الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموقف من استمرار الوجود -1-

محمد عبد القادر الفار
كاتب

(Mohammad Abdel Qader Alfar)

2014 / 10 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الجنّة ..... يا لجمال ذلك الحلم.....حيث كل شيء متاح ... كل شيء جميل .. الجميع سعيد ... الجميع مستمتع .. لا صراع .. لا معاناة ... كل ما تطلبه تحصل عليه ... اطلب تعط...

فيا له من مصير !

ولكن أليس المصير نهاية ؟...

ماذا بعد المصير؟

حين تفكر في الأمر، تجد أن أحوال أهل الجنّة لا تطمئن .... وتبدأ التساؤلات ... هل ينجب أهل الجنة أطفالا .... وإذا كانوا ينجبون، فهل الجنة تتوسع ... وإذا كانت تتوسع، فهل تصبح للإنسان أجيال لا نهاية لها من الأحفاد ... وهل تطيق ذاكرته ذلك ...

وماذا لو اشتاق أحد أهل الجنة إلى طفولته ... وأراد أن يعود طفلا ...


الحقيقة أنه لا مفر من إسقاط التجربة الإنسانية على هذا الواقع الأبدي، كون الانسان يريد أن يظل إنسانا ... وهذا ما وُعِد به ... وعلى هذا الأساس سعى للجنة سعيها وهو مؤمن ...

التجربة الإنسانية هي محدّد هذا الوعي، وعيي ووعيك...


الأمر بسيط إذا... محدّدات .... المحددات كالعادة هي ما يخلق الملامح ... ويسمح بالاستمرار ... لتكن طبيعة أهل الجنة عدم إرادة التكاثر، وعدم تمنّي أشياء تعطّل الحياة، مثل أخينا الذي يريد أن يعود طفلا ...


تغيير جيني مثلا ... أو بيئي .. الإنسان مثلا لا ينزع لنكاح المحارم في العادة .... هذا ونحن في العالم الأرضي يجيب عن سؤال أحد الملائكة للمصمم في الملأ الأعلى "وماذا لو اشتهى الإنسان أمه أو أخته، ألم تخلقهم من ذكر وأنثى"....


التصميم تطلب هنا محدّدات ... "ببساطة ننزع هذه الرغبة ، ولو على مدى أجيال ... لنمنع تصارع الذكور في البيت الواحد على الإناث... ولنسمح بالاستمرار ..."


لذا يبدو أن العقل البشري ينتج غرورا يصوّر لصاحبه أنه لا بد للعقل من أن يكون قادرا نظريّا على الإحاطة بكل شيء.... لتأتي غرائزه ومحدداته البيولوجية لتنوب عنه في إجابة سؤال مثل "لماذا لا تحب هذا أو لماذا تشمئز من ذاك"...

الرغبة في استمرار الوجود في حد ذاتها "محدد"... من أهم المحددات ... فهي وراء التكاثر.. ولو كانت الرغبة هي فقط في استمرار الذات وخلودها لاكتفى الإنسان بتمني الخلود لنفسه لا للأرض والحياة عليها وترك أشخاص يواصلون العيش والبناء في عالم هو مفارقه إلى عالم آخر..او الى الفناء...


هذا المحدّد إذا -الرغبة في استمرار الحياة على كوكب الأرض- جاء ببساطة عن طريق غريزة غرس البذور في الأرحام، ونشر الدي إن إيه... وغرائز النفور من جنس المحارم سمحت بوجود أنوية العائلات بدلا من صراع الذكور داخل الأسرة الواحدة ... وهذا أدى إلى خلط الدي إن إيه أكثر ...


وبالعودة إلى أهل الجنة ... فأحوالهم التي كانت لا تطمئن منذ قليل، يبدو أنها لا يمكن أن تكون خارج السيطرة .... خاصة الملل ... لا بد من وجود آليات تتحكم به ... أبسط هذه الآليات --التي يمكن أن تسمح بالسيطرة على "الملل من الوجود" دون ان تحوّل الانسان الى كائن بليد غير شغوف-- هي آلية النوم الطويل ..... لننم مئة سنة من كل ألف سنة ... ولننس ... نعم ... لتكن ذاكرتنا دائما قادرة على أن تعود للخلف ألفي سنة فقط مثلا .... بحيث أنه كلما مر وقت أكثر كلما محيت الذكريات الأقدم .... هذه مقترحات بدائية وسهلة ... فما بالك بنبع الإبداع ...


ولكن لا زال لدى من هو مشتاق لنيرفانا الفناء حجة أخرى ... فهو يتذمر من هذه الحياة التي تحكمها محدّدات تجعل العقل ذليلا أمامها ... فلا يعرف لماذا يريد ولماذا لا يريد... وانما هي فقط بيولوجية وجينات وهرمونات ... والحرية هي في عدم استمرار كل هذا...


النوم مئة سنة من كل ألف سنة لا يكفي ذلك العاشق للفناء ... ولكن... ما رأيه بعالم لا جنس فيه ... ماذا لو أن الجنة لا جنس فيها ولا نشتهي الجنس فيها أصلا .... لو أجبرنا ذلك العاشق للفناء على أن يعيش، وخيّرناه بين عالم لا يشتهي فيه الجنس أصلا ليفتقده، وعالم فيه جنس..... كوننا سألناه السؤال ومحددات الرغبة في الجنس لا زالت تحكمه، فهو سيقول إذا كان لا بد من العيش، فليكن عيشا فيه جنس!..


ولكن تعال لنسأل شخصا من عالم افتراضي لا توجد فيه أصلا رغبة جنسية نفس السؤال.... هو لن يفتقد شيئا لا يعرفه .... ولأن الرغبة الجنسية ليست مزروعة فيه، فمشاهد الناس وهي تركب بعضها فتتلذذ ستبدو له مضحكة، أو إذا كانت غرائز الاشمئزاز موجودة فيه فقد تبدو له مقرفة ...


المشتاق للفناء يقول على الأقل إذا لم نتحرر بالفناء الكامل فلننزع عنا هذه المحددات فنصبح عقلا خالصا لا تحكمه أي أهواء... ويا لها من حرية..... وسنغض الطرف هنا عن أن الرغبة في الحرية هي في حد ذاتها من المحددات، المحددات التي يبدو أن من ضمن أهدافها الدفع بالتطور للأمام حين تبطل مسوغات وجود بعض الزنازين، لخلق زنازين جديدة بعد مدة، سيتم خلق رغبة في التحرر منها عند الوقت المناسب، حين تزول فعاليتها.... سنغض الطرف عن ذلك ونقول له .. ولكن كل الأهواء تشتعل وتخمد، لتعود فتشتعل وتخمد، وما ان تخمد، حتى تصبح محيّدة، ولو لوقت قصير، فتحضر خصال العقل الخالص أمامها، لذة الأكل ولذة النوم ولذة الجنس كلها مؤقتة، تشتعل ثم تشبع، ثم تشتعل من جديد.... ما رأيك بهذا الحل... هذا يتيح للعقل الخالص أن يحضر، وللغايات أن تستمر، دون أن يسلبنا أي حضور للعقل الخالص...


لكن صاحبنا داعية الفناء سيعود بعد انطفائه قليلا ليشتعل ويناكف -وهذا ناتج عن محددات ليست خارج الحسبان، فخطابه ضروري، خطاب الفناء لا يجب أن يفنى، ليبقى يخيف عشّاق الاستمرار بعصا الفناء-... سيعود ويقول، وماذا بعد كل ذلك... النوم مئة سنة كل ألف سنة، ولذات ما بعدها لذات... ونسيان وتذكر ... وقصص لا تنتهي ... وذاكرة تمتد ألفي سنة فقط ... ولا ملل ..


ماذا بعد .... الن يشتاق هؤلاء البشر للتطور ... فإلى أين سيصل التطوّر... ام أنهم سينسون أين وصلوا بتطورهم ويعودون إلى سابق عهدهم البدائي، ليعاودوا التطور من جديد، مثل سيزيف .... يا لعبثية هذا ... ويا لنعمة النسيان التي أصابت سيزيف هذه المرة ... فسيزيف الجنة (أهل الجنة) ينسى صراعه نحو القمة في كل مرة، ليذوق كلما تسلق القمة من جديد طعم إنجاز يحققه أول مرة ..


ألا يدفع هذا بالملأ الأعلى إلى الضحك .... إذا كانت أحوال أهل الجنة هي هذا المصير فإن أحوال أهل الملأ الأعلى هي الضحك المتواصل على تلك السعادة المتكررة التي تصيب سيزيف كلما وصل إلى القمة .... يصلها للمرة المليار، فيصيح أخيرا وصلت، وتزغرد له اللواتي زغردن له مليار مرة قبل ذلك، وتتعلم التي لا تجيد الزغردة أن تزغرد وسط هذه الاحتفالية، تتعلم ذلك "من جديد" للمرة المليار...

وعجبا لعاشق الفناء هذا، إذ يظنّ أن نبع الإبداع عاجز إلى هذا الحد، ليركن إلى عود أبدي لن يعود مضحكا بعد مدة..


الصراع.... الصراع يا عاشق الفناء .... صراع جديد، لم يسبق له أن وجد.... في أي ذاكرة وفي أي نسيان.... افتراس جديد ومعاناة جديد وألم جديد وكفاح جديد .... فسيزيف لن يكرر نفسه ...... سيبدأ بتغيير ما يحمله .... فبدلا من صخرة... قد يحمل وعاء كبيرا من الماء مثلا، ينسكب منه طوال الطريق، فيجده فارغا حين يصل، فيضحك على خيبته، وتضحك عليه النساء اللواتي تزغردن، ثم يعود فيحمل شيئا آخر، وقد لا يسير من الأعلى إلى الأسفل، وقد يزحف زحفا....


ولكن عاشق الفناء يعود ليشتعل بعد أن انطفأ.... فيقول ... ولماذا لا نفنى... يمكن أن يضاف إلى تركيبة المحددات عنصر جديد، عنصر تقبّل الفناء .... وقال لي: أنت تكافح للاستمرار في الوجود لأن هذا المحدد "محدد تقبل الفناء" ليس موجودا فيك ... وما إن يوجد فيك حتى تنطفئ فيك شعلة الرغبة في الاستمرار ..... وشبه الأمر بالشخص الافتراضي الذي يعيش في عالم لا توجد فيه رغبة جنسية، حين سألناه كيف يطيق الحياة من دون جنس.... فمع زرع محدد يتقبل الفناء، يسير الناس للفناء بسهولة ... ولعل المحدد هو الرغبة في الاستمرار لا تقبل الفناء ... فالوجود طارئ على العدم.. الحالة الأصلية المستقرة ... و"التشبث" و"التمسك" ورفض "الإفلات"... "رفض إفلات كل شي... بما في ذلك الانفلات من أن تكون"Letting go of being ... فهذه محددات خلقتها أجندة الرغبة في الاستمرار...



لن أملك أن أقول له بعد خطابه الأخير -الضروري- هذا سوى "هذا فراق بيني وبينك".... إذ لم يعد من الممكن أن نستمر في هذا الجدال دون أن نتفق على شيء ما ...

"وجود الله" ...نعم.... عليك نور يا عاشق الفناء ...


لو فني كل شيء، كل شيء، خمدت كل طاقة الكون حسب ما يمكن للعلم أن يتحدث عنه أو للفلسفة أن تصفه... فلا يمكن أن لا يكون ... لا يمكن أن لا يكون أي شيء.....


مهما فنيت أشياء، فهذا الشيء يبقى... وهو قادر على استرجاع كل ما مر دون جهد...


وهو خلف خطاب الفناء وخلف خطاب البقاء...


هو الله ..

وليس بالضرورة أن نتفق على الله لنتمكن من الاستمرار في الحوار ولا يصل الى نقطة مسدودة ... ولكن يكفي أن نتفق على أنه "لا يمكن أن لا يكون هناك أي شيء"


يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موسكو تنفي اتهامات واشنطن باستخدام الجيش الروسي للكيماوي في 


.. واشنطن تقول إن إسرائيل قدمت تنازلات بشأن صفقة التبادل ونتنيا




.. مطالبات بسحب الثقة من رئيسة جامعة كولومبيا الأمريكية نعمت شف


.. فيضانات عارمة اجتاحت جنوب البرازيل تسببت بمقتل 30 شخصاً وفقد




.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات