمش فوق مقعد السيارة ، تحمل سحنات وجهي كل غباء العالم ، انظر ببلادة متناهية خلال النافذة الامامية الى ما حولي ، وحديثها وهي وراء المقود ، يمطرني بمؤثرات لا قبل لي بتفكيك معانيها على الفور .. كم تمنيت حينها أن يسعفني القدر بكأس من تلك التي يستنجد بها الحالمون كي يستفيقوا من كوابيسهم المرعبة .. كانت وهي تتحدث تعترض لسانها وقفة عند حرف ( الراء ) ، اشعر بها وكأنها شحنة خفيفة من تيار كهربائي ، يحرك في صدري غصة رافقتني سنين طوال ، راحت تطفو في دواخلي ، مثيرة الرغبة الشديدة في العثور على منفذ يتيح لي الفرار من طوق يحاصرني ليل نهار ، ويمنعني من تحقيق رغبات قد تقترب من رغبات الاطفال ..
كنت اغزو بنظرات خاطفه ، طرف بنطالها القريب مني ، وهو يبعث بطيف من الالوان لم تترك لي رهبة المكان القدرة على تمييزها .. كانت تدير المقود بيد واحدة ، تاركة الاخرى لتعينها في تفسير معاني حديثها غير المنقطع .. التفتت نحوي وبشكل مفاجئ ، فاستيقظت وعلى عجل كل قدراتي على البحث في ذلك الطلسم المهيب .. ووجدتني دون عناء التصق بعينيها ، ثم أحيد عنهما فوراً عائداً الى بلادتي ، تلفني الحيرة في كيفية الخروج من مأزق الحضور وسط طقوس بدت لي غريبة ، رغم مهارتي في رشف رحيق ما يصادفني من طقوس انثوية عابرة .
- أراك ساهم ولا تشاركني الحديث ؟ .. أتراك في ضيق مني ؟
قالتها وهي تقترب بسيارتها الفارهة من حافة الرصيف ، وكأنها تشعرني باستعدادها لمفارقتي وقطع نلك الرحلة التي فرضتها علي واجبات العمل الرسمية ..
اجبت على الفور ، وكأن لسعة من دبور ضخم قد اصابتني في حنجرتي :
- كلا سيدتي .. لم اكن ساهم في شيء سوى الانصات لحديثك الممتع ..
- كنت اسأل ، ما رأيك في أن اغلب المطلقات اليوم ، هن ضحايا انفسهن وليس للرجل ذنب في ذلك ؟ .
تحركت في مكاني ، ثم أجبت :
- انت سيدتي ، مديرة لشركة معروفة ، ومن المؤكد بانك تتمتعين بقوة شخصية تؤهلك لاتخاذ ما يناسبك من قرارات سواء في بيتك ، او في الشركة .. الامر الذي تفتقر له الكثير من النساء .. وحين يحدث خلاف ما بين زوجين لا تتمتع الزوجة فيه مما لديك من مؤهلات ، تبدو الزوجة وكأنها وفي جميع الحالات ، هي المذنبه .
- أين عدالة القضاء إذن ؟ ..
- ليس هناك من قضاء عادل وبشكل مطلق في بلادنا ..
مالت بسيارتها لتتوقف امام كشك لبيع السكائر ، ثم فتحت زجاجة النافذة القريبة مني ، ومالت بنصف جسدها نحوي لتنادي صاحب الكشك ، مستفسرة عن نوع دخانها المفضل .. وجدتني التصق بظهري على المسند الخلفي للمقعد ، انسابت خصلة من شعرها الاسود على كتفي ، فشعرت وكأنني واقع تحت اطنان من الاثقال ، في حين حبست انفاسي تماماً خشية ان أتسبب لصفحة وجهها بأي ضيق .. ما هذا ؟ .. انه عالم فسيح من الطراوة وخليط من العطور المبهجة للروح ، مساحات من الجمال لم يدعني الوقت ان أسوح فيها كي اعلن للعالم اعترافي غير المشروط بكل آلهة الحب ، وإلحادي بكل آلهة الموت والحروب .. عادت الى مكانها متبرمة بعدم حصولها على ما تطلب ، ثم انطلقت من جديد ، وقد دفعتها حاجتها للتدخين ، ان تسرع نحو هدفها لنصل الى هناك قبل الموعد بحوالي نصف ساعة .
ثمة تمثال صغير لكائن غريب ، يفتح فمه لتنساب من خلاله حزمة من الماء ، وبقية من اوراق خضراء حسبتها اصطناعية لعدم تغير لونها تسبح في بركة تحيط بالتمثال .. وحركة دؤوبة لنادلين كانا يلبيان طلبات الزبائن ، ومسرح ضيق الابعاد يحتل الركن البعيد من المكان لم يكن يعتليه أحد .. عدد من الرجال والنساء ، يتوزعون على غير انتظام بين الطاولات مثنى وثلاث ، لا يصدر عنهم غير همس وابتسامات تريح المشاعر ..
