الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 3 3 )

سعد محمد رحيم

2014 / 9 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


شغلت موضوعة ( المكان ) المثقفين العراقيين، من أدباء ومفكرين وباحثين ومسرحيين وسينمائيين وتشكيليين، بعدِّها عنصراً جوهرياً في إشكالية الهوية التي اتسع نطاق الاهتمام بها بعد سقوط نظام صدام حسين ( ربيع 2003 ) حيث توافر قدر من الحرية التي تسمح بطرح الأسئلة المؤجلة والمسكوت عنها الخاصة بهذا الصدد مع إمكانية اقتراح أفكار وإجابات برؤية عميقة صافية وموضوعية.. تلك الإشكالية التي تتصل بموضوعات السلطة والثقافة والجماعات والمكان وتتمفصل معها.. وهذا كله دخل مجال النقاش العام، وبات لزاماً على المثقفين التعاطى معها على إثر اضطراب الحياة السياسية بعد التغيير/ ربيع 2003، ودخول شرائح من المجتمع في دوامة عنف أهلي وإرهاب متعدد الوجوه والمصادر، وصراع ضارٍ بين النخب والجماعات للاستحواذ على مراكز القرار ومنابع الثروة.
يستحضر سؤال الهوية موضوعة المكان، لأن وعي الهوية الذي هو وعي كينونة إنسانية يتجذر في نسيج مكان حقيقي أو متخيل.. والمكان المتخيل لا يكاد ينفصل عن المكان الحقيقي.. وهو غالباً حصيلة قراءة وجدانية للمكان، قراءة تمتح من التجربة الذاتية للقارئ/ الكاتب، يمتزج بالعاطفة ويغلب عليها الحنين. فأنت لا ترى المكان في آنيته بل ترى ما تختزنه الذاكرة عنه، وما تختزنه الذاكرة تخالطه خميرة تخيّل، ومطيّبات مرمنسة. وفي النهاية نحصل على نص فيه من الشعر والبلاغة أكثر مما فيه من الحقائق.. نحصل على نص أدبي وليس على وثيقة دامغة.
العلاقة بالمكان هي في وجه آخر علاقة بالتاريخ؛ علاقة الكائن الإنساني عبر تجربته في المكان الذي يأخذ بالتحوّل مع ما يطرأ على الكائن من تحوّلات.. هنا تتشكل السردية المشتركة للاثنين.. السردية التي هي تمثيل للكائن وتجربته، وتمثيل للمكان.
بعد سقوط نظام صدام، وبقدر من الحرية والحب، أخذت الكتابة العراقية أمكنتنا على عاتقها.. فأسكنتها في نصوص، في نسيج لغة، بكتابة تطفح بالانفعال والوجد والصدق، وربما الوهم أحياناً، مستعيرة لأشياء الأمكنة بلاغة لم تكن مألوفة من قبل.. كما لو أن الكتّاب العراقيين سعوا لالتقاط نفائس ذاكرتهم، وأصداء خلجاتهم التي أورثتها لهم علاقتهم بالمكان، قبل أن يجرفها تيار الزمن الصاخب.. كانت تلك محاولات حرصت على مقاومة فيروسات النسيان، والحلول الأبدي في الأمكنة الراحلة، بالتواطؤ مع الساحرة؛ اللغة.
تلك الكتابات، وحتى لا تنجرف وتضيع في خضم موجات الصحف والمجلات التي تصدر وسرعان ما تتوقف وتختفي، قام الدكتور لؤي حمزة عباس بجمع بعضها بين دفتي كتاب حرره وقدّم له، ليُطبع تحت عنوان ( المكان العراقي: جدل الكتابة والتجربة ).. يقول في مقدمته: "الكتابة المكانية تمنح نفسها للمكان، تأخذه وتؤخذ به، تعيش جماعها معه لتولِّد معاني جديدة وأحاسيس لن يتحرك المكان باتجاهها من دون شهوة الكتابة وبغير لذتها الناصعة، مكافأة جماع الكتابة والمكان معنى آخر يُنتج لزمن آخر هو غير زمنيهما، إنه معنى القارئ الموهوب لزمنه الخاص، زمن قراءته التي يُعيد بلا انتهاء إنتاج المكان في غلالة المعنى لحظة يفك أسرار الكتابة في عملية أخرى من مجاسدة واحتواء، ويفك اسرار المكان".
يرصد الدكتور لؤي عبر قراءته الخاصة للمكان العراقي، وللنصوص المدبجة عنه، وفي سياق جدل الكتابة والتجربة، تحوّلات المكان والجسد والوعي والهوية، في شبكة علاقاتها المركّبة.. يقول: "ومثلما يكون تطور المكان دلالة على رقي الإنسان وتطوّره يكون تراجعه تعبيراً عن تراجع الإنسان، ارتكاسه وتخلفه، بما يدفع علاقتنا بمكاننا إلى مساحة جديدة من التعقيد، حيث الجسد يعيش مكابدته في اندحار المكان، وحيث النفس تتشبث بظلال فراديسها الغائبة، إنها تصعّد، بطريقة ما، من شروط خبرتها الإنسانية في اللحظة التي تحيا فيها ألمها محاولة إنتاج وعيها الخاص عبر معاينة الأدوار التي يتحوّل بها فضاء حيادي إلى مكان ذي معنى، لتسهم أمكنتنا، بذلك، في إنتاج طبائعنا وتشكيل أحاسيسنا وبناء هوياتنا بما تمتلئ بها من معان".
الدولة هي التجسيد الواقعي ـ العصري لفكرة المكان ـ الوطن.. المكان ـ الوطن هو المكان المسيّس الذي يستدعي شرط الأنسنة، وشرط الأمن، وشرط التحوّل، لينشئ هويته.. هوية المكان مصنوعة تاريخياً عبر الفعل البشري.. هذا الفعل البشري الذي لابد من تأطيره/ بحاجة إلى ناظم فعال. وفي حقبتنا الراهنة فإن ذلك الناظم يتمثل في الدولة بصيغتها الحديثة. وحالما يتلكأ ويتعثر أداء ذلك الناظم يختل أمن المكان.. يطل مناخ العنف.. العنف الذي يطول الإنسان يطول المكان أيضاً. والمكان العراقي كان واحداً من أكثر الأمكنة في العالم تعرضاً للعنف والتخريب خلال العقد الخير.
الفصام الذي يحل بين الإنسان والدولة، قد يفضي إلى فصام بين الإنسان ومكانه، وهذا ما حدث عراقياً منذ تسعينيات القرن الماضي برأي الدكتور لؤي، بعد أن "تلبست السلطة لبوس الدولة وترجمت كل شيء لصالحها: الشوارع، والنصب، والمتنزهات.. المدارس، والمعامل والجامعات.. المساجد، والمتاحف، والمكتبات.. حتى أصبح الوطن ممراً ضيقاً لا يؤدي إلا للسلطة ومواسم انتصاراتها، وأصبح الإنسان تفصيلاً صغيراً مهملاً في لوحة ادعاءاتها، هذا الإنسان الذي منح نفسه، في المقابل، حق الانسحاب عن المكان اعتراضاً صامتاً على السلطة ومحاولة لتأكيد حضور ذاته المستلبة، فلم يعد ثمة موحد بينه وبين الشارع، والنصب، والمتنزه، والمدرسة، والمعمل، والجامعة، والمسجد والمتحف والمكتبة، ولم تعد المدينة بامتداد شوارعها وحميمية محلاتها وتلاحم أزقتها بوابة نصف مفتوحة على الحلم والحياة".
قلت، قد يفضي الفصام الذي يحل بين الإنسان والدولة إلى فصام موازٍ بين الإنسان ومكانه، وكلمة ( قد ) التي تفيد الاحتمال، وتُعرب حرف تقليل أو تكثير بدخولها على الفعل المضارع، توحي باختلافي ( قليلاً ) مع أطروحة الدكتور لؤي، ذلك أن حميمية العلاقة بين الإنسان ومكانه قد تكون من القوة بحيث لا يستطيع فعل السلطة النيل منها. فللوعي الإنساني حيله في الاقتناع بأن ما تسميه السلطة قسراً لا يعنيه في شيء، ولا يصادر حقه في امتلاكه الروحي للمكان.. تقول أغنية لماجدة الرومي التي تؤديها مع حشد من أصدقائها في فيلم ( عودة الابن الضال، إخراج يوسف شاهين ) "الشارع لنا، لنا لوحدنا، والناس التانيين، دول مش مننا )، وتأويلي لعبارة ( الناس التانيين ) أنها تعني، في سياق قصة الفيلم، طبقة السلطة الاستبدادية.
