الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ .. بين ثلاث

موسى راكان موسى

2014 / 9 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كنت قد تم بدأت بدراسة نقدية يتناول مؤلف العولمة للدكتورة سعاد خيري .. دراسة على أجزاء , و ما كان من المفترض تناول طرح موضوع آخر حتى نهاية الدراسة , و لكن وجدت في الطرح الحالي ضرورة .. المعنوّن بعنوان ( التاريخ .. بين ثلاث ) , و الذي يرتبط بمنهج [الجامعات] بشكل خاص بعدما تعرضت لعدد من المواقف المتعلقة بتخصص التاريخ في الجامعة .

و لا أقصد بالنوع [التخصيص] و إنما [القاعدة] التي يتم الإنطلاق منها في تناول التاريخ , و الأنواع أطرحها كوصف .. و هي : { الفقهي / الديني } .. { السردي / الإخباري / القصصي } .. { العلمي } .

و تجدر الإشارة إلى أن المقصد من التقسيم النوعي ليس فصلا مطلقا , فالفقهي يرى في السردي و العلمي وسائل لإثبات ذاته و لتحقيق غائيته .. و السردي يرى في الفقهي و العلمي وحدة تماثل هو هو حاويهما في ذاته محققا غاية السرد التي هي السرد ذاته .. أما العلمي فيرى في السردي و الفقهي ((الظواهر و الأفكار)) [باطنا] يسعى لكشفه و الإستفادة منه إما بإستعماله أو بتجنبه .

==================================

أولا – {الفقهي / الديني} :

من الطبيعي أن نجد هذا النوع عند المتقوقعين دينيا بروح مذهبية .. و في المعاهد التي عودتنا على التقديس , و إن كان هنالك إدعاء بإنتهاج [النقد] .. فهو ينتقد و ينقض من موقع المقدس .. هو نقد لأجل التقديس , فإن كان ذلك هو موقفهم من [النقد] فهو هو كذلك من [العلم] .. فالنقد هو مفتاح طريق [العلم] .

و رغم دخول تلك المعاهد و أشخاصها في معارك ضارية مباشرة و غير مباشرة مع ما يخالفها من أديان و مذاهب في محاولة نفيها و إعدامها .. إلا أنها رغم كل ذلك لا تنفيها و لا تعدمها بل تدعمها و تؤكدها [!] , فوحدة التماثل لا تنفي , فتقترب بذلك من الوصف الدونكيشوتي .

فإن كان هذا النوع طبيعي كما أسلفنا في المعاهد لأنها تنطلق من الفقه و إليه .. فهو إن وُجد في الجامعات فهو يدلنا على حالة خروج عن وضعٍ المفترض أن يكون علميا , و هو بذلك إنما منحرف لا يجب أن يوصف بالعلمية .

و ما قد يكون أسوأ من المنهج المنحرف .. هو أن يكون الأستاذ نفسه تحريفي للعملية العلمية , و أستعين بمثال هو رد للشهيد مهدي العامل على إحدى النماذج الفقهية (1) :
[[[ ((إن هذا الإسلام في هجومه و إنتصاره في ثورة إيران , و في خوضه لمعركة الشعوب ضد التسلط الأميركي , يطرح عقلانيته و مدنيته و قوانينه الخاصة به (...) و لا نراه هذه المرة مضطرا أن يستعيد النموذج الغربي فيتشبه به ليبرر إستمراره و وجوده , إنه يرفض أن يستمر منفيا بواسطة هذا الغرب , و أن لا يرى صورته إلا من خلال هذا الأخير , إنه يرفض نفيه و يرفض من نفاه أيضا بمنطقه الخاص و عقلانيته الخاصة ... (إن تجربة إيران) تفتح بدءا من أول القرن الخامس عشر على أخطر تجربة تاريخية يمر بها الإسلام في علاقته ببناء الدولة و في التحدي الذي يواجهه لإيجاد البديل , و إستمرار إنتشار الدعوة في كل أنحاء العالم الإسلامي)) وجيه كوثراني ، السفير ، 21/11/1979 , نموذج هذا الإسلام ((الإيراني)) هو إذن الرد على نموذج الغرب , لكن ما نود أن نشير إليه الآن بسرعة (...) هو أن تلك العقلانية و المدنية و القوانين الخاصة بالإسلام التي يجري عليها الكلام في هذا النص و في غيره ليست كما قد يتوهم القارئ عقلانية الواقع التاريخي المادي الملموس للمجتمعات العربية الإسلامية و مدنيته و قوانينه إنما هي عقلانية الفقه الإسلامي , فقوانين الإجتماع الإسلامي هي قوانين فقهية و ليست قوانين إجتماعية , و هذا أمر طبيعي بالنسبة لفكر ديني فقهي , فالفقه سيد التاريخ و حاكمه , لكن هذا القول يبدو غريبا جدا حين يبدر من مؤرخ و ليس من فقيه , إلا إذا أراد هذا المؤرخ أن يكون فقيها و ليس مؤرخا , فهذا أمر يعنيه وحده و لا يعني القارئ و التاريخ , لكن للقارئ حينئذ ٍ عليه حقا أن يقول له و بوضوح إنه فقيه و ليس بمؤرخ , و إنه يعد التاريخ الذي يمارسه بابا من أبواب الفقه و ليس علما ]]] .

إن مثال [كوثراني] هو إحدى النماذج على هذا النوع الفقهي , و هناك غيره ممن يشغل موقع {مدرس} في جامعة في تخصص {علم التاريخ} [!] .

ثانيا – {السردي / الإخباري / القصصي} :

و ليست مبالغة ها هنا القول أن معظم مدرسي التاريخ ينتمون لهذا النوع [!] , هذا النوع الذي ينظر إلى [الفقهي] و [العلمي] بوحدة تماثل , فالتاريخ من فم صاحب الفقه هو هو التاريخ من فم صاحب العلم , و يبرر ذلك بالقول أن التاريخ إنما هو عبارة عن وجهات نظر .. التاريخ إنما هو عبارة عن إيديولوجيات , لذلك فهو ينتهي بعد ذلك بالقول أنه من الخطأ إختزال التاريخ في إيديولوجية واحدة أو وجهة نظر واحدة [!] .

ينفي أتباع [السردية] بذلك [علمية التاريخ] , أصبح التاريخ {الحدث (أ) تلاه الحدث (ب) تلاه الحدث (ج) تلاه .. إلخ} سلسلة من الأحداث .. الحدث يسببه الحدث الذي سبقه .. هي عملية منع التاريخ من [إنتاج معرفة / إكتشاف قوانين] , فإن كان [الفقه سيد التاريخ] عند الفقهيين التاريخيين .. فسيكون [السرد مُخصي التاريخ] عند السرديين التاريخيين .

و قد تجد من السرديين التاريخيين من هو أفقه دينا و ربما حتى مذهبا من الفقهيين التاريخيين .. لكن ما يميزهم هو إتباعهم [السردية] لا [الفقهية] في تناول التاريخ و إن كانوا في آخر المطاف إلى الفقه يعودون و يسجدون .

و السردية و الفقهية كانا متلازمان حتى ظهور علمية الفكر الخلدوني , و أورد في ذلك (2) :
[[[ إن بنية من الفكر كانت تمنع تكوّن التاريخ في علم , و ميّزنا هذا الفكر بأنه تجريبي , و ليس من الخطأ القول إن هذا الفكر ديني , أو قل إنه تجريبي لأنه ديني , بمعنى أنه يقوم في طابعه التجريبي على قاعدة الفكر الديني نفسه (...) مثل هذا الفكر لا يسمح للمؤرخ بأن يكون إلا واحدا من إثنين : إما راوية ينقل الأخبار , يسردها دون تحقيق , إذ هو يكتفي من الأحداث بالنظر فيها دون النظر في عقلها , و إما فقيها (...) إذا نظر في عقل الأحداث , فتأولها بردّها إليه , إذ أن العقل هذا هو الله ]]] .

إن [سيد التاريخ] ليكون و ليبقى سيدا عليه أن [يُخصي] التاريخ .. و مهمة الإخصاء هي مهمة [السردية] .


ثالثا – {العلمي} :

(3) : [[[ كان على التاريخ أن ينبني في علم , و شرط تكوّن هذا العلم أن يكون للأحداث عقل يحكمها , و أن يكون هذا العقل فيها لا خارجها , أي أن يكون له بالتالي طابع مادي لا أن يكون عقلا غيبيا , إن ثورة ابن خلدون الفكرية تكمن بالضبط في أنه حرر الفكر التاريخي من هيمنة الفكر الديني , بأن إكتشف في واقعات التاريخ عقلها المادي فأحلَّ ضرورة العمران محل الله _أو ما يشبهه_ في تفسير الظاهرات جميعا , فإستبدل التأويل بالتفسير , فكان التفسير بالضرورة ماديا , و كان علميا من حيث هو مادي , دون أن يعني هذا رفضا للدين أو الشرع و مبادئه , فالشرع شيء و التاريخ _أو العمران_ شيء آخر , و ليس هذا ذاك و لا ذاك هذا , و لئن دخل الشرع أو الدين في حقل العمران أو التاريخ _كما هو واقع الأمر في ((المقدمة))_ فكأمر عمراني أو تاريخي مادي لا كأمر غيبي أو إلهي , و ينظر فيه حينئذ بعين العمران و قوانينه لا بعين الدين و مبادئه أو بعين الشرع و أحكامه , فلمسائل الشرع منطقها و لمسائل العمران و التاريخ منطقها , و لا يصح في المعرفة الخلط بين المنطقين , الأول قائم على قاعدة فكر ديني يربط الظاهرات بمبدأ خارجي هو الله (...) أما الثاني فقائم عند ابن خلدون بالذات على قاعدة فكر مادي يقطع الظاهرات عن كل مبدأ من خارجها , و يربطها بقوانينها الداخلية الموضوعية ربطا ماديا , هو الذي في علاقة الواقع بالواقع في حركته التاريخية , بين الظاهر منه و الباطن , في معزل عن كل عالم غيبي , كأن عالم الغيب لا وجود له , فإن وُجد أي برغم إنتفاء ضرورة وجوده العمرانية , ففي حقل الشرع أو الدين لا في حقل العمران أو التاريخ , ذلك أن العلم إما أن ينبني ماديا ضد الغيب و المطلق و إما لا يكون علما , يكون إذّاك فرعا من الفقه أو من الحكمة الإلهية , هذا ما أدركه ابن خلدون في مقاربته التاريخ مقاربة مادية هي هي مقاربته العمرانية , لذا يمكن القول إنه بنقده منهج النقل عند المؤرخين السابقين لم يكن ينقد ممارستهم التاريخية و حسب و إنما كان ينقض في نقده هذا مفهوما للتاريخ هو وليد فكر ديني يقف عائقا في وجه تكوّن التاريخ في علم , ضد هذا الفكر الغيبي الديني إذن _و لا نقول ضد الدين , فالفرق بين العبارتين كبير_ كان ابن خلدون يشق في تاريخ الفكر العربي درب العلمية , فيضع لعلم التاريخ أسسه و يحدد للممارسة التاريخية منهجها العلمي ]]] .

بدأ ابن خلدون ثورة علمية رغم كونه فقيها مالكيا .. بل فقيه مميز حتى يشغل منصب قاضي المالكية بمصر [!] , لكن تُطرح لنا قضية تتعلق بابن خلدون و غيره ممن إنتهج [العلمية] لا [السردية] و [الفقهية] في تناول التاريخ .. قضية يعتبرها البعض (( حجة )) لصالح [السردية] و [الفقهية] , فماذا يمكن أن تكون ؟! .

إن [الخطأ] الذي قد يعتري طرح العلميين التاريخيين يعتبره البعض (( حجة )) لصالح [السردية] و [الفقهية] .. متناسين أن [الخطأ] العلمي ليس هو ذاته [الخطأ] الغير علمي , و في هذا الصدد (4) : [[[ وجب التمييز في المعرفة بين خطأ علمي و خطأ غير علمي , فالأول ضروري بسبب من تاريخية المعرفة , و وجوده لا ينفي الطابع العلمي من الفكر الذي يقع فيه , بل هو بالعكس يؤكده فيحدده أي يضعه في موقعه من الحركة التاريخية للمعرفة , و قد يلعب هذا الخطأ أحيانا دورا إيجابيا في تطور المعرفة في ميدان من ميادينها بمعنى أنه قد يكون ضروريا لهذا التطور , إنه في كل حال خطأ فكر علمي و يتحدد كخطأ بالنسبة إلى هذا الفكر و على تربته , أما الثاني فهو من فعل فكر غير علمي , و قد لا يصح تحديده بكل دقة كخطأ لأنه من فعل هذا الفكر , بينما الخطأ ليس خطأ إلا قياسا على فكر علمي , فالثاني هذا إذن لا يدخل في تاريخ العلم , و لا يحظى بكرامة الأول , بل يدخل في تاريخ ما قبل الفكر العلمي , إنه من عنصر معرفي آخر و من تربة معرفية أخرى ]]] .

==================================

أن لك الحرية أن تختار النوع الذي ترغب في أن تكونه , لكن في حالة كنت طالب [علم] في جامعة أو مدرس تخصص [علم] التاريخ أو ما يرتبط ب[علم] التاريخ في أي موقع كان .. فعليك أن تكون [علميا] أو أقله أن يكون منهجك في التدريس و المدارسة للتاريخ هو المنهج [العلمي] , و كل ما عدا ذلك _أعني [الفقهية] و [السردية]_ فهو تحريف للعملية العلمية .

و لنا أن نقول بعد ذلك أننا لم نتعرض لتناول العوامل الموضوعية التي لها دور في تشويه و تحريف العملية العلمية [علمية التاريخ] , فالعامل السياسي مثلا له دور في تشويه و تحريف هذا التخصص إذ له مصلحة في ذلك .. دون تناسي العوامل الأخرى , و لا أعتقد أن تناول العوامل هذه سيأتي بجديد فلم أذكره ... مبقيا بذلك موضوع الطرح ضمن أطره الفكرية [المُجردة] .

راجيا و متأملا .. بتصحيح العملية الجامعية خاصة فيما يتعلق بعلم التاريخ ليكون علميا حقا , و نحن في البحرين نحتاج لهذا التصحيح .



المراجع :
(1) نقد الفكر اليومي , مهدي العامل , دار الفارابي – بيروت , صفحة 266 {الهامش} .
(2) في علمية الفكر الخلدوني , مهدي العامل , دار الفارابي – بيروت , صفحة 64 .
(3) نفس المرجع , صفحات 64 – 65 – 66 .
(4) نفس المرجع , صفحة 31 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة أمام وزارة الدفاع اليابانية رفضا لشراء طائرات مسيرة م


.. عادل شديد: مسألة رون أراد تثير حساسية مفرطة لدى المجتمع الإس




.. دول غربية تسمح لأوكرانيا باستخدام أسلحتها لضرب أهداف داخل رو


.. ما دلالات رفض نصف ضباط الجيش الإسرائيلي الاستمرار بالخدمة بع




.. أهالي جباليا يحاولون استصلاح ما يمكن من المباني ليسكنوها