الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهشاشة الوجودية... قراءة لخلفيات الآيدز النفسي و السوسيوثقافي و السياسي في العراق

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2014 / 9 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


للهشاشة الوجودية التي ابتلى بها الفرد في مجتمعاتنا جذور ذات ابعاد دينية و مذهبية و ثقافية و اجتماعية و كذلك سياسية، دوافع داخلية متأقلمة مع بواعث خارجية في المحيط تحرك الكائن اكثر فأكثر نحو تكبيل ذاته اولا و من ثم تقييد جسده الفيزيكي الشخصي ثانيا و في النهاية الجسد و الذات المجتمعية. كنت اتناول دائما موضوع الذات باعتبارها تكمن فيها سر وجود الكائن ان كان فاعلا في الحياة أم مفعولا به، بمعنى ادق ان كانت هذه الذات واعية لنفسها ام غائبة عنه و غادرته منذ ان ادركت ما حولها و ما بداخلها من معطيات و مثيرات ادراكية.
ذات لاحظتها من النمط الثاني غير الفاعل و المتفاعل لا مع نفسها و لا مع ما يحيطها من الاشياء و المعطيات الوجودية، شككت دائما من انها تمارس قدراتها و تسلك صوب ما يدفعها داخلها، و الريبة هذه التي تماشت معي و هادتني الى الرأي السلبى حول تلك الدائرة المغناطيسية الخطيرة التي هي الذات اينعت بفعل الممارسات الظلامية لها و الظهور اللاشرعي و اللاطبيعي الحلزوني مختفيا هيئتها و جوهرها وراء ملذات لا تجرأ فقط ان تمارسها جهارا نهارا بل ليس بمقدورها البوح بها اصلا خشية القصاص الكهنوتي و الضمائري.
أنني اعتقد و الاعتقاد هذا مؤسس على الآراء و الاستنتاجات العلمية و الفكرية بأن الذات هذه اسطورية بامتياز لانها لا تملك قدرة الانفصال عن الذاكرة الازلية للجماعة، و الدين كما يقول المفكر التنويري شايغان هو الذي يوقظ الذاكرة الازلية تلك، فالزمن الاسطوري مملوء من الماضي و حبلى بالمسقبل، المستقبل اللاهووتي الذي تكون الروح هناك حرة طليقة لا تلجمها اي قيود ، فالذات الحاملة لتلك الصفة الميثولوجية هي بالاساس مسلوبة القدرة على الحركة الارادوية و تتجه دائما وفق القدر المكتوب كما تجذرت فيها الاعتقاد هذا.
الركود الذهني للفرد حامل تلك الذات يلزم المجتمع الحاضن له بأن يعيد انتاج نفس النمط الذاتوي الذي لا يحس بان الزمن عنده او على طول حياته يتحرك بل هذا الزمن لا ينقسم على خط جدلي معين بقدر ما هو يكرر لحظاته باستمرار، هذا هو الفرق الاساسي بين الفرد المنتج لذاته و الفرد المكرر لوحدات و لحظات زمن الذات المكونة له.
البعد الديني
نحن لا نلقي اللوم على الدين في استعادة هذه الضروب من الافراد المسلوبين لانتاج نفس النمط الذاتي لهم بقدر ما ننتقده في اغلاقه جميع ابواب التغيير و التكيف مع المستجدات الكونية و التي تستلزم التلائم معها بغية الاحساس بأننا نتحول من فقرة دهرية الى اخرى مصاحبا مع انماط و اساليب معرفية حديثة، الانغلاق هذا قد تكون بارادة كهنوتية و نسج خيالي من قبل الكهنة الأوثان الذين يعتبرون انفسهم نائبا لله و الاحتمال هذا مؤكد بنسبة كبيرة.
الدين كاطار و حاجة روحية غير ما هو مكتظ في اطار معتقدي و فكري، عندما يؤطر الدين في تعاليم و خطاطات فكرية يخرج من دائرة الروح و يتخطى الحدود الالهية له و يصبح برنامجا للحياة الدنيا و هذا ما يرفضه الله قبل العباد كون تأطير الدين و جعله دنيويا هو اجحاف واضح بحقه و بحق الله و قوانينه و استلاب للفرد كي لا يلجأ الى الشواطئ الروحية الآمنة وقت ما تشتد عليه ضغوطات العقل.
