الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواطنون منسيون

حسن البوهي

2014 / 10 / 7
المجتمع المدني


"قد يمنحنا الألم نوعا من يقظة الضمير":جان بول توليه
تتوارى خلف جبال الأطلس الكبير الأوسط المغربي دواوير منسية كاد سكانها يفقدون علاقتهم بالعالم الخارجي بسبب وعورة التضاريس التي حالت دون اتصالهم بالمراكز الحضرية المجاورة، فانكمشوا على أنفسهم غير مبالين بحركية التحولات التي تعرفها العديد من المناطق، مُحافظين على نمط معيشي ورثوه عن الآباء والأجداد، وأُجبروا على تركه للأبناء، في متوالية دائرية تُعيد إنتاج نمط حياة تتحرك ببطء شديد في عالم يتغير بسرعة، ألفوا معاناة الشتاء والصيف واستأنسوا بشظف العيش، وأقصى ما تهفوا إليه أنفسهم هو توفير بعض الضروريات لتأمين متطلبات حياة يومية تقوم على الكفاف... الفقر والعوز يرخيان بضلالهما على تجمعات بشرية أنهكتها قساوة الإكراهات الجغرافية وقلة الإمكانيات، فارتسمت على محيا سكانها سمات التعب والإنهاك، إلا أنهم رغم ذلك يُصرّون على التشبث باستمرارية العيش ويُشاكسون الطبيعة من أجل تطويعها، فاتخذوا من انحدار طبوغرافيتها مساكن لهم، ومن قساوة الثلوج ومجاري الوديان مصادر مائية لمروج وحقول صغيرة تُوفّر لهم بعض المنتجات المعاشية....إنه غيض من فيض واقع معيشي تختزن تفاصيله اليومية تجليات القسوة والمعاناة، وقفنا على جزء منه في رحلة استطلاعية إلى دواوير منسية، استمرت لمدة 9 أيام مشيا على الأقدام بين فجاج ومسالك جبلية وعرة مُتدرجة الارتفاع، ابتدأت من مدينة دمنات، مرورا ب: إمي نيفري، أيت علا، أيت علي نيطو، مكداز، تكوخت، عزيب تودجا، تيزي ودغات، تامدا، تغزى، اغريس، تلوات، أفرى، أصادس، أزكر، الياكور، ورزازت (بكسر الواو وسكون الزاي الثانية) وصولا إلى منطقة أوريكا.
"مشاكلنا لا تعد ولا تحصى في هذه الربوع المنسية من البلاد" بهذه العبارة التي تختزل عمق معاناة عدد كبير من دواوير الأطلس الكبير الأوسط، تحدث إلينا "سعيد نجاح" من دوار الياكور، مُحاولا اختزال مجموع المشاكل التي وردت على لسان العديد من السكان أثناء حديثنا معهم في جملة واحدة، وبنطقه لهذه الجملة أومأ الحاضرون بالموافقة على مضمونها، وأفسحوا له المجال لكي يتحدث نيابة عنهم عن الإقصاء والعزلة المضروبة عليهم منذ عدة عقود، فهذه المنطقة التي تزخر بمؤهلات طبيعية، تخلب ألباب الوافدين عليها من السياح هواة الجبل لا تتوفر على أي وحدة صحية، ويُضطر المرضى من سكان الدوار إلى ركوب تحدي اجتياز الهضاب والتضاريس الوعرة من أجل الوصول إلى أقرب مستوصف بمنطقة "تغدوين".
أثناء مرورنا بدوار يدعى " أصادس" استوقفتنا طفلة في عمر الزهور لا يتجاوز سنها 7 سنوات، سائلة إيانا بلهجة أمازيغية ما إن كنا نتوفر على أقراص طبية أو أدوية مُهدّأة لألام الرأس ولالتهاب القصبة الهوائية من أجل أمها المريضة التي وقفت غير بعيدة عنها، قدمنا لها بعض ما كان في حوزتنا، واستفسرنا الأم حول ما إن كانت قد زارت المستشفى أو عرضت حالتها على طبيب مختص، فتفاجئنا لإجابتها عندما أخبرتنا أنها لم تر مستشفى