الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الزواج في المسيحية بين النظرية و التطبيق- الجزء الثامن

طوني سماحة

2014 / 9 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الزواج مؤسسة فشل أم نجاح؟

أثّر كل من الدين والثقافة والبيئة في مفهوم الزواج الذي عكس بدوره قيم المجتمع الذي هو جزء منه. وأهم هذه القيم تتمثل في نظرة المجتمع لدور ومكانة كل من الرجل والمرأة. ولا يخفى على أحد دور الدين في إرساء هذه القيم.

مع بداية القرن العشرين، ركبت المجتمعات الغربية ركب التطور وخلعت رداء الدين كليا عن كاهلها لتحصر تأثيره على جماعات المؤمنين في الكنائس. ومع انحسار دور الكنيسة في المجتمع، أخذ الناس يتجرأون أكثر على نقد الدين، وكان ان الزواج، بمفهومه المسيحي، تعرض لسهام المساءلة خاصة في الجزء الذي ورد على لسان بولس الرسول في رسالته لأفسس من وجوب خضوع الزوجة للزوج. واعتبر النقاد أن مفهوم الخضوع يتنافى مع مبادئ المساواة التي أقرتها القوانين الغربية عامة. وكانت النتيجة إقرار الزواج المدني الذي يتيح للثنائي ان يعيش زواجه بعيدا عن المفهوم الديني.

قبل وضع مفهوم الزواج المسيحي تحت عدسة المجهر، يريد كاتب هذه السطور التأكيد على تبنيه مفهوم الزواج المسيحي وإصراره على مبدأ المساواة المطلق بين الرجل والمرأة عامة والزوج والزوجة خاصة.

كنا قد أشرنا في مقالات سابقة أن المسيح أكد على مبدأ تقديس الزواج ورفض الطلاق واعتبار الزنى مفهوما يتعدى الاتصال المباشر بين الرجل والمرأة ليطال الفكر والنية. فنظرة الشهوة، حسب تعليم المسيح، هي زنى حتى لو لم يرافقها فعل مباشر. لكن تحديد الادوار والمسؤوليات في الزواج أتانا بشكل أساسي من خلال كتابات بولس الرسول بالإضافة الى كتابات أخرى تصب في نفس الخانة أوردها لنا بطرس الرسول. ولا بد من التاكيد على ان المسيحيين بمختلف فئاتهم وعلى امتداد التاريخ نظروا الى تعليم بولس وبطرس على انه وحي مقدس.

عادة ما يسدد النقاد سهامهم الى بولس متهمين إياه بالتقليل من شأن المرأة من خلال قراءتهم للآيات التالية لرسالة أفسس (5: 22-24) "أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب، لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضا رأس الكنيسة، وهو مخلص الجسد. لكن كما تخضع الكنيسة المسيح، كذلك النساء لرجالهن في كل شيء." لو كان بولس قد توقف في تعليمه عن دور الرجل والمرأة في موضوع الزواج عند هذه الكلمات، لكان كاتب هذه السطور من أوائل المعترضين عليه. كيف لا وهي تنزل بالمرأة الى مرتبة الجارية التي عليها الخضوع المباشر لزوجها في كل الحالات. وأسئلة كثيرة تطرح نفسها في هذا المجال "ماذا لو كان الرجل أحمق، وما أكثرهم؟"، "ماذا لو كانت مصلحة الرجل تختلف مع مصلحة المرأة؟"، "ماذا لو طلب الرجل من المرأة القيام بأعمال مشينة؟"، "ماذا عن مشاعر المرأة التي فرض عليها أن تحيا حياة الذل للأبد"؟

غالبا ما يتوقف النقاد عند الآيات المذكورة أعلاه دون التطرق الى ما يليها مع أن الآيات اللاحقة تحدد بشكل مباشر مسؤوليات الرجل تجاه زوجته. ترى ماذا يقول بولس للرجل؟ أيقول له "أنت سلطان زمانك، أنت صاحب الأمر والنهي، انت ملك العرش، وبالتالي لك أن تأمر بما تشاء وعليك أن تطاع بالمطلق؟" ليس الامر كذلك على الاطلاق، لكن لو قرأنا الآيات التي أهملها النقاد، لوجدناها تعطينا صورة مختلفة عن فكر بولس في هذا الموضوع. دعونا نعود لأفسس 5: 25-33) ونقرأ معا "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدسها مطهرا إياها بغسل الماء بالكلمة، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب."

