الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البحث عن لغات فكرية جديدة

حسن عجمي

2014 / 11 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تختلف النظريات اللغوية و تتصارع. لكن رغم اختلافها ما تزال اللغة أداة تفكير بشري. نرصد في هذا المقال علاقة اللغة بالفشل الفكري و نجاحه و تنوع النماذج الفلسفية الهادفة إلى فهم اللغة و تحليلها.

بالنسبة إلى عالِم اللغة نعوم تشومسكي , اللغة فطرية بمعنى أنها تولد في الإنسان مع ولادته ؛ فاللغة كامنة في جيناتنا البيولوجية. يؤكد تشومسكي على أنه توجد لغة عالمية واحدة فكل اللغات ليست سوى لغة واحدة مشتركة بين جميع البشر لكونها بيولوجية في الأساس. و بما أن كل اللغات لغة واحدة , إذن يستنتج تشومسكي أنه توجد قواعد لغوية عالمية تشترك في امتلاكها كل اللغات. و يعبِّر تشومسكي عن نظريته بطُرُق مختلفة منها قوله : إذا زار الأرض كائن فضائي من كوكب آخر , فسوف يسمع لغة واحدة يتكلم بها كل البشر لكن بلهجات متنوعة. و الدليل القوي الذي يقدّمه تشومسكي للبرهنة على صدق نظريته هو التالي : ينجح الطفل في تركيب عبارات لغوية سليمة قواعدياً و ذات معان ٍ من دون أن يكون قد سمع بها مُسبَقاً و من دون أن يعلّمه أحد كيفية صياغتها. و التفسير الوحيد و الأفضل لهذه الحقيقة , كما يقول تشومسكي , هو أن اللغة فطرية و عالمية تولد في الإنسان مع ولادته و لذلك يتمكن كل طفل سوي من بناء عبارات سليمة في قواعدها و معانيها ( Noam Chomsky : Language And Problems Of Knowledge. 1988. The MIT Press. & Noam Chomsky : Language & Thought. 1993. Moyer Bell ).

أما بالنسبة إلى عالِم اللغة و الأنثروبولوجي دانيال إفيريت فلغة قبيلة "بيراها" في غابات الأمازون تشكّل أداة ثقافية فريدة من نوعها. فهي لغة تكوّنت على ضوء محيطها الطبيعي المختلف. ففي لغة هذه القبيلة لا توجد كلمات تعبّر عن اليمين و اليسار. و يستخدم أفراد هذه القبيلة المصطلح نفسه للتعبير عن اللون الأزرق و اللون الأخضر. و لا تملك القبيلة نظاماً عددياً. و لا تحتوي لغتهم على شبه الجملة كما تخلو لغتهم من صيغة الفعل التام. و تتواصل أيضاً هذه المجموعة القليلة من البشر من خلال الهمهمة و الصراخ و التصفير. بذلك لديهم أنماط لغوية إضافية مختلفة كلياً عن لغاتنا المعروفة كالعربية و الإنكليزية و الفرنسية. لكن تملك لغتهم مفاهيم و مصطلحات دقيقة تشير إلى ما يوجد في محيطهم الطبيعي و إلى كل ما يثير اهتمامهم فيها. على ضوء المعطيات السابقة يستنتج إفيريت أن اللغة هي نتيجة الإدراك و الثقافة و التواصل , و بذلك لا توجد غريزة لغوية كما يقول السيكولوجي ستيفن بنكر كما لا توجد قواعد لغوية عالمية و فطرية في الإنسان كما يصر تشومسكي. فلغة القبيلة الأمازونية السابقة مختلفة كلياً عن اللغات البشرية الأخرى التي نعرفها و بذلك لا توجد لغة مشتركة بين جميع البشر ما ينسف النماذج الفكرية التي طرحها بنكر و تشومسكي ( Daniel Everett : Language: The Cultural Tool. 2013. Profile Books ).

