الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اللغة والقوة

علاء عبد الهادي

2014 / 9 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




تعتمدُ الهوية القومية على تاريخ مشترك, وصفات مميزة لأناس يجمعهم هذا التاريخ. وقد مثلت النزعة القومية المنتصرة الحقيقة المركزية للعصور الحديثة, ومارست الدولة القومية, على مرّ تاريخها, من خلال طرائق عديدة, ومختلفة, عملية إدارة المعنى, من أجل الحصول على شرعيتها, ارتباطًا باللغة القومية، وذلك من خلال ما تتوجه به أجهزة الدولة المختلفة, إلى رعاياها, لتغديتهم بالشعور الوطني, حفزًا لفكرة الأمة، وذلك من أجل بنائهم على المستوى الثقافي, بوصفهم مواطنين, وهي عملية تشتمل على قدر من تحقيق التجانس, بوصفه هدفًا للتخطيط الثقافي القومي. وقد فرض الوضع العالمي الجديد, على الثقافات القومية, متغيرات جديدة, ارتباطًا بالوارد إليها من ثقافات, تصل اتجاهاتها إلى النقيض, عبر وسائط اتصال حديثة, ومن خلال تدفقات ثقافية, تقع في خارج سيطرة رقابة الدولة الوطنية على فضاءاتها المعرفية, والاتصالية, من أجل هذا ذهب عدد من المفكرين إلى إننا نقف الآن، عند عولمة الثقافة.
وحين كانت الثقافة تمثل تدفقًا للمعنى في علاقات مواجهة مباشرة بين الناس , كنا نفكر في الثقافات بوصفها كيانات لها حدود مختلفة, واقعة في أقاليم, لكل إقليم خصائصه, لكن الأمر الآن اختلف عما كان عليه كثيرًا, وذلك عندما أتاحت التكنولوجيا وجهًا جديدًا للتواصل الثقافي، وأصبح الناس أكثر تحررًا من قيود الحركة والتنقل. وهذا ما أثر على تعريف الثقافة. وتظل قوة الثقافة كامنة في قوة العلاقات الاجتماعية التي تنقل افتراضات عن العالم, من شخص, أو موقف, إلى آخر, فالثقافة نصّ، ومادة ذات خصائص, قد تختلط, مع ثقافات أخر, أو تمتزج بها, حيث تنتقل ثقافات عديدة الآن في واقعنا المعيش بين التأثير والتأثر, من خلال جغرافية لغوية واتصالية جديدة, وهذا ما يفسر علاقة اللغة بالقوة.
وكما يقول الباحث الأسترالي بيل أشكروفت: "اللغة قوة, لأن الكلمات تبني الواقع, وغالبًا ما يفشل سكان الأطراف في إدراك أن الرابطة بين اللغة والقوة تكمن في القدرة على السيطرة على وسائل الاتصال", يلفتنا هذا إلى قضية مهمة، تقع في مركز أي نقاش حول العولمة والثقافة، وهي المرتبطة -تحديدًا- بالجوانب التصورية, والبراجماتية للتفاعل, ويتعلق هذا الجانب بعملية "بناء الواقع" القائمة عالميًّا الآن، فالوعي الواضح لدى الناس الآن يرى أن أحداث العالم كلها في متناول أيديهم. وبأنه ليست هناك ثقافة نقية, وأنها جميعًا مشتملة على عناصر من بقاع أخر. وهذا ما يشكل رؤية عن فسيفساء ثقافية تجري الثقافات فيها على حوافها, وتتدفق كل واحدة منها في الأخرى, وذلك بعد أن قطعت هذه التدفقات الثقافية حدود الجغرافيا, والعرق، وحدود الطبقة, والقومية، والدين, والأيديولوجيا.
من هذه الزاوية, تجد المجازات التي نطلقها حول هذه العملية مثل: التهجين, والمزج, والاختلاط, صداها. وذلك بسبب قدرة وسائل الإعلام والاتصال التكنولوجية الفائقة على نقل صورة الحدث, وما يشبه الواقع إلى أي مكان في الكرة الأرضية, من خلال لغة إنجليزية مهيمنة من جهة, ولغة صورة كثيفة وسريعة من جهة أخرى, حيث فرض اختلاف الوسيط المعرفي, من وسيط كتابي, إلى وسيط جديد مرئي, آليات جديدة في ما يُسمى أسواق الإنتاج الثقافية, خصوصًا ما يرتبط بنسبة الإقبال الجماهيري, وما ينتجه ذلك من تورط ملايين المشاهدين عاطفيًّا, أيًّا كانت أماكانهم, أو كانت لغاتهم, فيما يشاهدونه, وهي سمة أضحت شديدة التأثير على القيم الاجتماعية القومية, على نحو منح العالم مظهرًا يتسم بالاتساع الشديد, وبالضيق الشديد في آن, كما ارتبطت -على نحو لا فكاك منه- بالقدرة التكنولوجية, وبامتلاكها. فكل سلعة تقيم علاقة ما, تفرض شكلا من شكول التبعية بينها وبين مستهلكها.