أريد هنا أن أن ألفت نظر القارئ إلى أن بولس الرسول في بداية خطابه للرجل وضع المحبة أساسا لعلاقته بزوجته. قد يخلط القارئ هنا بين المحبة والجنس. فالجنس لا يختصر المحبة، بل هو أحد مكونات العلاقة الزوجية. ولسوف نتطرق لمفهوم الجنس في مقالة تالية إن شاء الله. وفي العودة لموضوعنا نقول أن بولس وضع مقياس محبة الرجل للمرأة على قياس محبة المسيح للكنيسة. ترى كيف أحب المسيح الكنيسة؟ هل جلس المسيح على كرسي الملك وطلب من أتباعه خدمته؟ هل طلب منهم تلبية احتياجاته؟ هل فرض عليهم ضرائب كيما تزيد ثروته؟ هل أخذ منهم نساء وجوارٍ؟ هل طلب منهم أن يشنوا الحروب وأن يموتوا لأجله كيما يأتوه بالغنائم؟ هل طلب منهم إطعامه؟ هل طلب منهم كسوة؟ هل ترفّع عنهم وجعل نفسه فوقهم وجعلهم موطئا لقدميه؟

إن كل منصفٍ قرأ الإنجيل وعرف المسيح عن كثب لا بد وأن يجيب على الأسئلة أعلاه بلا. فالمسيح أحب الكنيسة حتى الموت وهو القائل في يوحنا 15 "ليس حب أعظم من هذا أن يضع الانسان نفسه من أجل أحبائه" وهنا لا بد من الاشارة الى ان كلمة "وضع نفسه" تعني "ان يموت"، حتى لا يلتبس الامر على أحد. فالمسيح لم يطلب من أتباعه الموت لأجله، بل أتى كيما يموت هو لأجلهم. وهنا أسأل نفسي كرجل "كم هي المسؤولية الملقاة على عاتقي نحو زوجتي؟ هل تراني أستطيع أن أقدم لها هذا الكم من الحب؟" لا شك أنه من الصعب على الرجل أن يصل لهذا المستوى من القداسة والحب، لكن المسيحي يؤمن أن الروح القدس يحول الضعف الى غلبة وعند الله يصبح المستحيل ممكنا. ويكمل المسيح في الفصل/ الأصحاح ذاته ليقول لتلاميذه "لا أعود أسميكم عبيدا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي." إذا، إن كان المسيح قد وضع جانبا الطبقية والهرمية في علاقته بتلاميذه مسميا إياهم أحباء، فكم بالأحرى يجب على الرجل ألا يتخذ من الوصية المعطاة للمرأة بالخضوع له سببا للسيادة عليها، إن لم نقل لاستعبادها. يستحضرني هنا مشهد اثنين من تلاميذ المسيح، أتت والدتهما تطلب منه أن يقيم واحدهما عن يمينه والآخر عن يساره في ملكه، فأجاب "من أراد أن يكون فيكم عظيما، فليكن خادما، ومن أراد أن يكون فيكم أولا، فليكن عبدا لكم، كما أن ابن الانسان (المسيح) لم يأت ليُخدمَ بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين." (متى 20: 20-28). وخلاصة الامر ان الرجل الذي يريد ان يطبق تعليم بولس في زواجه، عليه أن يقتدي بمحبة المسيح للكنيسة، وأقل ما يقال بهذه المحبة أنها خادمة ومضحية. فالمسيح خدم شعبه، أطعمهم حين جاعوا، شفى مرضاهم، أقام موتاهم، وليس ذلك فقط، بل هو غسل أرجلهم وهي مهمة كانت تناط بالعبيد، وطلب منهم الاقتداء به. وفي النهاية اقتادته محبته لهم الى الصليب كيما يموت هو ويحيوا هم. هذا هو مقياس الحب المطلوب من الرجل تجاه زوجته. ويكمل بولس خطابه للرجل قائلا في أفسس 5 "كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. من يحب امرأته يحب نفسه. فإنه لم يبغض أحد جسده قط، بل يقوته ويربيه، كما الرب أيضا للكنيسة. لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه. من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه يلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا. هذا السر عظيم، ولكنني أقول أنا من نحو المسيح والكنيسة. وأما أنتم الافراد، فليحب كل واحد امرأته هكذا كنفسه. وأما المرأة فلتهب رجلها".