ترينا أبحاث إفيريت أن اللغة وسيلة ثقافية وظيفتها الأساسية الحفاظ على استمرارية الناطقين بها ؛ فلغة أفراد القبيلة الأمازونية السابقة تكوّنت على أساس ما يفيدهم في البقاء أحياء. و في حال افترضنا أن اللغة مجرد أداة ثقافية للتواصل و تحقيق البقاء كما يقول إفيريت أو أنها غريزة إنسانية أو فطرية و عالمية و مشتركة بين جميع أفراد البشرية كما يعتبر بنكر و تشومسكي , تبقى اللغة آلية للحفاظ على بقاء الجنس البشري. اللغة أداة ناجحة في إبقاء الإنسان على قيد الحياة. فاللغة تحمل معلومات حول ما هو مفيد و ما هو مضر و هي قادرة على إيصال تلك المعلومات بشكل سريع و دقيق. و بذلك على الأرجح أصبحت اللغة بنية بيولوجية تحيا في جيناتنا بسبب فائدتها القصوى في الحفاظ على استمرارية الجنس البشري. فبمجرد أن نقول " هذا خطر" أو "ذاك مضر" يتمكن الإنسان من الانتباه من هذا الخطر أو ذاك الضرر فيتجنبه و يحافظ على بقائه حياً. هكذا الوظيفة الأساسية التي من أجلها نشأت اللغة هي وظيفة الحفاظ على بقاء الجنس البشري. و بما أن الوظيفة الأساسية للغة كامنة في الحفاظ على الجنس البشري , إذن التعبير عن الحقائق الخفية للكون ليست وظيفة من وظائف اللغة البشرية. و لذلك تفشل اللغة الإنسانية في التعبير عن حقائق الكون غير المرئية.

الآن , بما أن وظيفة اللغة هي الحفاظ على الحياة , إذن من الطبيعي أن لا تمتلك اللغة المفاهيم و المصطلحات القادرة على تفسير حقائق الكون و التعبير عنها خاصة ً إذا كانت تلك الحقائق غير مرتبطة مباشرة ً بنجاح إبقاء الإنسان حياً. هكذا المشكلة الفكرية الأساسية كامنة في أن اللغة فاقدة للمفاهيم و المصطلحات الضرورية للتعبير عن حقائق الوجود و تفسيرها. هذا الموقف مختلف عن موقف الفيلسوف فتجنشتين القائل بأن المشاكل الفكرية أصلها التخبط في استخدام المفاهيم. فالمشكلة الأساسية في الفكر الإنساني لا تكمن فقط في سوء استخدام المصطلحات , بل تكمن أيضاً في عدم وجود المصطلحات و المفاهيم القادرة على تفسير الكون و حقائقه. و إن تخلصنا من التخبط في استخدام المفاهيم فهذا لا يكفي و لا يضمن نجاح العقل الإنساني في التعبير عن حقائق الوجود. و السبب وراء ذلك هو أن اللغة الإنسانية فاقدة للمفاهيم الضرورية التي نحتاجها لتحليل و تفسير الحقائق الدقيقة للكون.