الروح لا تلجم نهائيا، انها حرة اكثر ما يدعيها كيركيغارد و سبينوزا و حتى الرومي كون الحرية المطلقة للروح وهبها الله البشر بها يوم قسمها معه، اي تكبيل للروح هو كفر بحق الله لاننا نشاركه في المادة السديمية لها، فالقبول بهذا الرأي الصوفي الانساني هو الصعود بالبشر الى المتعاليات و اقرار بان الانسان هو الذي يلتقي الله بداخله و يعرفه و هذا هو بالاساس وعي بالذات على حد رأي هيغل و سبينوزا و هذا هو التعبير الأصح للوعي بالله على رأي ابن العربي و التبريزي(الاب الروحي لجلال الدين الرومي).
الدين بالمعنى الحقيقي و الروحي له يمجد الانسان و يعليه قبل اعلاء شأن اي موجود آخر، لا يرضى الله تجويع الانسان بيولوجيا و نفسيا و روحيا و اجباره على ان يسلك على هوى الآخرين بقدر مايغضبه كون الخبز مثل ما يشير اليه المتصوفة عندما يشتد الجوع بالفرد أولى من الدين نفسه. الدين ينظم الافراد روحيا و يرسيهم في مرافئ الوجود المتكبر لهم حيث يطلق الانسان في هوى الروح جناحيه كأنه طائر يرفرف فوق كل وجوده الفيزيكي.
عندما يؤطر الدين في السياسة فانه يدنو الى الأدنى، و الدنيا ككتل فيزيكية صالحة للعيش عليها لا ترتفع الى مرتبة الروح ابدا. هذا ليس تقليلا من شأن الدنيا بقدر ما هو اعطائها المكانة التي يجب ان نعيها. انزال مرتبة الدين الى الحياة الدنيا هو ارتداد حقيقي على الله كما يشير اليه هيغل في فلسفة التاريخ، حيث الله يريدك ان تعيش في الدنيا كما خلقك وفقا لنظم عقلية انسانية من انتاج البشر نفسهم و لا يريدك ان ترتد من الطبيعة و الواقع العيني و المحسوس، اي ارتداد عن الطبيعة هو ارتداد عن الروح و عن الله، و هذا هو اساسا المرض الوجودي الذي يصيب البشر عندما يضربون عرض الدنيا الحياة الدنيوية على امل ان يعيشون عيشة سرمدية في الآخرة، فالله يريدك ان تعيش تجربة الدنيا و ليس تجربة الله على الارض و تقمص كبريائه.
الحالة هذه هي الداء المزمن الذي ابتلى به البشر و هم ينقطعون عن الحياة و الواقع و يهزون امنهم الحياتي و يقعون في شباك الامراض العصابية و هذا هو الذي يؤكده فرويد و كذلك فروم و الآخرين من النفسانيين و الفلاسفة، و الداء هذا جاء اصلا من الكهنة و الايقونات البشرية المقدسة و ذلك لأجل استهداف ذاكرتهم بغية شلها و رجها برجات كهروخرافية كي لا يحسوا بانهم قادرين ان ينظموا الذاكرة و يستخدمونه وفق الشروط الحياتية الواقعية.
فشل الدين في قدرته على تسيير امور الدنيا بين مجتمعاتنا لا يعني فشله في رسالته الروحية بقدر ما اصابه الاحباط نتيجة الخلط بين وظيفة الدين و وظيفة الدنيا او بالاحرى بين القانون الالهي و قانون البشر ، الاله يدعوك الى ان تعرفه من خلال الوصول الى المستوى المطلوب من الوعي بالذات كما ذكرناه سابقا و البشر ينحو بالفطرة الى توفير امنه الوجودي و الحياتي من خلال الدساتير و القوانين التي يؤسسها لاعتبارات شتى تتلائم مع طبيعته و حضوره وسط العوامل و المثيرات الحياتية.
البعد السياسي
الطروحات الدينية المختلفة في حل اشكالات الحكم و السلطة الماوراء الصدامية في العراق لا تعد غير كونها منظورات ذات افق طائفية وفق قراءات حوزوية مترددة بين المرجعيات المذهبية و كذلك الثيوقراطية، القراءات تلك لا تستطيع ابدا ان توحد الكلمة المذهبية بين مؤيدي المذهب الواحد فكيف باستطاعتها ان تجد صمتا مقبولا و آذانا صاغية لوحدة الكلمة السياسية بينهم؟.
تديين السياسة في عراق ما بعد صدام اختزل الفعل السياسي كالدين نفسه في الحجم الصغير المتواضع للجماعة التي لا تمت هذه (الجماعة) كما يراه مصطفى صفوان بالمدنية بصلة بقدر ما هي نموذج قبل حضاري احتمائي و داريونية النزعة و ذلك لغرض الاستقواء و الالتجاء اليها خوفا من سطوة الجماعات الاخرى الموجودة من حولهم. الحكم غير الرشيد الذي يمارسه رجال الدين الافندية!! المسيسين في العراق هو احتكار للسلطة ضمن اوليغارشيات مذهبية لا تقدر ان تنتج الكثير من القوة كي تتجاوز ذاتها القبلية و المحلية و تطلق اجنحتها فوق الكل العراقي. الاوليغارشية الدينية أو بلغة ادق المذهبية متجسدة ضمن متجسديات اقتصادية طفيلية تنهب ما تصل اليها يداها و لا ترحم الجسد الكلي (الدولة) التي ينتمي اليها الكل المجتمعي، السياسي من هذا النوع اشبه بقراصنة البحر و عصاة الطرق و لا يملكون قدرة تجاوز الذات المحلية التي مازالت تتمركز حول نفسها و تعي وجودها الحسي اكثر من الوجود المتعالي على هذه الذات القبل حضارية.
الحالة العراقية منذ سطوة الثيوقراطية الوثنية الجدبدائية تلك من 2003 و لحد الآن هي صورة متجسدة للخطاطة الفكرية التي عرضناها من السطور السابقة لهذه الفقرة، و هي دليل واضح لعدم صلاحية رجال حاملي هذا الفكر الموضعي الذي لا يطال ظل أصاحبه ان يديروا آلة و ماكينة الدولة في بلد موزائيكي التكوين من حيث القوميات و المذاهب و الذي يصفه الغرب نفسه من خلال دراساتهم الاستراتيجية عنه بانه من اعقد الكيانات السياسية في العالم.
الفكر الاستحواذي للجماعات المذهبية المسيسة سواء كانوا من الشيعة أو من السنة هو فكر اقصائي للآخر المذهبى اولا و من ثم الديني ثانيا و بعد كل هذا القومي ثالثا، كيف بالامكان ان يجتمعوا بهذه الخلفية الفكرية اهل الخلاف و العداء الاسطوري (الشيعة و السنة) تحت ظل خيمة السياسة و هم بالاساس افترقوا تحت سقيفة الأرث الديني قبل الف و اربع مائة سنة و الى الآن؟. حالة الفراق هذه تولدت لديهم شعور التملك المطلق للارث العقيدتي و الديني و السياسي للرسول حيث ينادي كل جهة بأنها تمتلك الحقيقة و الآخر هو الرافضي و المرتد.
الجهوية المذهبية هذه لا تسع فكرها وسعة الخريطة المجتمعية و السياسية للعراق و لا تعدو حدود المرجعية التي تمثلها، تجاوز حدود الذات المحلية تلك بحاجة الى التصقيل العقلي بالثقافة الكونية الانسانية التي تتعدى حدود المذهب و الدين و حتى القوم و الدولة التقليدية، التصقيل هذا يأتينا من خلال دمقرطة السياسة و عزلها عن الاطر الدينية و المذهبية و هذا العزل غير ممكن ابدا في العراق كون العقول المحلية المتنفذة في السياسة منغلقة على النماذج البدئية الغابرة و الذاكرة الاسطورية للزمان غير الفيزيكي التي اختزلوها في الحاضر و الاختزال هذا يعيد انتاج الماضي بأشد و اوضح صوره بدائية. البدائية هذه مبنية على الوفاء الازلي للصور البدئية تلك حيث الشعور بالتأنيب الدائمي للضمير المذهبي و الديني موجود و لاصق بالبنيان الشخصي للفرد و الحالة هذه واضحة وضوح الشمس حيث الدولة تحولت الى آلة مذهبية للتخلص من الذنب الطوطمي الذي لا يدع الفرد الشيعي و كذلك السني و لو لثانية.
انها لكارثة كبيرة فعلا ان ترى جسد و كيان سياسي يعيش داخله كائنات بشرية منهمكين على اختلاف انتماءاتهم المذهبية و الدينية و القومية بالاستمرار بتأليم الذات الفردية و الجماعية و تحقيرها قربانا للذنوب الكبيرة التي حملها عليهم الاجداد، تحقير و تصغير الذات الى المستوى الذي لا تقدر ان تعي داخلها من ميول و دوافع و غرائز حيث تناست الطاقات الكامنة فيها و تسقطها دوما الى ما حولها من البشر أو على القدر المكتوب.
الشيع و المجموعات المذهبية المسيسة و الذين سلموا السلطة من الامريكان بعد نظام صدام لم يأتوا لكي يقدموا الجديد و الاحدث لا على السياسة و لا على النظام الاجتماعي و الثقافي، الوظيفة السياسية لهم هي خدمة الذاكرة الازلية المذهبية المجروحة و ابقاء الفرد و المجتمع في مستوى طقوسات الدم المتوحشة و اسكات نعرات الذات التي تؤنبهم و تؤلمهم من خلال تلك الطقوس.
كل هذا الاجحاف بحق الحاضر من الزمن الكوني على الساحة السياسية في العراق جعل الفرد العراقي الذي عانق السماء عقودا و رفع اياديه الى العلى للتخلص من شرور صدام متحصرا لا يهمه الآن سوى لقمة العيش و المرتب الشهري الذي يقبضه للبقاء بيولوجيا لمدة ثلاثين يوما فقط. التعلق باستراتيجية البقاء و النزول الى هذا المستوى للفرد هو بالاساس نظرة تقزيمية له كونه لا يمثل اى رقم في التحولات التغييرية في الخريطة السياسية الجديدة سوى ان يكونوا قطعانا و آلات حربية لشن المعارك على الاعداء!! و الحالة هذه قد تشغله من غيبوبته و تشبع ظمأه لدم الآخر و تسكن روحه و تكسبه اللقمة التي يطلبه بطنه.
السياسة المذهبية المسيسة المختزلة في الحاضر الراهن الذي لا يتلائم مع مثل هذه السياسة جعل من الفرد ان ينكص نفسيا تارة و يركض دائما صوب الحاجات البيولوجية تارة أخرى و أن يلبي حاجاته الروحية بالوجه المزيف لها مرة اخرى، لهاف الفرد هكذا بين الحاجات غيبه عن الحاضر بشكل واضح و الغياب هذا ولد لديه الشعور بالاغتراب الدائم عن ذاته و ارضه و وطنه و مجتمعه و لهذا نراه دوما يغادر الايقونات تلك بمجرد الاحساس بالخطر على جسده و هذا هو فعلا الانسلاخ و التجرد من القيم الانسانية التي ابتلى به فعلا من جراء الصراعات الماقبل مدنية تلك و التي تشتد دائما بين القراءات المذهبية سواء للنصوص الدينية التي يجمعهم او للواقع السياسي المحلي و الدولي الذي هو فيه الآن.
الفرد عندما يوازي الحاجات البدائية تلك بمعنى انه ليس سوى موجود خلق لكي يأكل فقط لا لكي يفكر و يدرك ما يدور من حوله و ما تتحرك من ميول و رغبات بداخله، فالحالة هذه تولد شخصيات غير سوية من حيث السلامة النفسية و الاجتماعية كونهم لا ينتمون الى الداخل الذاتي بقدر ما ينتمون الى الخارج الايقوني المقدس الذي جعل من وجوده على الارض خليفة لله و نائبا له كما يراه مولانا جلال الدين الرومي.
الوجود غير الماهوي هذا لا يظهر لديه اي ميزة انسانية يميزه عن الموجودات و الكائنات البيولوجية الباحثة عن مقومات البقاء الفيزيكي فقط!!. بمعنى ان السياسة ما بعد الصدامية في العراق أبقت الفرد في حالته الازلية من (العبودية المختارة) التي يشير اليها الكاتب الفرنسي ايتيان دي لابويسيه في سنة 1530 عندما تحدث عن احتكار السلطة السياسية من قبل القراصنة حينها و استغرب عن سحر اخضاعهم الملايين من البشر للعبودية، فالاخضاع العبودي هذا نراه اليوم لدى الشيع و الجماعات المذهبية و الدينية و نرى ايضا الاستجابة البوهيمية لتلك الجماعات من قبل العامة من المؤيدين لهم.