في نهاية هذا الدراسة هل يستطيع احد ان ينسب الى بولس تكريس سيادة الرجل على المرأة وهو الذي طلب من الرجل ان يحب زوجته كما احب المسيح الكنيسة، اي كنفسه، وان يخدمها كما خدم المسيح الكنيسة مقدما إياها على ذاته؟ ولا ننسينّ أن بولس هو القائل في غلاطية 3: 28 " ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد ولا حر. ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع". فالزوج والزوجة في المسيحية واحد في المسيح يعملان معا لهدف واحد ألا وهو تقديس الله في حياتهما والعمل على صون الوحدة الزوجية من خلال خدمة واحدهما للآخر، وليس من خلال سيادة واحدهما على الآخر.

قد يتساءل أحدهم "أما كان من الاجدى ببولس أن يعلّم مبدأ مساواة الزوجين دون إدخالنا في متاهات الخضوع و المحبة؟" دعونا نتأمل في مؤسسة الزواج كما تطورت في القرنين الماضيين، خاصة في الغرب. أعطت قوانين الغرب المساواة للمرأة (والكاتب يؤيد مبدأ المساواة بالمطلق)، لكنها كرست لثنائية الزواج الذي قوامه رأسان كثيرا ما يشد كل واحد منهما فيه باتجاه مختلف. ولأن هذه الثنائية لم تلتزم بتعليم الوحدة في الزواج المصرّح عنها في المسيحية بعبارة "من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا"، فقد حصل شرخ في العلاقة الزوجية مما أدى الى فشلها في الكثير من الاحيان. كرّس الرجل خلال العصور مبدأ السيادة الذكورية في العلاقة الزوجية. اقتنصت المرأة الفرصة في القرنين الماضيين لتأخذ حصتها من السيادة، وأهمل كل من الرجل والمرأة مبدأ خدمة واحدهما للآخر والتضحية في سبيل الآخر حتى انهار هذا الصرح في كثير من الاحيان. كان الروح القدس عالما، حين أعلن مفهومه للزواج لبولس الرسول، أن الأنانية هي القنبلة الموقوتة التي تدمر الزواج، لذلك عمد الى تعليم كل من الزوجين درسا مهما كيما يتخلى كلاهما عن انانيته فطلب من المرأة الخضوع فيما اشترط على الرجل محبة مطلقة لا تتوقف عند خدمة الزوج للزوجة،كما خدم المسيح الكنيسة، بل تعدتها كيما تطلب من الرجل ان يحب زوجته كنفسه حبا قد يصل به الامر ان يموت عنها ان اقتضى الامر.

الزواج مؤسسة إخفاق أم نجاح؟ الأمر متروك لكلا الزوجين للإجابة عنه. فكلما تمسك الزوجان بأنانيتهما وطلب كل من شريكه ان يكون خادما له، كلما أخفقت هذه المؤسسة. وكلما قدم أحد الزوجين نفسه خادما للآخر، وتعهد بالتضحية من أجله، كلما كان نصيب الشركة النجاح. لا ننسين ان مؤسسة الزواج في المسيحية رأسها المسيح وليس الزوج. بل كل من الزوجين يعمل معا لخدمة الرأس وليس ذاته. وقد لا نجد نهاية لهذه المقالة أجما وأفضل من تعليم بولس الرسول "أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب... "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 155-Al-Baqarah


.. 156-Al-Baqarah




.. 157-Al-Baqarah


.. 158-Al-Baqarah




.. 159-Al-Baqarah