الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية الضيق.. مقال تأسيسي رقم 1

مختار سعد شحاته

2014 / 9 / 13
المجتمع المدني


دع عنك كل الأسئلة المربكة وحرر ذاتك قبل القراءة، وتتبع معي نظرية الضيق التي باتت تحكم في كل شيء، باتت تتحكم في كل مقلد وتفصيل دقيق، فقط تعرف عليها، واعلم أنها تختلف باختلاف النظرة وباختلاف الشخص، لكنها في النهاية موصولة بشكل ما مع غيرها من النظرات والأشخاص الذين راحوا ضحيتها للأبد.
أرجوك أن تقرأ آخر فقرة في المقال قبل أن تستطرد فيه، وإلا فلا حاجة لتكمل القراءة.

الضيق لغةً:
دقق في المفردة "الضيق"، وببحث يسير تعرف مادتها الأصلية الفعل "ضيّق" من مادة "ض.ي.ق"، إذ ضيَّقَ ، يضيِّق ، تضييقًا ، فهو مُضيِّق ، والمفعول مُضيَّق، ومنها تستفحل بذرة النظرية، وتتماهي تشعباتها لتحكم في الاتساع والبراح المتخيل أو المعتقد عن الذات والعالم من حولك. ونجد لغة منها "ضيّق على نفسه" وغيرها مما تشي به المفردة عن معنى الحصر والحصار، وتتعداه لتصل إلى معنى الفقر وسوء الحال أو الهم والحزن في غالب المعلوم عن معناها "، فنقول هُوَ في ضَيْقٍ : في شَكٍّ وَ أَلَمٍ وَحُزْنٍ النحل آية 127 "وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ"، "وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ."وتتسع الكلمة في دلالتها حين الصفة المشبهة تضيف من صروفها ما يمكن أن يكون له دلالة على ضلاعتها في تأسيس تلك النظرية، وتأمل القول "ضيِّق الأُفق : محدود التّفكير ، قليل المعرفة ، ضيِّق البَاع : عاجز ، أو بخيل ، أو قليل الخبرة والمعرفة ، ضيِّق الخُلُق : بَرِم قليل الاحتمال ، ضيِّق الصَّدْر : سريع الغضب والسآمة ، عصبيّ ، ضيِّق العقل / ضيِّق التفكير : محدود غير رحب ، ضيِّق النِّطاق : محدود الأنتشار" وهي هنا "صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ضاقَ : ما كأن محدودًا غير متَّسع" . وتتواتر المعاني المتولدة والمستولدة من هذه المادة بدلالاتها الواسعة.

النظرية:
تأمل وتدبر حال الضيق، وهو ما بات مسيطرًا على تفاصيل الحياة، والتي لا يختلف فيها أو معها التعاطي باختلاف لون أو طبقة أو ملة وديأنة بكاملها، فكلها محصورة في ضيق شديد، ينتج لنا هلامات شكلية الاتساع غير أصيلة في ذاتها تنز ضيقا وقترا ومحدودية، بعد أن تكون أوهمت من حصرتهم –بكل حيواتهم- بأنهم خارج إطار هذا الضيق. ويدعو للعجب أن تلك النظرية تصل في مرحلة ما من مراحلها العُليا إلى تمويه شديد الخبث، فتعطي من تلك المساحة الهلامية المتخيلة وبراحها غير الأصيل ما يجعل البعض يُنظر على كل العالم والأشياء باعتبارها –باعتبار النظرية- وظأنا أنه أفلح في الإفلات من برثنها البغيض، وهو ما طورته آلة النظرية العجيبة. يلزمك فقط أن تنتبه لحالات وصور لما حولك في كل شيء في الساسة وفي الحكومات وفي المؤسسات وفي علاقاتنا البشرية وفي تداخلاتنا الشخصية، ستجد خيط الضيق يلضم السواد الغالب حبة إثر حبة، ويزيد في تمويه الأمر أن يسبغ هذا الهلام، فتنتشي الحبات باعتبار ما هو في الأصل متخيل.

خدعة قاتلة:
لنواجه الأمر بشيء من الحقيقة، وندقق في الكلمة التي يتجار لها الكثير الأن، "نحتاج لتفكير خارج الصندوق"، وهو وهم النظرية الأكبر، وبشيء من الفكاهة لا يستدعي ذلك سوى فيلم "الماتريكس"، أو فيلم آخر كأن على بطله الحاذق أن يوهم الجميع أنهم هو، وينتقم من عدوه بأن يدخل هذا الوهم إلى رأسه فيتمكن منه ويقتل نفسه معتقدًا أنه قتل البطل. تماما هذا ما يحدث إذ توهمك النظرية أنك في حاجة إلى تفكير جديد ناقد لكل مشكلاتك، بل لكل مشكلات الجيل والوطن، وتبدأ هنا الخطة المحبوكة، فتنطلق جملة "عايزين تفكير من خارج الصندوق"، ولعل أعظم خدعة مارستها النظرية –من وجهة نظري- هي تلك، أن تعتقد أن خلاصك في الخروج من هذا الصندوق، لكنك دون وعي وبخبث شديد من الصندوق أثبت وجوده الذي تحأول التمرد عليه. هنا أصل المشكلة ومكمن خطورة جديد.
تتعاظم سيطرة تلك النظرية "الضيق" إذ يتوهم الواقعون في أسرها ومن تلبسهم عفريتها للأبد، فيظنون أنهم خرجوا منها، لكنهم طوال الوقت يشبكون أنفسهم بخيط في صندوقها مخافة البعد أو السياحة في فضاء الكون والأفكار، وتظل حبالهم مربوطة إلى زوايا هذا الصندوق، وتراهم فرحين إذ خرجوا بعيدا عن حدوده وهم في حقيقة الأمر زادوا انغماسًا وتورط إلى حد التقيد بتلك الحبال وجعل أفكارهم ومساحاتهم كلها تقارن بحال داخل النظرية، وهي –كما قلت- أكبر الخدع التي تمارسها النظرية، فتزيدهم تيها واعتقادًا بأنهم خارجها وحقيقة حالهم أنهم قيدوا للأبد ولن تتخلى عنهم النظرية لكونهم صاروا شراشفها وقرون استشعارها التي تصيد لها الفرائس التي نجت من تلك النظرية.
سيرى البعض كلامي بتطبيق عملي لتك النظرية، ربما سيحكمون بتفاهة الفكرة، وربما بفلسفتها وربما بجنونها وربما بسودأويتها، إلا أنها في النهاية كلها أحكام ألزمتهم بها النظرية في واحدة جديدة من خدعها التي تتطور وتستمر، حتى أني أظن أني مقالي هذا آ لية جديدة من آلياتها المتطورة لإيهام البعض أنهم خرجوا منها ومن صندوق الضيق، وهنا مكمن الخطورة، والذي لا فكاك منه إلا بعلامة واحدة رصينة راسخة وهي "الاطمئنان" وأن كل هذا الضيق لا يسيطر عليك، وأنك منفلت بلا رجعة لا تربطك صلة ما أو عليقة ما بهذا الضيق.

جرب ولا تنس:
جرب أن تحكم على الأشياء والقضايا والأفكار، وإذا انتهى بك الأمر أن الحل "هو الخروج من الصندوق" فاعلم دخولك مرحلة جديدة من مراحل الضيق ونظريته شديدة البراعة والصياغة المحكمة، فقط انظر إلى علاقاتك الاجتماعية والعملية والإنسأنية وحاول أن تحلل فيها، وانظر إلى العالم كله بيتك وعملك وحيك وبلدك والعالم وحاول أن تحلل وتصل إلى الأسباب، ثم اعرضها بشفافية على مساحة الاطمئنان لديك، وقتها فقط ستعرف الإجابة.
ولا تنس يا صديقي أنه ما دام ثمة احتمال لاتهام جديد حين تقرأ هذا الكلام أو لا تحتمل أن تكمله للنهاية، فأنت الأن تؤكد النظرية بنفسك وتؤكد قدرتها على تطوير ذاتها وتطوير مادتها الهلامية المتوهمة باتساع أفق أو راحة مادة أو رضا عن النفس. الأن يا صديقي حتى تخرج للأبد من النظرية يلزمك أمر واحد وتدفع باتجاهه بكل قوة هو أنكار النظرية وأنكار صندوقها، وأنك حين تفكر تفكيرا مختلفا عليك الحذر من وصفه بأنه "من خارج الصندوق". لا تنس ربما كأن المقال تطوير جديد لنظرية الضيق التي باتت تحكم، ولا خلاص حين تخرج منها إلا بقطع علائقك أو تعويد الذاكرة على طمسها من عقلك للأبد.

مختار سعد شحاته
روائي
مصر الإسكندرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللاجئون السوريون -يواجهون- أردوغان! | #التاسعة


.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال




.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال


.. الحكم بالإعدام على الناشطة الإيرانية شريفة محمدي بتهمة الخيا




.. طفل يخترق الحكومة التركية ويسرب وثائق وجوازات سفر ملايين الس