تهيمن على هذه الثقافة المتداولة على نطاق عالمي الآن, والتي تحتل الثقافة الجماهيرية الأمريكية جانبًا كبيرًا منها, لغات اتصال قوية, حددت قوتها ثلاثة عوامل الأول: عدد المتكلمين باللغة التي يحدث بها هذا الاتصال, والثاني هو: نسبة توزع هؤلاء المتكلمين على مساحة جغرافية واسعة ممتدة, بما يفرضونه من تفاعل في بيئاتهم الثقافية المختلفة, ومحيط كل منهم الثقافي, وهذا ما يجعل من عدد المتكلمين بلغة ما من غير أهلها, عاملاً مهمًا في هذا الإطار, والثالث هو: وجود هذه اللغات, إنتاجًا واستهلاكًا, على نحو فاعل في المنتديات الدولية, والمؤسسات العالمية, والمنتجات الثقافية التي تتخذ سمتًا كوكبيًّا في انتشارها. فعدد المتكلمين بالصينية الآن هائل, لكن تأثير هذه اللغة على الشبكة, أو حضورها الفاعل في المؤسسات الدولية, لا يزال ضئيلاً, بسبب العامل الثاني السابق. ومن اليسير ملاحظة توافر هذه العوامل الثلاثة بقوة في اللغات: الإنكليزية, والفرنسية, والأسبانية, والألمانية, بخاصة, دون غيرها. ومن الجدير بالإشارة "أن اللغة التي لا تهييء ذاتها بيسر للترجمة من اللغات الأعلى انتشارًا, لن تحظى إلا بتقدير ضئيل, مثلها مثل العملات غير القابلة للصرف, فقيمة لغة ما تتحدد في إطار علاقتها بقيمة اللغات الأخر, فللغات قيمة سوقية, لها جانب تبادلي, قد تملكه اللغة بوصفها سلعة, بل إن ما نلاحظه من تواز بين قيمة اللغات القوية, وقيمة عملاتها! ما يستدعي الوقوف والتأمل.
يتضح -من خلال هذا التناول- أن التفوق الثقافي على المستوى الكلي, تتحكم فيه على نحو مؤثر العوامل الثلاثة المذكورة آنفًا, فكلما ارتفع نصيب لغة ما من عامل أو أكثر من هذه العوامل الثلاثة, زادت قوة هذه اللغة, وعظمت قدرة منتجاتها الثقافية على التأثير على الثقافات الأخر, وهذا ما يطرح أهمية أن يمتلك المشروع الثقافي المصري رؤية استراتيجية من الدولة تستهدف نشر منتجاتنا الثقافية على المستوى الدولي, فضلا عن ضرورة دعم اللغة العربية على المستوى المحلي. فالعلاقة بين قوة المنتج الثقافي, وقوة الاقتصاد القومي, هي علاقة طردية على الدوام, يؤثر كل طرف من طرفيها في الآخر..
*(شاعر ومفكر مصري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اليمن.. حملة لإنقاذ سمعة -المانجو-! • فرانس 24 / FRANCE 24


.. ردا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين: مجلس النواب الأمريكي




.. -العملاق الجديد-.. الصين تقتحم السوق العالمية للسيارات الكهر


.. عائلات الرهائن تمارس مزيدا من الضغط على نتنياهو وحكومته لإبر




.. أقمار صناعية تكشف.. الحوثيون يحفرون منشآت عسكرية جديدة وكبير