الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الترجمة والتعريب

علاء عبد الهادي

2014 / 9 / 5
التربية والتعليم والبحث العلمي


ربما أتفق مع من يذهب إلي أن هناك اختلافا بين وضع الترجمة العربية الحديث‏,‏ ووضع الترجمة إبان الفكر العربي الإسلامي في القرنين الثالث والرابع للهجرة‏,‏ فلم يكن المجتمع الإسلامي آنذاك يجري لاهثًا من وراء ماينقصه‏,‏ بل كان يثبت معالم شخصيته الحضارية في ذروة قوتها‏,‏ وعنوانها‏,‏ فاستوعب ما امتدت يده إليه ليس من أجل نسخه‏,‏ ولكن من أجل إجابة اسئلته الخاصة النابعة من كيانه‏,‏ كما يذهب إلي ذلك الباحث التونسي كمال قحة‏.‏

وقد حدد الفكر الإصلاحي العربي موقفه من قضية الترجمة من خلال رؤية تذهب إلي أن نقل العلوم والأفكار من العالم المتقدم, واستنباتها في تربتنا العربية هو المهاد اللازم لأية حركة تقدم حقيقية‏,‏ وهي نظره يكمن في داخلها حس إلي ما لايتضح في النقاش النظري ولكن يتضح في سلوك هذه المؤسسات العملي‏,‏ وفي برامج المتابعة الناقصة التي لايهتم بها القائمون علي هذه المشروعات‏,‏ فلا توجد أية دراسات أو قواعد بيانات تملكها إدارات هذه المؤسسات‏,‏ عن تأثير هذه الترجمات علي مجتمعاتها, وعن جدوي إصدارها علي الواقعين العلمي والثقافي‏.‏

لم تتمتع اتجاهات الترجمة التي تبنتها المؤسسات الرسمية العربية بعامة‏,‏ بسياسات واضحة المعالم‏,‏ ذلك لأن مشروعات الترجمة العربية لم تبن إستراتيجياتها علي دراسة الواقع الراهن وفق لغة التطور الاقتصادي‏,‏ بحيث إننا لانعدو الحق إذا قلنا إن عددًا كبيرًا من المختار المترجم من مؤسسات الترجمة الرسمية العربية ـ وفي هذا تعميم جائر لكنه ضروري في هذه المساحة الصغيرة ـ قام علي المصادفة‏,‏ والذوق الفردي‏,‏ كما افتقر إلي أعمال العلوم الانسانية التي تقوم علي التفسير النقدي للواقع‏,‏ وهذا ما وضع هذه الترجمات في مساحات آمنة‏,‏ وافقدها جزءًا من قدرتها علي التأثير الاجتماعي‏,‏ فلم تتبن هذه المؤسسات خطة إدارة استراتيجية تصنع توجهًا ثقافيًّا تراكميًّا عبر تصورات واضحة‏,‏ تتبني حجم المنشور ونوعه علي نحو يحقق أهدافًا محددة تسعي إلي ثقافة تخدم أهدافا في الإستراتيجية العظمي للدولة في ظل ظرفنا الحضاري المعاصر‏.‏

وكان من تجليات هذا القصور أن انصب اهتمام حركات الترجمة القائمة علي مشروعات مؤسسية قومية علي المستوي العربي‏,‏ بترجمة العلوم الانسانية‏,‏ وبترجمة الأعمال الابداعية العالمية‏,‏ دون ان تنال ترجمة العلوم الطبيعية الاهتمام ذاته‏.‏

إن النقص الحاد لأعمال العلوم الطبيعية المنقولة إلي العربية هو أمر شديد الخطورة علي ثقافتنا العلمية, فالبرغم من أن اتقان اللغة الانجليزية أصبح ضرورة لكل مشتغل بالعلم, فإن ترجمة العلوم مستهدف ضروري إذا أردنا توافر البعد الاجتماعي لتداول هذه العلوم في لغتنا القومية من جهة‏,‏ فضلا عن كونها تتيح مصادر هذه العلوم لمن لايستطيع الوصول إليها في لغاتها الاصلية من جهة أخري‏,‏ ويمكن أن يرجع القاريء إلي مجموعة أعمال اي مشروع قومي للترجمة في دولنا العربية كي يتأكد من ضآلة نسبة كتب العلوم الطبيعية المترجمة في هذه المشروعات, وعشوائية اختياراتها‏,‏ هذا فضلا عن النقص الحاد في ترجمة مختارات من الدوريات العلمية البحثية‏,‏ فكثير من البحوث المهمة المعاصرة تظل حبيسة الدوريات العلمية الغربية‏,‏ وهي دوريات غير متوافرة في عالمنا العربي‏,‏ بل يصعب الحصول عليها لغير المشتركين فيها‏.‏