- ماذا يحلو لك ان تطلب .. فكل شيء هنا متوفر .
قالت لي وهي تختال بجسدها المنحني الى الوراء قليلاً .
كنت أود ان اطلب برميلاً من العرق ، أو الفودكا الروسية ، أو النبيذ المعتق ، لتتمكن عشرات الجرافات العملاقة من حرث ما بداخلي من سقم .. انني بحاجة الى جميع انواع الآلات الحادة لكي استطيع احداث جرح يخرج من دمامل روحي قيحاً سكنها منذ الولاده .. بحاجة الى انواع الاسلحة الفتاكة لاحارب بها ما سلطه علي وطني من دمار لا يريد ان يتوقف عن صنعه .. شعرت حينها بأنني امتلك كل جبروت الطغاة ، لأنهال على هذا العهر البشري حرقاً وتمزيقاً كي اتخلص من عبودية العيب والحرام ، والاستعداد لليوم الاخر .. لقد بدا لي حينها أمر ارتكاب كل الحماقات ممكن وحلال .. كل الحدود مفتوحة ، وليس علي الا النط من مكاني محطماً ما حولي من جدران غرز أسسها الأجداد السفلة ، ليبقوني حبيس الإرث ، والاخلاق ، والدين ، وأعراف السلف الطالح ..
- عرق .. اريد عرقاً .. أي شيء مسكر ..
ضحكت من اعماقها ونظرت الي بشيء من المكر .. ونادت النادل لتطلب اثنين من القهوة البرازيلية الفاخرة .
شجعتني ضحكتها لعبور الحدود الاولى بيني وبينها فقلت لها :
- لماذا سيدتي كان حديثك معي مهتماً بالمطلقات ؟ .. ما الذي دفعك للخوض في موضوع انت بعيدة عنه تماماً ؟ .
- وما أدراك بأنني بعيدة عن هكذا موضوع ؟ .. أنا مطلقة .. وطلاقي حدث مرتين ..
صمتت حين بدأ النادل بوضع القهوة على الطاولة ، ثم اردفت :
- ان أحلى ما في الطلاق ، هو أن المرأة تستطيع التخلص من كابوس يقضم حياتها رغماً عنها وفي الوقت الذي تريد .. صحيح بأن بقية النساء لا يستطعن ما أستطيع أنا فعله من هذه الناحية .. ولكنني اعتبر القدرة على ايقاع الطلاق من قبل المرأة ، هي افضل نعمة أنعم الله بها عليها .
هتف ضميري في السر ، ترى .. هل ان طلاق هذه المرأة من زوجها ولمرتين ، حفل بما تحفل به بقية الطلاقات عند الفقراء ؟ ..
شرد ذهني مرة اخرى ، لينقلني الى تلك اللحظات التي قضيتها رغماً عني على بوابة إحدى محاكم الاحوال الشخصية باعتباري شاهداً في قضية تخص أحد الاقارب ..
الكنبات الخشبية المرصوفة بمحاذاة جدران الممر الضيق ، جميعها كانت مشغولة بصبايا ومن كل الاعمار ، وهن ينتظرن دورهن في الدخول الى غرفة القاضي .. الوجوه المتجهمة تدل على ان جميع القضايا هي قضايا طلاق .. ليس هناك من قضية زواج حسب تقديري بما فيها تلك التي جئت أنا من أجل الشهادة فيها .. لقد بدأت ، وبما في رأسي من مجسات ، اتحرك بين الوجوه على التوالي لأقرأ المستور .. لم الاحظ واحدة ممن امامي من فتيات تحمل على محياها ملامح الأسى مما هي فيه .. جميعهن ، الا القليل ، من لم تضع على وجهها مساحيق التجميل .. كل الحواجب تم حفرها فوق العيون المتوثبة ، خطت باعتناء لتكون متعرجة وبحدة غريبة .. الشفاه لم يفارقها الأحمر وكذلك كحل العيون .. البعض منهن كن يتجولن بين بقية غرف المبنى مسرعات ، وبين ايديهن اوراق أو ملفات تدل على اتقانهن فن ترويج قضاياهن في اروقة المحكمة .. حديث لا يسمع منه شيء يجري هنا وهناك بين المحامين وصاحبات الشأن .. احداهن مرت من أمامي ، وحبات العرق تسيل من طرف انفها ، وهي تداري حزمة اوراقها لترصفها على عجل بين يديها ، فاصطدم جسدها بساقي وبقوة ، فظننت بأن عاقبتي ستكون على شر ، ولكنها اكتفت بالنظر لي باحتقار واضح ..
القدرة على التنفس بدت وكأنها ستتوقف من شدة الزحام ..
صاح الموظف الواقف خلف طاولة من الخشب وضعت في نهاية الممر .
- .. ارجوكم الانسحاب الى الخلف .. الملفات امام القاضي وسوف ننادي بالأسماء تباعاً .
صوت لإحداهن هتف في مكان ما :
- اين الشرطة .. اريد الشرطة حالاً لتوقف هذا الغير مؤدب حتى يكف عن مضايقة الحريم .
لم يلتفت لها أحد ..
أخرى كانت تقترب من سن الاربعين ، بدت عليها ملامح العوز ، وكسى وجهها لون رمادي وكأنها لم تتعرف على مادة الصابون خلال حياتها .. صاح بها الموظف من بعيد :
- انت .. متى اوقع زوجك عليك الطلاق ؟ ..
دست جسدها بين الحشد لتقترب اكثر ، ثم قالت :
- في شهر رمضان .. رمضان الفائت .. طلقني ابن .... بسبب .. استغفر الله العظيم .
ثم اجهشت بالبكاء ..
لا يوجد أي تحفظ لدى المتخاصمين عند قاضي الاحوال الشخصية في طرح قصصهم وبشكل علني .. لقد كنت احياناً امسك بهذه التي امامي ، أو تلك التي تحمل بيدها قنينة صغيرة من الماء ، لأضعها في خيالي على السرير ، واتمثل زوجها كما يشاء خيالي ايضاً ، ثم اركنه بجانبها قبل ان اعد سيناريو اللقاء الحميم بينهما .. ارسم ملامح ممارسة الحب على وجهها وهي تستجيب لتفاعلات اللقاء .. كيف ستكون يا ترى ؟ .. هل تبتسم ؟ .. تتجهم ؟ .. تغمض عينيها مستسلمة لبواعث اللذة ؟ .. تلك صاحبة قنينة الماء ، أراها اكثر كفاءة في تنفيذ اهم مشاريع الزوجية .. ما الذي يجعلها إذن لا تحسن تنفيذ بقية المشروع ؟ ..
الغريب هو أن عدد النساء المتجمهرات في المحكمة ، أكثر بكثير من عدد الرجال ، لو افترضنا بأن القضايا هنا تتطلب وجود رجل وامرأه .. هل يعني هذا بان الزوجات هن من رفع قضايا الطلاق وليس الازواج ؟ ..
أحد الاصدقاء وهو محامي ، قال لي ذات مرة ، بأن الحال ستبدو اكثر مدعاة الى التأمل ، لو قدر لك ان تتواجد عند دائرة تنفيذ نفقات المطلقات .. فهناك ستعيش مباشرة فصول من نوع آخر ، وسوف تدخل عنوة في متاهة ، قد تحيد بك عن افكارك الثابتة في بواعث تسليط العنف على المرأه .
صحوت فجأة على صوت النادل ، وهو يحاورها حول بعض المشاكل التي تواجه عمله ، فعلمت بانها هي صاحبة المكان ، ثم رنت لي والابتسامة تعلو محياها ، وأشارت علي بالتوقيع على ورق وضعته امامها ، وهو سبب خروجي معها في سفر قصير للكشف على مزرعة تعود لشركتها يثبت بان المزرعة لا تملك مصدراً للري من مياه الانهار .
- اين هي المزرعة سيدتي ؟ .. انا لم ازرها بعد ؟
- ولماذا عليك ان تزورها الآن ؟ .. سوف تكون ضيفاً علي وعليها في يوم لاحق .. وقع ولا تجادل .
- سيدتي ...
- وقع يا رجل .. هذه خارطة الموقع امامك .. أيوجد ما يثبت وجود انهار في المنطقه ؟
- كلا .
- وقع إذن .
- لماذا لا تتكرمين علي برشوة واحده كي افعل ما تريدين ؟
- ماهي ؟
- ان ابقى هنا ، في هذا المكان لشهرين متتاليين ..
ومع اهتزاز الارض من تحتي جراء ضحكتها ( المصيبه ) .. دارت الدوائر مسرعة في كياني لينتابني دوار للحظات ، وامتد كفي بالقلم ، ليمهر في مكان على الورق مرتين ، معترفاً بان مزرعة السيده ( ........ ) لا يمدها نهر بمياه الري ..
ولم اعد لطلب اللقاء بالسيده .. ولم ارى مرزعتها حتى وقتنا الحاضر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته


.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع




.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202