طيلة حياتها ولم يكشف عليها أي طبيب، وعندما يُلمّ بها المرض تكتفي ببعض الأعشاب والوصفات التقليدية المتوارثة بالمنطقة أبا عن جد منذ عدة عقود، فبعض هذه الوصفات أثبتت نجاعتها في علاج نزلات البرد وبعض الأعراض الصحية غير المعقدة، في حين أنها عجزت عن علاج الأمراض المستعصية، والأكثر من ذلك كانت لها تأثيرات سلبية على سلامة باقي أعضاء أجسام بعض مستعمليها، وتسببت في ظهور أعراض مرضية أخرى نتيجة استهلاكها بشكل عشوائي وعدم مراعاة الكمية والكيفية المناسبة، وأشارت مُتحدّثنا أن ساكنة الدوار ناذرا ما يقصدون المستشفى نظرا لبعده الشديد عن الدوار، ولضعف إمكانياتهم المادية التي لا تستطيع تغطية مصاريف التنقل وشراء الأدوية.
تبقى قمة المعاناة في هذه المداشر المنسية - لاسيما خلال فصل الشتاء- هي عندما يتدهور الوضع الصحي لأحد المرضى، فيقوم أهل الدوار بحمله فوق نعش الموتى والسير به مشيا على الأقدام لمدة تتراوح بين 10 و12 ساعة بين فجاج وممرات وعرة إلى أقرب مستوصف بجماعة تغدوين.. وإذا لم يلفظ أنفاسه الأخيرة تُقدّم له بعض الإسعافات الأولية ليتم نقله إلى إحدى المستشفيات بمدينة مراكش.. إنها رحلة الموت المُحقق للتشبث بأخر رمق من الحياة بدواوير منسية سقطت من أجندة اهتمام المسؤولين فكان نصيبها الفُتات من مخططات التنمية.
أكد عدد من السكان الذين التقيناهم أن جزء كبيرا من معاناتهم التي يعيشونها مرتبطة بالدرجة الأولى بعدم وجود طرق معبدة تربطهم بالمراكز الحضرية وبالمستشفيات والمدارس البعيدة عنهم، مُضيفين أن وعورة التضاريس وضيق المسالك، تجعل اتصالهم بالعالم الخارجي ضعيفا، إذ يتعرفون على مستجداته من خلال أبناء المنطقة الذين يهاجرون للعمل في إحدى المدن، أو من خلال الزيارات القليلة جدا التي يقوم بها بعض السياح من هواة رياضة الجبل الذين يحكون لهم عن خصائص المناطق الحضرية التي جاؤوا منها.
إنهم مواطنون مغاربة، يعترفون بثوابت الأمة، يحترمون القوانين المنظمة للبلاد، إلا أنهم لم يجدوا من يعترف بهم، ويكفل لهم النذر القليل من حقهم الطبيعي في العيش الكريم، ويوفر لأبنائهم حجرات دراسية حقيقية لطرد ظلامية الأمية، ووحدات صحية لمداواة أجساد مرضاهم العليلة، وطرق تُبدّد قساوة ووحشة عيشهم بين غياهب جبلية.. الداخل إليها مفقود عن العالم الحديث والخارج منها مولود من رحم القرون الوسطى...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وخلق الله البشر !
اّرام ( 2014 / 10 / 7 - 23:54 )
لو سألت رجلا متدينا لماذا خلقوا هؤلاء التعساء وامثالهم فلا جواب عنه او ربما يقول لك الرد الذي تعودنا عليه وتخدرنا به وهو ...لعل في ذلك حكمة لا يعرفها الا الله !

اخر الافلام

.. تقرير أممي: إسرائيل ترتكب جرائم حرب بحق الأطفال في غزة والضف


.. منظمة الصحة العالمية: سكان غزة يواجهون جوعا كارثيا وظروفا شب




.. مسؤول حكومي بغزة للجزيرة: المجاعة شمال القطاع وصلت إلى مدى ك


.. منظمات حقوقية مغربية تطالب بالتصدي لظاهرة التسرّب المدرسي




.. انعدام المواد الغذائية والمياه.. المجاعة تضرب مجددا شمالي قط