أما النقطة الثانية المرتبطة بالترجمة العلمية في هذا السياق فهي تخلفنا الشديد في تعريب التعليم الجامعي‏,‏ وهو وضع قائم وشديد الخطورة‏,‏ فضلاً عن كونه هدفًا لايمكن تحققه بمبادرات فردية‏,‏ بل يتحقق بإرادات سياسية تتفهم سرعة الإنتاج العلمي العالمي‏,‏ وتراكمه‏,‏ وتسعي إلي ان يكون لها مكانًا لافتًا في المشهد العلمي المعاصر‏,‏ ذلك لأن أي حراك مثمر في الترجمة يرتبط بمحورين‏ أساسيين,‏ الأول‏:‏ هو الشروط الفنية للترجمة ذاتها‏,‏ والثاني‏:‏ هو تأثير هذه الترجمة, في ظل الشروط الاجتماعية التي تحتضنها وتتبناها‏,‏ فمن المهم أن يستطيع الأكاديمي أن يقدم معارفه إلي مجتمعه‏,‏ إسهاما في تنمية العقل العلمي‏,‏ وهذا ما لن يتسني إلا بتمكنه من لغته العلمية القومية‏,‏ الأمر الذي يحتاج إلي مترجم يجمع بين التخصص في العلم والبحث فيه ايضا‏.‏

إن قرار تعريب التعليم يجب أن يكون قرارًا سياسيًّا واكاديميًّا في آن‏,‏ وهذا ما يوفر للقرار السياسي أسباب نجاحه, فمن المهم أن تكون هناك لغة علمية واصطلاحية عربية موحدة‏,‏ بل إننا غالبًا ما نقابل لغة علمية مختلفة‏ بين دولة عربية وأخرى,‏ فضلاً عن جهاز اصطلاحي خاص بها‏,‏ فلغتنا العربية القومية‏,‏ هي اللغة الكفيلة يإيجاد تراكم معرفي‏,‏ أما السوق الطالبة لهذه البضاعة التي يجب الاهتمام بها فهي الجامعات‏,‏ فلن تشكل في وضعنا الحالي أي فرق‏ حقيقي,‏ بسبب الهيمنة الكاملة للمذكرات الدراسية‏,‏ والملخصات اضافة إلي مايسمي الكتاب الجامعي المشترك‏!‏

إن حركة الترجمة حركة غير معزولة عن شرطها الاجتماعي‏,‏ اما نهضتها فمشروطة ببيئتيها الثقافية والعلمية‏,‏ اي انها حركة تابعة في الحقيقة أكثر من كونها رائدة‏,‏ وهي وثيقة الصلة بتطور علوم اخري مثل العلوم الطبيعية من جهة وعلوم النفس واللغة والاجتماع والفلسفة‏..‏.إلخ. من جهة اخري‏,‏ ذلك لأن حيوية هذه العلوم من خلال تداولها هي التي توجد فعالية الترجمة في الواقعين العلمي والثقافي, وهي فعالية اجتماعية في مقامها الأول‏!‏

ليست الترجمة مجرد نافذة مفتوحة علي عالم الآخر‏,‏ ولكنها قناة تنفذ من خلالها التأثيرات الأجنبية لتخترق الثقافة المحلية‏,‏ وتتحداها‏,‏ وربما تحولها أيضا عن مسارها‏,‏ كما يقول العالم اندريه لوفيفرـ وهو اقتباس يطرح أهمية اولويات الاختيار القائمة علي خطة استراتيجية تخدم أهدافنا القومية‏,‏ كما يثير هذا الاقتباس قضية مهمة أخري ترتبط بقدرتنا علي التأثير‏,‏ وذلك من خلال مشروعات الترجمة العكسية‏,‏ من أجل دعم ما يرتبط بصورتنا الحضارية التي نريد الحفاظ علي ثوابتها النسبية من جهة‏,‏ وتشكيل صورتنا التي نريد تصديرها إلي من نسميه آخر من جهة أخري.
* (شاعر ومفكر مصري)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصدر أمني: ضربة إسرائيلية أصابت مبنى تديره قوات الأمن السوري


.. طائفة -الحريديم- تغلق طريقًا احتجاجًا على قانون التجنيد قرب




.. في اليوم العالمي لحرية الصحافة.. صحفيون من غزة يتحدثون عن تج


.. جائزة -حرية الصحافة- لجميع الفلسطينيين في غزة




.. الجيش الإسرائيلي.. سلسلة تعيينات جديدة على مستوى القيادة