مثل ذلك أن أينشتاين اضطر , بسبب عجز لغتنا , إلى صياغة مصطلح الزمكان ( جمع الزمان و المكان ) لكي يعبِّر عن نظريته العلمية. فبالنسبة إلى أينشتاين, الزمان و المكان يشكّلان بُعداً وجودياً واحداً , و لذا من الضروري التعبير عن اتحادهما. لكن اللغة الإنسانية لم تكن قادرة على ذلك. لذا صاغ أينشتاين مصطلح الزمكان لكي يعبِّر عن وحدة الزمان و المكان. من هنا , لغتنا الإنسانية غير قادرة على التعبير عما نعتقد و عما يوجد في العالم الواقعي , و لذلك يحتاج العلماء إلى بناء لغات جديدة قادرة على التعبير عن نظرياتهم و وصف الواقع و تفسيره. من هذا المنطلق , صياغة لغات جديدة وظيفة أساسية من وظائف العلوم. فالعلماء يبنون لغات جديدة باستمرار ليتمكنوا من وصف الكون و تفسيره. هذا يشير إلى فشل لغتنا في التعبير عن المعاني و الحقائق لأن لغتنا في الأساس مبنية لإبقائنا أحياء بدلا ً من أن تكون مكوَّنة للكشف عن الحقائق الكامنة في الوجود و التي لا تنفعنا في حياتنا اليومية بشكل مباشر. هذا الفشل اللغوي أجبر العلماء و الفلاسفة على الاستمرار في تركيب و اشتقاق مفاهيم جديدة لكي ينجحوا في وصف و تفسير الوجود. و بذلك فشل لغتنا في التعبير عن حقائق الكون هو السبب الأساس وراء حقيقة أن العلم عملية بحث مستمرة. من هنا , فشل اللغة ليس فشلا ً معرفياً فقط بل هو أيضاً فضيلة معرفية لأنه يدعونا إلى البحث الدائم عن نظريات علمية جديدة حاوية على لغات إنسانية لم نعهدها من قبل. و بهذا لا يختلف الفشل المعرفي عن نجاحه. و لذا العلم بحث مستمر.

كما لا تنجح لغتنا في التعبير عن الحقائق العلمية الدقيقة , تفشل لغتنا أيضاً في حل المشاكل الفلسفية. و هذا متوقع لأن وظيفة لغتنا كامنة في إبقائنا على قيد الحياة بدلا ً من حل المشاكل الفكرية. و بذلك أساس المشاكل الفلسفية هو أن لغتنا خالية من المصطلحات و المفاهيم القادرة على تفسير الحقائق و الظواهر و التعبير عنها. مثل ذلك هو التالي : توجد مشكلة فلسفية أساسية مفادها أن الحي لا بد من أنه قد نشأ من اللاحي. لكن المادة اللاحية لا تملك الحياة أصلا ً لكونها غير حية و بذلك يستحيل أن تنشأ الكائنات الحية من المادة غير الحية. رغم ذلك نعرف علمياً أن الكائنات المعقدة كالكائنات الحية نشأت من الكائنات الأبسط كالمواد غير الحية. و هذا ما لم تتمكن لغتنا من التعبير عنه و تفسيره بسبب خلو لغتنا من المصطلحات و المفاهيم القادرة على ربط اللاحي بالحي و التعبير عن نشوء الأحياء من المواد غير الحية. فمثلا ً , لا تملك لغتنا مصطلحاً يجمع و يربط بين مفهوم الحي و مفهوم اللاحي. و بذلك من الطبيعي أن لا تتمكن لغتنا من التعبير عن ارتباط الحي باللاحي و كيفية نشوء الحي من اللاحي.

على ضوء هذه الاعتبارات , ما زالت البشرية تبحث عن لغات فلسفية و علمية جديدة قادرة على التعبير عن حقائق الكون و حل المشاكل الفكرية ما يجعل مشروع الأفكار الفلسفية و العلمية مشروعاً لا ينتهي و ما يضمن بدوره استمرارية البحث العلمي و الفلسفي. فشل لغتنا نجاح للعلم و الفلسفة. لا نجاح من دون فشل كما لا فشل من دون نجاح. ثنائية النجاح و الفشل ثنائية كاذبة. فحين فشل العدم في أن يبقى عدماً تحوّل إلى كون و وجود كما تؤكد النظريات العلمية. و حين فشلت الكائنات الحية في أن تبقى كما هي تطورت. كون من دون فشل كون من دون تطور. و كون من دون تطور كون من دون وجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والصين.. تحالف لإقامة -عدالة عالمية- والتصدي لهيمنة ال


.. مجلس النواب الأمريكي يصوت بالأغلبية على مشروع قانون يمنع تجم




.. وصول جندي إسرائيلي مصاب إلى أحد مستشفيات حيفا شمال إسرائيل


.. ماذا تعرف عن صاروخ -إس 5- الروسي الذي أطلقه حزب الله تجاه مس




.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح