الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفارَقتان

علا شيب الدين

2014 / 10 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



كانت تعيد إلى الثلاجة صحوناً مترعة ببقايا فطور "مترَف" انتهى للتو، حين جاءها حفيدها اليافع راكضاً، لاهثاً، صائحاً:"يا سِتّي (جدّتي) جيبي دفتر العيلي (العائلة) وتعالي نروح بسرعة لناخذ "معونة" قبل ما تخلَص، في زحمة وناس كثير". لم يفت المرأة استلال دفتر عائليّ آخَر خاص بابنها "المسافر" مع عائلته خارج سوريا ووضعه في جيبها. صفقت الباب خلفها ومضت مع حفيدها، إلى حيث تقيم "حصتها" و"حصة" ابنها الغائب وعائلته، من المعونات.
بعد ساعات، عادت السيدة من أحد مراكز "الهلال الأحمر" في السويداء بجنوب سوريا، حاملةً محمَّلة. فتحت كرتونة ضخمة – كما قالت لنا- فوجدت جوارب، أكياس، حِبال، علب زيت وسمن، معلّبات، منظفات، وغيرها. لدى السيدة المذكورة هنا كـ"نموذج" لآخذِ معونات إغاثية لا يستحقّها، وهي من السكان الأصليين في المحافظة المشار إليها، بيتٌ كبير، وراتب شهريّ تركه لها زوجها، الموظف في الدولة، المتوفى منذ عام تقريباً. أبناؤها وبناتها متزوجون ووضعهم المعيشي جيد، بل أكثر، إذ يملك بعضهم محال تجارية وأرزاق معقولة. يُحكى أن ثمة طحيناً (أبيض ممتاز) وبطانيات (ممتازة)، وُزعت أيضاً، والعِلم عند "ذوي العلم" كيف وزَّعَت ولمَن.
واضح من محتويات الكرتونة، أن مَن جهّزها، كان قد أدخل في حساباته الذهنية أنها مرسَلة إلى بشر هاشلين في العراء مثلاً، قد يحتاجون إلى حبال تساعدهم في نصب خيمة، أو إلى جوارب ربما تقي الأقدام العارية بعضاً من البرد أو..أو. غير أن المرسِل لم يعنِه على ما يبدو، أن يصل ما أرسلَه إلى المكان "الصحيح"، أي المنكوب المدمَّر جرّاء حرب مستعرة منذ أعوام، أو إلى الناس المنكوبين حقيقةً والمشرّدين اليائسين البائسين. المهم على ما يظهر، أن يشيع إعلامياً واستعراضياً أنه أرسلَ مساعدات إنسانية، وأن تتم بين الفينة والأخرى، إعلامياً واستعراضياً أيضاً، مداولة أرقام لمبالغ مالية ضخمة بقيمة كذا وكذا قدمتها هذه الدولة "المانحة" "الصديقة" أو تلك، هذه المنظمة أو تلك، هذه الجهة أو تلك!
استلمت تلك السيدة كرتونتـ(ها)، قبل فترة وجيزة من يوم 25 آذار(مارس) الماضي. اليوم الذي أقدمت فيه مريم الخولي، وهي امرأة سوريّة لاجئة إلى لبنان، على حرق جسدها ببنزين أضرمت فيه النار، أمام مكتبٍ تابع للأمم المتحدة في مدينة طرابلس، وأمام عيون أطفالها، احتجاجاً على توقّف المساعدات المقدَّمة لها ولعائلتها(منذ فترة، كانت الأمم المتحدة قد توقفت أيضاً عن إحصاء "أعداد" القتلى في سوريا بسبب غياب مصادر التوثيق الموثوقة كما أعلنت. أو ربما لتتفرّغ لـ"القلق"، مَن يدري؟!). قصة مريم التي راجت وشاعت، تحكي عن امرأة هي أمّ لأربعة أطفال لطالما تضوّروا جوعاً، ثلاثة منهم يعانون أمراضاً في الدم، وهي زوجة لرجلٍ مصاب بالرئة لا يقوى على العمل. تعليقاً على "خيارها" في حرق جسدها، قالت مريم بعد نقلها إلى المستشفى:"أحرَقوا قلبي قبل أن أُحرقَ أنا جسدي".


مدرّسة فلسفة!


مدرّسة "الفلسفة" في إحدى الثانويات العامة، تعاقِب طفلها ذا الأربعة أعوام، حين "يخطىء" بصفعه مراراً حتى يغدو لون وجهه بلون الدم، ثم جرّه من إحدى أذنيه إلى مستودع قديم في فناء الدار يمور بالجرذان، وجبره على الدنوّ منها، وسط جوّ من الرعب ونداءات استغاثة يرسلها الطفل إلى ذويه من آل جدّه لأبيه، بلا استجابة. إذ يُجمع الجميع على عدم التدخّل بين الأمّ وابنها (مُلكها وأحد مقتنياتها!)، كي لا تزعل هي، وكي يتربّى هو!. كانت جدّة الطفل لأبيه، تبتسم ببلاهة وهي تروي لي تفاصيل هذه "الجريمة"، إلا أنها – والحق يُقال- كانت تمرّر في سياق الكلام والابتسام، اعترافاً بقسوة كنّتِها تارة، وطوراً شفقةً حيال حفيدها!
شدّني المرويّ في ذاك المساء، إلى أن أعود إلى كتبٍ لم أفتحها منذ سنوات، حين كنتُ أدرِّس المنهاج نفسه الذي تدرِّسه تلك "المدرِّسة/الأم". رحتُ أقلّبُ في صفحات كتاب مخصص لطلاب وطالبات الصف الأول الثانوي (العاشر) "المدخل إلى الفلسفة، علم الاجتماع، علم النفس/ الجمهورية العربية السورية، وزارة التربية، 2010 - 2011".
في الصفحتين(34و35) من الكتاب المذكور، وقفتُ مطوّلاً عند السؤال الآتي: كيف نعزّز القيم الأخلاقية في المجتمع؟. السؤال الذي جاء في معرض الإجابة عنه ما يأتي: "لا يكفي الإنسان أن يحمل القيم حتى يكون أخلاقياً، فالإنسان يصنع القيم وعليه أن يتمثلها واقعاً، ويمارسها سلوكاً، ويؤثر في الوقت ذاته في أخلاق الآخرين من خلال التنشئة الاجتماعية الأخلاقية. ففي الأسرة: يتمثل الأبناء قيم والديهم بالتقليد والمحاكاة، فالتربية بالتقليد أكثر منها بالتلقين.(إذا كذبَ الأب أمام أبنائه فلن يستطيع تعليمهم فضيلة الصدق بالوعظ والكلام). وفي المدرسة: يتحقق ربط القيم والمثل الأخلاقية بواقع الأجيال داخل المدرسة وخارجها؛ وذلك من خلال أمثلة واقعية تبيّن للطالب، متى؟ وأين؟ وكيف؟ يطبّق القواعد الأخلاقية، ويترجم ذلك سلوكاً وممارسةً. التنشئة الأخلاقية تربية وليست تعليماً، ولا تتمّ تحت الضغط أو الخوف من العقاب، وإنما بتكوين الدوافع الحقيقية النابعة من الالتزام الشخصي بالقيم، وبهذا نحقّق الغاية الأساسية للتعليم وهي إعداد الإنسان للحياة".
كنتُ أقرأ، أتذكّر، أفكر، أحلم وأهيم، لكن تطرُق وعيي في الآن عينه، تساؤلات ممضة: أحقاً هذا ما تعلّمه تلك المدرّسة؟! فلسفة! أيُعقل؟! أوليس من الغبن والظلم الحالك، أن يكون هذا الطراز المشوّه من المدرّسات/الأمهات "مقبولاً"و"مستساغاً" في مجتمعات تقليدية تعادي الفكر الحر والإنتاج والإبداع. وبلغة برغسون، تتقوقع في "الأخلاق المنغلقة ضد الأخلاق المنفتحة"، أكثر بما لا يقاس من ذاك الطراز المثقف من النساء، الجدير، الموهوب المبدع، الكفء، المنهجي، الأنثوي، العميق الرقيق، المتنوّر التنويري، المحترِم إنسانية الإنسان وحريته، الساعي بحماسة وشجاعة إلى جسر الهوة بين ما يقول وما يفعل، ما يفكّر وما يمارس، ما يعلّم وما يعيش، ما يعلِن وما يضمِر؟! أوليس من سخريات "القدَر" وترّهاته، أن يصدّق شاب متحمّس، وهو ذاهب إلى إجراء مقابلة شفاهية، بعد اجتياز امتحان خطّي بنجاح، أنه سيجري تعيينه في مجال التدريس، ما دام يحمل معه عدّة فكرية علمية ثقافية أخلاقية، ممزوجة بالرشاقة وبالروح التوّاقة، تخوّله خوض تلك المهمة النبيلة؛ بينما يكون أقصى ما يريده المختبِر التأكدَ من وجود "العقل العسكري" في رأس المختبَر، وتفحّص هيئته الجسمية، مصحوباً بالرضى عند رؤية وجهٍ محمَّرٍ خجلاً، ويدين متعرّقتَين مرتجفتَين ارتباكاً، وظهرٍ منحنٍ، وكتفَين متهدّلين إلى الأمام يخفس بينهما عنق، ونبذ كل ما يشير إلى الكبرياء، قبل تحبيذ التأتأة في ما يخصّ الهامش(الاختصاص العلمي)، والطلاقة المتسلّطة حين يحين وقت المركز، وما أدراك ما المركز؟!.


*كاتبة سورية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر: مطالب بضمانات مقابل المشاركة في الرئاسيات؟


.. ماكرون يثير الجدل بالحديث عن إرسال قوات إلى أوكرانيا | #غرفة




.. في انتظار الرد على مقترح وقف إطلاق النار.. جهود لتعزيز فرص ا


.. هنية: وفد حماس يتوجه إلى مصر قريبا لاستكمال المباحثات




.. البيت الأبيض يقترح قانونا يجرم وصف إسرائيل بالدولة العنصرية