الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشوراء بين -المضمر و الصريح-

خالد الطيبي

2014 / 11 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يحتفل المغاربة بمناسبة عاشوراء في العاشر محرم من كل سنة , وذلك تخليدا لذكرى نجاة موسى عليه السلام وقومه من فرعون و جنوده , وعاشوراء هي أيضا سنة مؤكدة حيث أمر محمد عليه السلام بصيام اليوم التاسع و العاشر و ذلك لمخالفة اليهود في صيامهم ليوم عاشوراء فقط. فعاشوراء في المجتمع المغربي يتم وفق مجموعة من المراسم والطقوس ذات الصبغة السوسيودينية , هذه الطقوس عرفت على مر الزمن مجموعة من التعديلات تراوحت بين زوال بعضها و استنبات اخرى , ولعل هذا ما يفسر الغنى الثقافي الكبير من جهة , والتناقض الصارخ بين بعض هذه المراسم من جهة أخرى .
فعاشوراء كظاهرة اجتماعية بكل مقاييسها الدوركايمية تعد مجالا خصبا للدرس والفهم السوسيولوجي , لذلك يمكن طرح أكثر من سؤال في هذا المقام , حول مرجعية هذه الطقوس و روافد هذه العادات , قصد فهم اتملوجيتها وعلاقتها بما صارت عليه اليوم , ثم فهم مدلولاتها الماضية و الحاضرة . اذن لم الاحتفال بعاشوراء ؟ وبمن الاحتفال ؟ وما دلالة الماء و النار في هذه المناسبة ؟ و ما هي المناحي التي تنحو نحوها الظاهرة ؟ و ما هي أوجه الاختلاف و الاتلاف بين المجالين القروي و الحضري ؟ أسئلة وأخرى سنحاول الاجابة عنها قدر الامكان انطلاقا مما تم جمعه من معطيات ميدانية انطلاقا من المعايشة اليومية والملاحظة والمقابلة . يكون ليوم عاشوراء في المجالات القروية طابع خاص , تمارس خلاله مجموعة من العادات والطقوس الاحتفالية ,من أهمها الصيام (صيام اليوم التاسع والعاشر ) ثم الاستعداد لليوم ففي بعض المناطق يتم الاحتفال في الليلة التي تسبق يوم عاشوراء وتسمى محليا ب "أوشن" أو الذئب اذ يسود اعتقاد أن الاحتفال بهذا الطقس له قوة عجيبة في إبعاد الذئاب التي تعتدي على المواشي،لذلك تقوم النساء سنويا خلال يوم عاشوراء بالإجتماع في أحد المنازل.
حيث يصنعن " أشن" الذئب عن طريق عجينة ممزوجة بالطين والتبن ،ثم تخرج النساء مرفوقات بالفتيات والصبيان في موكب واحد خلال الليل،صوب أحد الدواوير القريبة ليضعنه هناك ،ويرددن خلال ذلك أغاني " تنكيفت" مصحوبة بالدفوف والزغاريد ،وغالبا ما تشتد المنافسة بين هذه الدواوير إلى حد العداوة وحدوث صدامات دامية تستدعي تدخل مؤسسات الضبط الاجتماعي لفض النزاع هكذا وبعد وضع " أشن " في المكان المتفق عليه ، يستعد الجميع للجري للابتعاد عن ذلك الموضع المشؤوم . ويحرم أثناء الجري النظر إلى الوراء أو السقوط،وكل من وقع في إحدى هذه المحرمات يكون مهددا بالموت قبل انقضاء سنة على هذا الاحتفال .وبعد وصول الموكب إلى الدوار،ينخرط الجميع في إحياء لوحات فنية من غناء ورقص ،والذي يستمر إلى حدود انبلاج خيوط الصباح .
في الصباح يستمر الطقس الاحتفالي حول موائد الطعام أهمها الشاي و طبق "الفاكية " المكون من الفواكه الجافة (أنظر الصورة) بعد الفطور تظهر أكثر سمات عاشوراء بروزا وغرابة وهي التراشق بالماء ,حيث تبدأ المطاردات بين الاطفال في جو من الفرحة والمتعة ,لكن رغم ذلك يحظى الماء في هكذا مناطق بقدر من العقلنة , فهو مصدر الحياة اذ يقوم الفلاحون بعد الفجر برش كل ممتلكاتهم بالماء البارد ، قطعان الغنم و البقر ، و غيرها ، كما ترش الحبوب المخزنة ، وجرار الزيت والسمن وتقوم الأمهات برش وجوه الأبناء ، الذين يتنافسون في الاستيقاظ المبكر ، لاعتقادهم بأن من يكون سعيدا يوم عاشوراء سيقضي كل عامه كذلك ، ومن يتأخر في النوم إلى أن تشرق الشمس،يكون عامه تعيسا.
فالماء بالمجالات القروية له قدسية خاصة , وكل ما لمسه الماء يعد مباركا وكل ما لم يلمسه في هذه المناسبة يكون غير ذلك , بعد الزوال يبدأ الاحتفال ففي بعض المناطق من جنوب المغرب ,يحتفل الاطفال بسيوف خشبية مزخرفة بسواد الفحم وحمرة الحجارة مصنوعة من قلب جريد النخل , وقبعات مصنوعة من سعف قلب (ذو لون ابيض) النخل يرددون اهازيج امام كل دار املا في قطعة لحم او ما يسمى محليا ب"لقديد" أو بعض قطع السكر و النقود , أما بالنسبة للفتيات فإنهن يكتفين بالتجمع بأحد المنازل للاستمتاع بالرقص والغناء والتباهي بزينتهن أمام النساء .
كل هذه الطقوس الاحتفالية تعبر لا محال عن الغنى الثقافي للمجتمع المغربي أو ما يسمى بالرأسمال الثقافي بتعبير بيير بورديو .لكن حينما نخضعها للدين الاسلامي فإنها تثير جدلا كبيرا ذلك أن هناك من يربط هذه العادات بطقوس مذهبية موصوفة بالتطرف و ديانات أخرى غير اسلامية , وحتى لا تزل بنا الاقدم في مهاوي الكلام عن مرجعية هذه الطقوس سنحاول الاكتفاء بإلقاء نظرة موجزة حول المسالة فيما بعد .
يحتفى بيوم عاشوراء في المدن على نحو مغاير نسبيا اذ يسمى يوم العاشر من محرم ، بيوم زمزم وفي هذا اليوم ، يقومون برش الماء على بعضهم البعض. فيقوم أول من يستيقظ من النوم برش الباقين بالماء البارد، ويخرج عدد من الأطفال والشبان، خصوصا داخل الأحياء الشعبية، و في المؤسسات التعليمية, مما يجعل هذه المناسبة تشكل مصدر قلق و توتر بالنسبة للأطر التربوية, فتغرق الشوارع في المستنقعات. ومع مرور الساعات الأولى من الصباح يحمى وطيس معارك المياه، خصوصا بين الأصدقاء والجيران. ومن يرفض الاحتفال بماء زمزم من المارة ، عبر رش القليل منه على ثيابه ، قد يتعرض لتناوب عدد من المتطوعين لإغراق ثيابه بكل ما لديهم من مياه فتعم فوضى المياه داخل البيوت وخارجها. ثم يتوج بوجبة اليوم , بوجبة الكسكس المغربي باللحم المجفف أو "القديد" الذي تم تخزينه من أضحية عيد الأضحى ، خصيصا لهذا اليوم.
يحتشد الاولاد في مجموعات صغيرة لطلب حق "بابا عيشور" وهو نشاط للأطفال في فترة عيد عاشوراء حيث يجول الأطفال من منزل لآخر مرتدين الاقنعة والأزياء التنكرية يطلبون الحلوى والفواكه الجافة أو حتى النقود وذلك بإلقاء السؤال "حق بابا عيشور" على من يفتح الباب.



ليلة "الشعالة"


يعقب عاشوراء في المرب يوم "الهبا والربا " في الأسواق ، يعرفها كل المغاربة بليلة " الشعالة " ، حيث يتم إشعال نيران ضخمة في الساحات ، سواء في البوادي أو داخل بعض المدن ، التي لا تزال تردد صدى عادات موغلة في التاريخ ، ويحيط بها الأطفال و النساء ، وهم يرددون أهازيج ، بعضها يحكي قصة مأتمية ، دون أن يشير اشهار القتيل ، بل يسميهما في كل المقاطع باسم "عاشور".
أما بالنسبة الى عادة التراشق بالمياه فهناك من يعتقد انها تعود إلى طقوس من الديانة أليهودية كان يتمسك بها اليهود الليبيون ثم انتقلت الى المغرب منذ قرون ، حيث أنهم يعتقدون أن الماء كان سببا لنجاة نبيهم موسى في هذا اليوم من بطش فرعون وجنوده. ويعتقد اليهود المغاربة بأن الماء في هذا اليوم يتحول إلى رمز للنماء والخير و الحياة , مما يجعلهم حسب ما راج في بعض الكتابات ، التي تناولت تاريخ اليهود المغاربة ، يحتفون بالماء ، ويتراشق به أطفالهم طيلة اليوم ، في حين يرش به الكبار أموالهم و ممتلكاتهم ، أملا في أن يبارك الله لهم فيها , يقول الأستاذ عبد الرزاق هرماس في مقال له منشور بجريدة الراية عدد 247 ص 20 بتاريخ 21/3/2002 «... فإن ظاهرة التراشق بالمياه في عاشوراء من البدع التي استحدثها يهود ليبيا ، وشاعت في أوساطهم جيلا بعد آخر قبل هجرتهم الجماعية إلى فلسطين المغتصبة ، وانتقلت هذه البدعة من يهود ليبيا لتنتشر بين يهود المغرب في الملاحات قبل هجرتهم أيضا أما قصدهم من هذه البدعة الشركية فقد كان معتقد يهود ليبيا ـ وأكثرها صحراء ـ أن التراشق بالماء في هذه المناسبة سبب للغيث ونزول المطر في العام المقبل ، لذلك درج اليهود على تشجيع أبنائهم على هذه العادة الكافرة » .
بحكم أن اليهود المغاربة كانوا يمثلون، قبل عقود قليلة أغلبية في بعض الأسواق المغربية ، ورغم رحيل أغلبيتهم الساحقة إلى المشرق ، فإن بعض عاداتهم وتقاليدهم لا تزال جزءا من النسيج المغربي إلى اليوم.
بالنسبة للبعض الاخر فان عادة التراشق بالماء انما تستمد جذورها من مأساة أهل البيت في كربلاء بسبب الجيش الاموي حيث حرموا المسلمين من امدادت الماء و الطعام حتى هلكوا .
أما بالنسبة للمسلين فهو تخليد لذكرى نجاة موسى وقومه من فرعون وجنوده من خلال البحر , لذلك يعد يوم عاشوراء يوم شكر لله على أن نصر الحق وعاقب أعداء الدين لذلك يصوم المسلمون في التاسع و العاشر بأمر من الرسول عليه السلام ، لمخالفة اليهود وتبيان أن المسلمين أجدر بموسى عليه السلام من اليهود , لذلك فعادة التراشق بالماء لا تجد ما يبررها في الدين الاسلامي , لذا فهي تكتسي بعدا احتفاليا ( وثنيا ) اكثر منه دينا.
ومع أن هذه الطقوس قد بدأت تأخذ طريقها نحو الاندثار وتكاد تفرغ من كل مدلولاتها الرمزية في بعض المناطق من المملكة ، ومن كل الشعبية بسبب تغير نمط العيش وتغير بنية المجتمع المغربي من الداخل بسبب الانفتاح والعولمة ، إلا أنه مع الأسف بدأت تظهر طقوس جديدة تبعث على القلق و الحرج ، ولعل أبرزها ظاهرة التسول الجماعي للأطفال في أيام عاشوراء ، حيث يتعرضون للناس وهم ينقرون الدفوف الصغيرة ( التعاريج ) متضرعين متسولين كالمحترفين الكبار في الشوارع والأزقة ولدى مداخل البيوت والمحال التجارية وأمام أبواب المساجد ، وحتى عند إشارات الوقوف الضوئية.
فيما يتعلق بالتجار ، يسعون في عاشوراء لرفع وتيرة البيع ، خصوصا داخل الأسواق ، التي تخصص لمناسبة عاشوراء لأن أي حركة بيع أو شراء تكون مباركة ، وتؤثر في تجارتهم ، بقية العام ، مما يضطرهم إلى تخفيض الأسعار ، وبذل كل ما يستطيعون ، من أجل تشجيع زبائنهم على الشراء. ولا يكاد يحل المساء حتى تفرغ أسواق عاشوراء من السلع ، وتصبح في بعض المناطق ، التي لا تزال تتمسك بالعادات القديمة فضاءات فارغة من محتوياتها ، كأنها لم تكن نشطة قبل ساعات فقط ، والسر في ذلك أن اليوم التالي للعاشر من محرم يسمى عند التجار بيوم " الهبا و الربا " ، أي أن الربح الذي يجنونه منه لن يكون إلى ربا لا يلحقه إلا الهباء على تجارتهم ، مما يجعلهم يغلقون محلاتهم ، ولا يبيعون أو يشترون شيئا في اليوم الموالي.
بناءا على مسبق يمكن القول بأن مناسبة عاشوراء ما هو إلا مزيج بين الفرح المعلن و الحزن المضمر فطقوس النار (القفز فوقها) و زغاريد النساء هي مؤشرات الحزن و الاسى الذي تم الحاقه بالدين الاسلامي في احدى تقاطعاته مع بعض الثقافات و الاديان الاخرى ,أما طقوس التراشق بالماء و الوجبات الفريدة و الرقص فإنها مؤشرات الفرح , بل ان الطقس الاحتفالي اكثر حضورا من الطقس الماتمي , يقول ادوارد " فيسترمارك " على لسان " عبد الغني منديب " بأن عاشوراء مهرجان وثني تمت اسلمته ...ليدخل في التقويم الهجري و يصبح احتفالا متأخرا نعض الشيء..." كمى يرى " ادموند دوتي " أن عاشوراء هو تخليد لعملية قتل طقسية تقدم قربانا للآلهة سادت قبل الفتح السلامي بالمغرب.وهكذا يظل يوم عاشوراء يوما تتداخل المعتقدات الدينية و الوثنية بشكل يستعصي على الفهم حتى مع أكوام البحوث و الدراسات , لا يعني هذا الطعن في هؤلاء بقدر ما هي دعوة لاعادة النظر في طبيعة هذا الذي يأبى إلا أن يجمع بين المأتم و الاحتفال و بين المضمر و الصريح.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلجيكا ترفع دعوى قضائية ضد شركة طيران إسرائيلية لنقلها أسلحة


.. المغرب يُعلن عن إقامة منطقتين صناعيتين للصناعة العسكرية




.. تصاعد الضغوط على إسرائيل وحماس لإنهاء الحرب| #غرفة_الأخبار


.. دمار واسع طال البلدات الحدودية اللبنانية مع تواصل المعارك بي




.. عمليات حزب الله ضد إسرائيل تجاوزت 2000 عملية منذ السابع من أ