اذن ظل الفرد بفضل الركوع الازلي و الاستجابة البافلوفية تلك عند المستوى البدائي له ولا نرى الامل في الافق لظهور منظومات سوسيوسياسية قوية لانتشال الجثث الحية تلك من غياهب الماضي السحيق و وضعهم في الحاضر كي يمثلون و لو بنسبة قليلة انفسهم و داخلهم. المنظور التشائمي هذا ليس بفعل العجز الواضح على كل الصعد لايجاد الحلول لانقاذ الوضع المتردي للفرد العراقي و مجتمعاته بقدر ما نضج المنظور من خلال النظر الى الجسد المتهرئ لما يسمى بالحضارة الاسلامية المختزلة و المتمثلة لاشعوريا في كيانات سياسية عربية نشهد على عفونتها و من ثم انهياراتها من حيث النظم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية على السواء. فالحضارة بقدر ما تضع آثارها على المكان كمنتجات فكرية لسكان زمانها تضع ارثها السلوكي و القيمي في البنية و المنظومة السلوكية و الاخلاقية لهم، كما نلاحظ أثر حضارة النيل على الشخصية المصرية و كذلك الحضارة الآريائية على الفرد الايراني و الحضارة اليونانية و الرومانية و الجرمانية على الاوربيين الغربيين و الحالة نفسها تطبق على الصينيين.
الميلانخوليا الشيخوخي الذي اصاب ذهنية و عقلية المتسيسين المذهبيين في العراق على وجه الدقة لا يدعهم ان يفكروا في مسلمة قبول الآخر بل يوجههم الى قتل الذات او ابقاءها في حالتها الاكتئابية البائسة، و الرفضية تلك تجذرت في البنيان السايكولوجي للافراد المنتمين الى (الجماعة) بمعناها البدائي و لهذا نرى في الخطاب الشعبى للجماعات تلك العنف و العداء الثأري تجاه الآخر المختلف عنهم سواء في الدين او المذهب او القومية، الحالة العدائية لدى الشيعي تجاه السني و بالعكس و كذلك العنصرية و التعصب العربي تجاه الكوردي و الكوردي مقابل العربي اصبح واضحا لا تخفى عن الحس و والشعور.
التعامل البدائي مع الحالة العراقية يبين مدى بطلان العقلية السياسية (المتمثلة ايام ما يسمى النضال السري و الثوري لهم في الحركات و الاحزاب) من المشاريع الجاهزة و المدروسة لأعادة بناء ما خربها الدكتاتورية الصدامية، فصدمة الوقوع في الأمر الواقع وراء سقوط صدام تولدت لديهم الارتباكات السياسية و الادارية حيث الجهل بالادارة و بناء علاقات متكافئة مبنية على الادعاءات للديموقراطية لديهم تجلى في السلوكات المترددة التي كانوا يخطونها باتجاه تكوين الدولة العراقية الحديثة!!.
الارباك السياسي و العلاقات غير المتكافئة بين الجهات السياسية في عموم العراق تنعكس هشاشة التكوين المجتمعي و هي بعيدة كل البعد عن محاولات التأسيس لأمة عراقية على غرار الامم الاخرى المتحضرة المنتمية للأطر الدستورية حيث تكون المواطنة فيها معيارا للانتماء. تسبب هذا التباعد السياسي تباعدا نفسيا تقليديا بين مكونات العراق القومية و الدينية و الطائفية و التي ظهرت دائما للسطح من خلال تبيان الآخر المختلف في نظر اي طرف و كأنه خطر يهدد وجوده، و الخوف المرضي هذا أجبره باستمرار على السلوك القهري باتجاه اللجوء الى الجماعة المماثلة و الاتكال عليها من زاوية الاحتماء و الاستقواء بها و هذا هو جوهر العقلية العشيرية و القبلية القبلمدنية الذي لا تنمو بفعل المستجدات الحداثوية المادية التي في متناول يديه منذ تأسيس الدولة العراقية.
التباعد النفسي أو بالاحرى التصدع الخفي بين مكونات العراق كانت و لاتزال موجودا و هو الخطر المحدق الذي أغفله السياسيين و كذلك المكونات أنفسهم، فالتباعد هذا هو البداية البديهية للفراق النهائي بينهم و الذي نراه و نشعر به يوما بعد يوم بشكل اوضح و ان كانوا دوما يذرفون دموعا تماسيحية على الوحدة و الاندماج. الاندماج المجتمعي لدى الطوائف المسيسة العراقية غير الاندماج الحداثوي و المدني الذي يتمتع به المجتمعات الغربية و المتقدمة حيث الهم الاكبر لدى القوى الغربية هو اذابة الفوارق المواطنية حتى لدى الذين من غير جلدتهم و لكنهم يتمتعون بجنسياتهم كي ينسجموا سريعا معهم ضمن الاطياف المحتوية للالوان المختلفة.
البعد الاجتماعي
اما البعد الاجتماعي المسبب في الوهن الجسدي و النفسي للمجتمعات العراقية تأثرت بالبعد الديني ايضا حيث العقدة التي لا تفارق الشخصية السياسية العراقية هي التخبط بين الاثنين و عدم الجرأة في تقديم بعد على الاخر، فالتمازج القسري بينهم يشير الى قوة الاثر الديني و دوره الاكبر في تحديد الصورة المجتمعية و تصنيف العناصر المكونة لهذه الصورة وفق المنظور الديني، و لهذا نشعر بشكل بين بان الانتماء المذهبي اقوى من الانتماء الديني و من ثم الانتماء الوطني. الانتماء المذهبى للشيعي اقوى من الانتماء القومي و الوطني و الحالة نفسها لدى المكون السني حيث نرى بان السلفيين و الجهاديين هم المهيمنين على المشهد السياسي و الحس القومي و الوطني لديهم تظهر فقط للمزايدات و التسويق السياسي، ان لم يكن هكذا فلم القبول الاجتماعي الهائل للداعشيين وسط الشباب البائس العاطل و كذلك وسط اكثرية العشائر و الاوساط الشعبية؟.
و الكوردي ايضا انطفى و اختفى لديه الارتباط الروحي و الوجودي بالمكان اثر فقدانه للوصال الجدلي بينه و بين السياسي، فالحالة الفراقية تلك هي التباعد النفسي الخطير المؤدى بالنتيجة الى نشأة الهوة الكبيرة بين الشعب و السلطة التي تمارس أضعف اوجه الأداء الاداري و السياسي.
المكان و الارتباط به هو حاجة او عنصر اساسي في تكامل وجود الفرد الاجتماعي و كذلك في ابراز الأنا الفاعلة له، عندما يضعف هذا الرابط الروحي فالهجرة من الوطن و تبخيس النظرة الى الارض و المجتمع و اليأس من التغيير نحو الافضل و التشائم تظهر الى السطح و بالنتيجة يتجلى الأغتراب الاجتماعي كظاهرة منتشرة، فالهشاشة من كل هذه الحالات تستدل معناها و تتكامل محتواها.
المجتمعات التقليدية تكون فيها التماسك الاجتماعي قوي جدا و لكن الوهن الملاحظ في الهيكل و الجوهر السوسيولوجي الكوردي يغور بنا الى قناعة شبه اكيدة بأننا أصبنا بالايدز الاجتماعي حيث لا نتحمل مواجهة اى عنصر فكري أو معرفي او علمي او تكنولوجي و ثقافي يأتينا من خارج كياننا المجتمعي، بل ان الدفاعات الاستراتيجية للجسم الاجتماعي شللت قدرتها على معرفة الاجسام الغريبة و تمييز النافع و الضار بينها، و بهذا يفقد المجتمع تماسكه و لا يبغي الوقوف مرة اخرى منتصبا امام المحيط سواء من حيث التعامل الجدلي الطبيعي او الصراعي الخشن.