ينحل المكان الواحد، حين يصير محل تأمل وقراءة، في صورتين.. صورة أولى الآن، بواقعيتها المفرطة الصادمة، وصورة ثانية مستعادة، من خبرة ماضية، أو مبتكرة بفعل مخيال ناشط.. المكان العراقي، من منظور الرائي العراقي، العائد من منفى، أو الخائض تجربة إشراقة وعي وتذكّر، سيستعيد صورة مختزنة، ومعتقة في طبقة غائرة من الذاكرة.. توضع الصورتان متناظرتين بحثاً عن حالات التضاد والانكسار. وقد تُعجن الصورة المستعادة بالميثولوجيا وتؤسطر.. موقع الرائي، القارئ، الكاتب يترجم مفارقة الصورتين. تلك المفارقة التي تفصح عن تاريخ سلطة، وتاريخ ناس، وتاريخ مكان، وتاريخ ثقافة.
ولعلها لعبة لغة وبلاغة أن نؤسطر تاريخ مكان، لنكشف عن واقع تاريخ الناس والسلطة والثقافة. وها هو القاص الكبير محمد خضير في نصه ( باصورا ) يقف إزاء النسخة الحالية الأخيرة ( الحادية عشرة أو العشرين ) لمدينته يبحث عن النسخ الغابرة لها، عن مخطط النسخة الحقيقية للمدينة، منتظراً مراسلاً افتراضياً يحمل إليه تلك اللقية النادرة. فالكاتب مولع بفكرة الأصل على الرغم من إدراكه، هو المتمثل لطروحات ما بعد الحداثة، بأن ذلك الأصل قد ضاع، وربما إلى الأبد، في غياهب الزمان.
"عرفت البصرة بهذا التراسل الرمزي، والتناسخ الخططي، والاختلاط العرقي، فهي تعيش الأزمنة كلها في زمن واحد، وطرقها الصاعدة هي نفسها طرقها النازلة، ومراسلوها لا ينقطعون يوماً عن الصعود والنزول، وأنا نفسي، شأن المواطنين الاخرين، لا أعلم بمخطط المدينة الذي أسكنه، أهو أصلي أم نسخة طبق الأصل، ولو علمت بحقيقته لغدوت مراسلاً أنقل مخطط المدينة لمواطني النسخ المقبلة".
باصورا هي بصرة محمد خضير، على خريطتها الافتراضية إشارة لمالكها القصاص ( البوراني ) المتلصص الجالس على الطرقات. ولا يمكن ان نتصور مخطط باصورا سوى رقعة تمتلئ بإشارات غامضة وطلاسم ورقى سحر وشفرات من عالم الروح، فهو كون من علامات متحركة، لذا نجد أن بين بصرة محمد خضير وباصوراه تنعقد شبكة من مجازات، وتتخفى ألغاز وأسرار.. "لم تنشأ هذه المدينة بأيدينا، وإنما صنعتها ألعاب الوقت، ألعاب الحجم والمساحة والعدد، ألعاب الأوفاق والجفور".
ثمة مدن تعاني من ثقل ماضيها، أي من عبء التاريخ.. تاريخها يحني ظهرها، ويظهرها مثل شيخ وقور متعب لا يستطيع أن يتملص مما حدث ويتحرر منه.. مدن عصارة هويتها في تاريخها أكثر مما هي في حاضرها، فهي موجودة بفضل ذلك العبء وتفتخر به.. تاريخها رئتها التي تتنفس بها.. تلك مدن لا تتقن النسيان.
وإذا كان محمد خضير قد نحت اسم ( باصورا ) فإن سميّه محمد خضير سلطان استعار الاسم القديم لمدينة الكوفة ( عاقولاء ) ليصفها بدءاً بأنها "ليست كسائر المدن". فهي لا تنطوي على تاريخها فقط وإنما تحتفظ بتواريخ مدن أخرى، "ارتقت بين الأزمان وخبت ثم عادت من جديد لتكون متحفاً حياً للمدن المندثرة.. تجمع أقباس المدن المدحورة وتحييها ثانية، تستعيد حطامها وانكفاءها في اتجاه جديد".. هنا تتوالى صور المساجد والصوامع والأديرة والقصور والمقابر الشاخصة منها والمندرسة.. إلى جانب حشود البكائين حاملي الرايات المقبلين من كل فج، في محاولة لتطهير العالم من الدنس والجور.
قد تتدخل معتقداتنا في رسم شكل المكان، لكن المكان يهبنا، في النهاية، بعضاً من فيوض معتقداتنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل