الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدراسات التراثية : إشكاليات المنهج والتداول

ابراهيم ازروال

2014 / 9 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ارتأى قسم من النخبة الفكرية ، الانشغال بالإشكال التراثي ، للخروج من التأخر التاريخي ، ومواجهة المعضلة في جذورها حسب ما هو رائج في أدبيات الترقي والتحديث .وهكذا ، صرفت النخبة ، جهودا جبارة ، في إنارة عتمات التراث وإماطة اللثام عن بعض جوانبه الخفية ، استنادا إلى مناهج مقتبسة من الفكر الغربي إجمالا .فبموجب هذه الرؤية ، انكب البعض على إجلاء بعض الجوانب المجهولة أو المنسية أو المهمشة في المدونة التراثية .وبمقتضى هذا التوجه ، تم الكشف عن الآراء والمقاربات التراثية ، الأقرب-فيما يتصور- إلى الحساسية والضمير العصريين .ليس التراث،حسب هذا المنظور ،قارة معرفية ، مغلقة ، بل هو فضاءات معرفية متعددة ، ومتخالفة الرؤى والمناهج والتوجهات .وهكذا يصير ، بإمكان ، العقلانيين تأصيل عقلانيتهم ، اعتمادا على أنظار النظار التراثيين ، من متفلسفة ومناطقة وعلماء ومؤرخين؛ مما يبرهن على اتساع العقل والفعالية التراثيين ، واستحالة حصر التراث في الفعالية النقلية أو الكلامية.
ليست العقلانية ، والحال هذه ، منبتة ، بل لها ممهدات و أصول سابقة في المتن التراثي نفسه.
هل أفلحت المراهنة على الرشدية والخلدونية والسينوية والفارابية والأكبرية ، في تغيير ميزان القوى المعرفي ، وتحقيق توازن معرفي ، مع المعارف والمناهج النقلية ، المهيمنة سوسيولوجيا ومؤسسيا ؟ ألا تبرهن الوقائع ، على قلة مردود الاستعمال الذرائعي للتراث ؟
كانت المراهنة على الجوانب المقصية من التراث الصوفي والفلسفي والأدبي والكلامي وتأصيل العقلانية ومستتبعاتها في الفضاء الثقافي المحكوم بسلطة التراث النقلي،فكرانية قليلة العائد العملي ؛فبدلا من أن تتنوع الرؤى، وتنفتح الأنظار المحافظة ، على المعقوليات التراثية المقصية ، بعد طول مدافعة وممانعة،يتعمق الانغلاق المعرفي، وتتسع الفعالية السياسية والسوسيولوجية والاقتصادية للأنظار الأكثر محافظة والأكثر مناوءة لروح العصر.
فالواقع أن المقاربات الجديدة الموزعة بين الانشغال الإبستيمولوجي والاستثمار الفكراني –السياسي،لم تبرح، في الأكثر ، حيز التجريب ، و التنافس على المهارات المنهجية و الإجرائية،لدرجة إلحاق المتن بالمنهج في سياق منهاجانية طاغية.
ومن الطبيعي ،أن تضعف المنهاجانية ، كل إمكانيات الاستعمال الفكراني –السياسي ، لتلك المقاربات.وهكذا ، تضيع الغاية ،في معرض الانشغال ،بالمنهاج والآليات الإجرائية.ينحصر النقاش ،في الأحسن ، في ملاءمة المنهاج المعتمد والمفاهيم المستعملة لمقتضى المتن المتناول ،دون ملامسة فحوى ومؤدى المتن بالذات.فعوض مناقشة الحقائق التداولية المتضمنة في المتون التراثية ، يكتفي الباحثون المعاصرون،بفحص العدد الآلية والمفهومية والمفاضلة بين المناهج والمقاربات.
من البين أن المراهنة على الجوانب"العقلانية "أو "العلمانية " أو المادية " في التراث،لا تحقق المقصود الفكراني؛كما أن الجمع بين الانشغالات الإبستيمولوجية ، والاستهدافات الفكرانية – السياسية ، لا يسعف ، لا في تحقيق دراسات علمية للمتن التراثي في جوانبه المختلفة ، ولا يساعد على استثمار الحقائق التراثية المعادة الإخراج والإبراز فكرانيا واستعمالها سياسيا ، في سياق تتغلب فيه الحقائق السوسيولوجية وتحجب سواها من الحقائق.