تداعيات حالة الغربة من الذات في مجتمعنا الكوردي كثيرة، اشرنا في اطارها العام الى بعض اوجهها و لكن الاشهر هي تراجع الفرد البين الى السواتر الخلفية و الاخيرة للدفاع و هي الدفاع عن دائرة الذات و الجسد الشخصي خشية فقدان السيطرة على ما يملكه الفرد من الكيان الشخصي و خوفا من الخبل و السقوط الى الهوامش المنسية الخارجة عن الاهتمام الحكومي و المجتمعي. اذن دائرة الانتماء لدى الفرد ضيقت الى اصغر حجمها حيث ان الهموم للقوم و الوطن و المجتمع و المؤسسات الاخرى اصبحت سطحية و لهذا نراه و هو ينقذ بنفسه و جسده دائما و لا يهمه وجوده الذي يتكامل في جميع ابعاده من الزمان الكوردي المتجسد في الذاكرة الجمعية القومية و الحاضر المعاش و كذلك بعد المكان المتجسد في الارض و الوطن و البعد الانساني المتجلى في الحياة الاجتماعية و الذات المجتمعية.
البعد الثقافي
البعد الثقافي ذا الأثر القوي على هشاشة و(رثاثة) الفرد العراقي من جميع مكوناته يتجلى في الانتاج الوضيع للفكر و الاستثمار اليومي على الخزعبلات و الترهات التي صاحبت المجتمعات منذ غابر الزمان، حيث الاهتمام الاقوى بالنصوص و البرامج التي لا تخرج عن دائرة المذهب و الجماعة و التي تشل الحركة الذهنية و المعرفية لافراد المجتمع و تسلبها، و الحملات التي يطلقونها المسؤولين في هذا المجال (الحبلى بالمرض) مثلما يؤكده المحلل النفسي والمثقف اللاكاني الكبير مصطفى صفوان لا تخرج عن الأطر التقليدية لبناء الانسان كالكراسات و الكتيبات و الكتب التي تطبع باستمرار و تنتشر على الارصفة و رفوف المكتبات تحث الفرد على التغييب في المتع الآنية و كذلك الآثار اللاثقافية التي تدفع به الى الخوف الدائم من المجهول و الخشية الابدية من الغيب دون الاعتبار الى العمل وفق المنظور الحديث لبناء و تنمية الانسان من كل الجوانب المعرفية و الجسدية و الصحية و الرياضية و الاخلاقية و الاجتماعية و الاقتصادية و....الخ.
المتربعون على كرسي الثقافة في العراق لم يكونوا ابدا في خدمة التنمية البشرية و التفتح الذهني بقدر ما هم عملوا دوما في تقييد العقل و تكبيله كي يبقى (هو) بدائي يركض خلسة وراء الحاجات الحيوانية من الطعام و الجنس و الامان النسبي، عدم تقوية (الانا) العاقلة هو الشغل الشاغل للمؤسسات الثقافية العراقية دون تمييز فالانا العاقل يرضي الكل و لا يغدر لا بالقوى الشهوانية و لا بالمعايير و الضمير الاجتماعي.
الثقافة الهشة التي تنتجها الاوساط المترأسة لها تغذي الشهوة السياسية و المذهبية للسياسيين المرضى و لهذا لم نشهد ابدا على اطلاق مشاريع حداثوية بناءة من قبلهم كالمؤتمرات و الحملات المنظمة لترجمة الفكر العالمي و التأليف الادبي و العلمي و الفكري من العيار الثقيل الذي يشفي غليل المتعطش للثقافة التنويرية ان صح التعبير.
المؤسسات الثقافية في عموم العراق عملت و لا تزال تعمل بمعزل عن المستجدات العالمية من الفكر و المعرفة حيث تخدم الانطفاء الازلي للعقل و هذا هو اكبر الخدمات للساسة المزيفين الذين يتفاخرون بانتاج افراد خاضعين راكعين وسط عالم متحضر و حر يتباهى باطلاق الحريات و انتاج عقول جريئة لا يحركها غير فكره الذي هو فرداني بامتياز.
الخاتمة
ان الفقر السياسي المنتشر في العراق منذ تأسيسه هو المسبب و العامل الاكبر لبناء الشخصيات الهشة ذات البنية الخرافية التي لم تنمو لديه روح قبول الآخر بالمعنى الحداثوي للمفهوم و الذي يصغي للغير و يصمت حين يتحدث حيث الاصغاء و الضبط صامتا عاملان اساسيان للحوار البناء الذي يعتبر اساسا و ارضية خصبة لبناء الديموقراطية سلوكيا و اخلاقيا و ليس فقط التحدث عن الديموقراطية من خلال الاستجابات الشرطية لمثيراتها الشرطية.
السياسيون المتدينون في العراق و كذلك الذين ارتدوا عباءة القومية من دون تمييز ايضا لا يصغون للاصوات الخارجة عن هارمونيتهم النغمية السياسية و الدينية و المذهبية و لا يضبطون صمتهم حين يتحدث لهم اى كان من البشر سوى هؤلاء الذين يسيرونهم وفق هواهم و لهذا نرى بأن الحوار يخرج دائما عن النطاق الفني له كما يقول اريك فروم في كتابه القيم (فن الاصغاء) و كذلك يكون خارجا عن الايقاع و المبنى الديموقراطي دائما، حيث اللجوء الى العنف الكلامي و حتى المصاغة بلاغيا سائد في الخطابات الدينية و السياسية و الاجتماعية.
الاشكالية الاساسية في الهشاشة النفسية و السياسية و الثقافية و الاجتماعية للفرد هنا تكمن في البناء التأسيسي للفهم الديني و المذهبي و كذلك في الايديولوجيات التي تحرك السياسة و الاعراف البالية التي تنتج الشخصية النمطية المقولبة تقليديا. العبور الى شاطئ المصطلحات الرنانة حول الديموقراطية و التنمية الانسانية التي طالما يستخدمونها السلطويون من على كراسيهم يجب ان يكون من خلال فهمهم بصورة تعليمية للاصول التي بنيت عليها السلطة و تمكينهم تجزأتها من حيث التقسيم و التوزيع و الرؤية الى كل جزء كسلطة مستقلة و لكن تخدم في النهاية الهيكل المتناسق للدولة او المجتمع الحديث. فصل السلطات هو المقصود من كل هذا السرد و التحليل للسلطة و العملية التاريخية تلك هي التي رفعت شأن الدول المتطورة علميا و فكريا و اقتصاديا و.....الخ.
اطلاق سراح الدين من قبل الايادي المسيسة له هو اعادة اعلاءه و وضعه المرتبة الروحية له كون العلاقات الروحية للفرد هي ارتباطات خفية مطلقة لا يجب ان يخترقها الآخرون و فردية على الاطلاق ايضا لا يجوز مسها لا من طرف السياسة و لا من طرف اي ايقون و مؤسسة كهنوتية، فالمساس بالعلاقات و الارتباطات الروحية تعاد حكرا لفردانية الانسان لا يمارسه سوى الكهنة و الاوثان البشرية التي يمارسون سلطة الله بحق البشر و الحالة هذه هي النصب و السرقة الوجودية للروح و النفس البشرية و كذلك تآليه للسلطة.
اطلاق سراح السياسة من قبل الدين و المذهب كذلك يضع السياسة في اطارها الاداري و التنسيقي و يعيد تعريفها من جديد بانها وظيفة مهنية بامتياز تقف جل جدارتها في الأداء الكفوء و الموزون للسياسي، لا تقبل هذه الوظيفة الدنيوية التي تمارس و تختبر قدرة البشر على الارض اي اغتصاب من قبل الكهنة من كل الاديان الذين نسوا وظيفتهم الروحية و امتزجوها بالفضاءات الدنيوية خدمة لقدراتهم الشهوانية غير العاقلة التي ليس بمقدورهم الوصول اليها وفق النظم و المعايير القانونية و الدستورية المتوقفة على القدرات العقلية للفرد الحر. و اخيرا ارى بان السياسة الجارية في عموم العراق لحد الآن هي اباطيل تمارس بالاشكال البدائية الكهنوتية و لهذا لا اعتقد بأن السيناريوهات المطروحة باستمرار للاصلاح تنجح طالما يسقون السياسة من خلال المناهل اللاهووتية و الاعراف البالية و كذلك طالما يختزلون الماضي في الحاضر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 121-Al-Baqarah


.. 124-Al-Baqarah




.. 126-Al-Baqarah


.. 129-Al-Baqarah




.. 131-Al-Baqarah