من المحقق ، أن الاستغراق في المنهاجانية ، منع من استكشاف التراث الآخر أو المتحول ،والتوغل في متاهاته واستغوار خوافيه .
ثمة اختلاف بين المقاربة العلمية للتراث والاستعمال الفكراني للقضايا التراثية لخدمة الحداثة والرقي والتحرر المجتمعي ؛والغالب على ما يقدم ،هو الجمع بين الانشغالات المنهجية والاستعمالات الفكرانية –السياسية.وبما أن هذا الجمع ،إشكالي ،نظريا ،فإنه لا يفلح لا في إنارة المادة التراثية ،ولا في استثمارها،فكرانيا وسياسيا في النزال الفكري –المجتمعي .وفي خضم المنازعات التقنية بين المختصين ،حول الملاءمة الإجرائية لبعض المناهج والآليات والمفاهيم ، يتم غض الطرف ، عن القصد الأول :و هو استثمار المادة التراثية ، فكريا وفكرانيا ، دفاعا عن التعددية والانفتاح والترقي المعرفي والمجتمعي.وهكذا يضيع العائد العملي ، الكامن خلف الاهتمام ، أصلا بالإشكاليات التراثية ، في زحمة تضارب المناهج والمقاربات والعدد التقنية .فعوض أن يكون المنهج ، وسيلة في المباحث ذات التوجهات الفكرية – العملية ، يصير غاية الغايات . والحال ، أن لا قيمة للخبرة المنهجية ، إلا بقدر ما تخدم الغائية الفكرانية –السياسية في هذا النوع من المباحث .ومن الطبيعي ، أن تنهض المقاربة المنشغلة بالإشكاليات التراثية ،على ضرورة استكشاف الجغرافية التراثية ، بكل تضاريسها ، واستعمال الجوانب الأكثر عقلانية وانفتاحا ، منهجيا ومعرفيا ووجوديا ، في الجدال الدائر منذ أزيد من قرن حول القدامة والحداثة .فالمعرفة التراثية،حسب هذه الرؤية ، مطلوبة في السياقات الراهنة ،استجابة لمطلب معرفي وسياسي ملح ، وتفاعلا مع سياق يعرف عودة أشد القدامات أرثوذوكسية.من الطبيعي ، والحال هذه ، ايلاء الأهمية القصوى ، للغايات أكثر من الوسائل ؛وإلا ما معنى الانكباب على نقاشات تقنية ، غير ذات مردود سوسيولوجي وفكراني.
لقد غرق المتناظرون ، في إشكاليات مطابقة المنهج المطبق للموضوع ، مع أن المحرك للبحث في التراث ، هو الإجابة عن إمكان استثمار التراث الآخر أي التراث الفلسفي والصوفي والأدبي والكلامي- الاعتزالي تعيينا - ،في تسويغ العقلنة والدمقرطة والتعددية الفكرية،في أوساط متمسكة بالمقررات التراثية دون انكباب تاريخي وفكري على ملابساتها وشروط إمكانها وحمولاتها المعرفية والوجودية .
فالملاحظ ، أن الجدال ينصب ،عموما ،على الملاءمة المنهجية لا على النجاعة العملية ، على الفعالية التحليلية لا على الجدوى الفكرانية .
(ومع أن باحثنا(يقصد محمد عابد الجابري) وعدنا منذ البداية على انه يبغي التعرف على العقل العربي "من داخله"،فإنه لم يستطع الوفاء بهذه المهمة ، لأنه يفصل بين موضوعه ومنهجه ، وكأنه يتصدى للموضوع وقد جلب معه منهجه سلفا.فالمسألة هي مسألة المنهج .ذلك أن المنهج لا ينفصل عن الموضوع ، والطريقة لا تنفصل عن الحقيقة . )
(-علي حرب –مداخلات – دار الحداثة – بيروت – الطبعة الأولى -1985-ص.28) .
ففيما تتحكم في التوجه إلى التراث ، أصلا ، حاجة عملية ،فإن المطارحات والنقود تنصب أساسا على القضايا المنهجية والأجهزة المفهومية والآليات المستعملة في تناول المادة التراثية ووضعها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية وتأويلها. والحق أن قيمة المنهج ،في هذا النوع من الأبحاث إنما تكمن في إنارة عتمات المدونات التراثية ،لا في التطابق الجوهراني مع مكوناتها ومحتوياتها.فالقصد الجوهري هنا ، هو إحداث نقلة في الفهوم ،والاستجابة للتحديات الحضارية الراهنة ،لا الإغراق في نقاشات تقنية بعيدة عن أي انهمام عملي.
وكما يطالب البعض باستمداد المنهج من الموضوع أو بمطابقة الطريقة للمتن ،فإن البعض نادى ،بحتمية تأصيل المطالب العملية –الوجودية الراهنة ،بناء على اعتبارات تداولية وبيداغوجية محددة.
والملاحظ ، أن الاستمداد المطلوب ، يبقى محصورا في النظريات والأفكار ، دون أن يطال الأساليب والأشكال التعبيرية والأجناس الأدبية .
(فالتطوير من الداخل أكثر بقاء وأدوم من التطوير من الخارج ، فكل ما يحتاجه الوعي العربي حاليا من عقلانية وحرية وإنسانية وطبيعية ومساواة إنما يكمن أن يتحقق باكتشاف جذور هذه المفاهيم في التيارات المشابهة في ثقافة الناس الشعبية الممتدة جذورها في التاريخ خير من نقل هذه التيارات من ثقافة أخرى لا يمكن فهمها إلا للنخبة المثقفة والتي يسهل حصارها وعزلتها . )
(-حسن حنفي –الدين والثورة في مصر -1952-1981-ج.1-الدين والثقافة الوطنية –مكتبة مدبولي – القاهرة –ص.294) .
علاوة على ذلك فإن الاختيار المتحكم في التوجه إلى الحقل التراثي ، والابتعاد عن التحليل النظري للواقع والانشغال الحصري بالتنظيرات الحديثة والحداثية ، راجع إلى إقرار صريح بأولوية التراث واستمرارية مفاعيله في الوجدان والوعي المعاصرين في السياقات المعاصرة .فحيث لا قطائع ، ثمة استمرارية مدهشة ،للموروث في قلب المعاصرة نفسها .
(فتحليل التراث هو في نفس الوقت تحليل لعقليتنا المعاصرة وبيان أسباب معوقاتها ، وتحليل عقليتنا المعاصرة هو في نفس الوقت تحليل للتراث لما كان التراث القديم مكونا رئيسيا في عقليتنا المعاصرة ومن ثم يسهل علينا رؤية الحاضر في الماضي ، ورؤية الماضي في الحاضر . )
( - حسن حنفي –التراث والتجديد – موقفنا من التراث القديم – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – الطبعة الرابعة 1992-ص.19) .
فإذا كان التراث مخزونا نفسيا ، فيتوجب إخضاعه لمقاربات نفسية أو انثروبولوجية أو فينومينولوجية ، لا إلى المقاربات الإبستمولوجية.علاوة ، على أن الكشف عن عوالم المتخيل ، له الأولوية ، من هذا المنظور ، في الكشف عن الرموز والصور والخيالات ، المتحكمة في المتخيل الثقافي وفي المتخيل السياسي للجموع .فبناء على هذه الرؤية كان الواجب ،تحليل المتخيل الجمعي ، لا نقد العقل سواء أكان مليا أم إثنيا أو التوجه إلى إعادة بناء العلوم التراثية كما فعل حسن حنفي .
تتعدى الاستمرارية مناهج البحث والتحقق والنظر ،لتطال الرؤى والتمثلات والبنى الأنثروبولوجية للمتخيل وبواطن الوجدان ؛مما يحتم اختيار الآليات المناسبة للموضوع وللتصور النظري العام .
فمن منظور رؤية عملية منشغلة برهانات الواقع ، كان من الملائم ،الانكباب على المتخيل لا العقل ، اعتبارا لشموليته وانطباع الوعي الجمعي بأخيلته وتمثلاته وصوره النمطية.فالعائق الحائل دون ترسيخ العقلنة والدمقرطة ، عائق مخيالي بالدرجة الأولى .
ومثلما غيب المتخيل من الاستكشاف لفائدة العقل والخطاب والفكر ،تشعبت طرق استثمار فحوى المؤديات التراثية ،في التفاعل مع معطيات الواقع وتحديات اللحظة الحضارية الراهنة.فبما أن الاشتغال على التراث الآخر، استجابة لتحدي الاستعصاء الحضاري والثقافي ،وتعضي القدامات،فمن المنتظر،أن تنصب المعالجات على الاستصلاح المعرفي والترهين المنهجي ، للمواد التراثية المحللة.فالتحليل معبر إلى استثمار الحصيلة البحثية عمليا .ومن الغريب ، أن يغيب وضع نظرية في استثمار التراثيات في إعادة بناء الوعي واللاوعي الجماعيين ، عن أنظار المراهنين على جدوى المعارف التراثية ، في تعضيد الحداثة والتحديث في السياقات الفكرية والاجتماعية بشمال إفريقيا والشرق الأوسط .
لقد انخرط الكثيرون في التراثيات ، لا حبا في المطارحات التراثية ، بل لإحداث تغييرات في الوعي الجمعي ؛إلا أن هذه المطارحات ،انصبت كليا ، على المناهج والآليات والمفاهيم ،لا على نظريات الاستثمار.علاوة ، على أن الاستثمار الفعال ، يقتضي تفكيرا ، دقيقا حول الوسائط والحوامل التعبيرية . وبما أن هذا القسم من الأنتلجانسيا لم يفكر في صياغة نظرية في الاستثمار الفكراني للتراثيات ولا في تجريب الأشكال التعبيرية (أمثولات ، مسرحيات ، قصائد ، كتابات تحليلية ، كتابات حوارية ) المناسبة للمستثمرات( كما فعل ابن طفيل في حي بن يقظان مثلا ) ،فإن النقود المقدمة والاستصلاحات المنجزة ، على مختلف الجبهات لم تؤت أكلها السوسيولوجي مطلقا .
فرغم كل وعود مشروع "التراث والتجديد "،فإنه لم يتمكن من التوسع سوسيولوجيا.فبقي محصورا في دوائر ثقافية محدودة ومغلقة ، مع أنه وضع أصلا لتغيير الأطر النظرية وإحداث تحول فكري عميق ، في الذهنيات.
( "التراث والتجديد " يهدف إلى تكوين حركة جماهيرية شعبية والى حزب ثوري يكون هو المحقق للثقافة الوطنية الموجهة لسلوك الجماهير كما يهدف إلى تغيير الأطر النظرية الموروثة طبقا لحاجات العصر ابتداء من" علم أصول الدين " الذي يعطي الجماهير الأسس النظرية العامة التي تحدد تصوراتنا للكون . وابتداء من إعادة بناء الأصول تتغير إشكال الفروع بطبيعتها، الانتقال مثلا من العقل إلى الطبيعة، ومن الروح إلى المادة، ومن الله إلى العالم، ومن النفس إلى البدن، ومن وحدة العقيدة إلى وحدة السلوك. )
( - حسن حنفي –التراث والتجديد – موقفنا من التراث القديم – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – الطبعة الرابعة 1992-ص.57) .
فالواقع أن الكتابات المنشغلة بالتراث ، تنقيبا وتفسيرا وتأويلا ،لم تهتم إلا قليلا بتجاوز الحلقات المغلقة للأنتلجانسيا والانفتاح على الجموع.فإذا أولى المفكرون الأنواريون قيمة كبرى لوسائط التوصيل( فولتير و روسو وديدرو.....مثلا) ، ونوعوا أساليب وأجناس الكتابة ، فإن بعض المنشغلين بالتأصيل الفكري للمفاهيم والمتصورات الحديثة ،اعتمدوا جوهريا على الكتابة النظرية غير القابلة للتداول خارج مدارات النخب.
وقصارى القول ، أن المنكبين على الإشكال التراثي ، انشغلوا بالإشكاليات المنهجية والنظرية ، فيما يبحثون عن سند تراثي للتصورات والمفاهيم والنظريات المستلهمة، جزئيا أو كليا ، من النظيمة الحداثية .كما انشغلوا بالمباحث الإبستمولوجية ،فيما يومئ انشغالهم بالعقل السياسي والأخلاقي وبالمتخيل ، إلى أولوية التناول الأنثرولولوجي والنفساني والسوسيولوجي لقضية التأخر الثقافي والقدامة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يحذر من تداعيات اقتحام إسرائيل لمدينة رفح


.. أمريكا تفتح تحقيقا مع شركة بوينغ بعد اتهامها بالتزوير




.. النشيد الوطني الفلسطيني مع إقامة أول صف تعليمي منذ بدء الحرب


.. بوتين يؤدي اليمين الدستورية ويؤكد أن الحوار مع الغرب ممكن في




.. لماذا| ما الأهداف العسكرية والسياسية التي يريد نتنياهو تحقيق