الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوارج والدواعش- قطبا الحق والباطل

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2014 / 11 / 3
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


توسعت في الآونة الأخيرة دائرة التشبيه بين الخوارج وبين تيار "داعش". مع ما ترتب عليه من محاولات حثيثة للتشبيه بين ما يدعونه "بخوارج" الأمس و"خوارج" اليوم. ومن ثم جعل سلوك التيارات السنية المتطرفة الحالية استمرارا لتقاليد الخوارج القدماء.
أما في الواقع، فإننا نقف هنا أمام تشبيه لا يجافي الوقائع والحقائق التاريخية والفكرية والعقائدية والعملية والثقافية فحسب، بل ويناقضها أيضا. إذ ليس هناك من تيار اجتماعي سياسي وفكري تعرض في تاريخ الإسلام للأذى والتشويه والملاحقة والمطاردة والسجن والقتل والتخوين والتجريم والتحريم أكثر من الخوارج. واشترك في ذلك الجميع (سنة وشيعة، ملوك ورعاع). لكن الكمية والنوعية الأكبر للعداء جاء من جانب السلطة (الأموية) وأتباعها الأوائل والأواخر. ومن ثم لم يكن "تاريخ" الخوارج المؤرخ له في الأغلب سوى مواقف وأحكام تابعة للسلطة (الغاشمة) ونابعة منها ومؤيدة بمرتزقتها من رواة وقصاصين وشعراء وفقهاء ومتكلمين.
والنصيب الأكبر من كل هذا التشويه يعود للأموية الدموية ومرتزقتها من بين التيارات السنية بشكل عام والحنبلية بشكل خاص. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن كون التسنن هو إسلام بلا إيمان، أو إسلام العادات والعبادات الجسدية، اي بلا روح ولا عقل. وهو السر الكامن وراء عداءه العنيف للفلسفة والفلاسفة (العقل)، والتصوف والمتصوف (الروح)، والتشيع والشيعة (الوجدان)، والخوارج وكل ما لا يدخل ضمن تصوراتهم ممن يكافح الاستبداد والطغيان. وليس مصادفة أن لا يحتوي تاريخ التسنن على امتداد ألف وخمسمائة سنة على انتفاضة واحدة أو تمرد وليكن صغيرا ضد السلطات المستبدة وطغيان الطغاة. بل أن خطاب "أهل السنة والجماعة" يخلو من هذه العبارات. إذ لا تتعدى أيديولوجية التسنن من حيث الجوهر أكثر من استنزال العبودية لله إلى عبودية للسلطة والنصوص الميتة واستحضارها الدائم بوصفها الحقيقة الوحيدة في الوجد والوجود. وليس مصادفة أن يكون اغلب ما كتب عن الخوارج لا علاقة له بحقيقة الخوارج، بدأ بالتسمية (الخوارج والمارقة وما شابه ذلك) وانتهاء بمواقفهم وآراءهم وشخصياتهم.
فالتسميات المتبادلة جزء من الاحتراب الأيديولوجي والسياسي. "خوارج" و"مارقة" بمعنى خروجهم عن الدين ومروقهم عن الإيمان، أما في الواقع فقد كان خروجهم على الاستبداد والظلم والطغيان والرذيلة. و"روافض" بوصفهم يرفضون إمامة الخلفاء الأوائل و"خلفاء السنة" بشكل عام، بينما في حقيقته هو الرفض بوصفه الصيغة الضرورية للعقل والوجدان الخالص ورفض الخطأ والخطيئة. أما "النواصب"، فهو اللقب الذي أطلقه الشيعة على "أهل السنة والجماعة". ولعله اللقب الوحيد الأكثر دقة من حيث الأصل والجذر والتأويل والواقع، وذلك لأنهم ناصبوا العداء أولا للإمام علي ثم للتشيع، ثم ناصبوا العداء لأحرار المتكلمين (المعتزلة) وأحرار الشعراء والأدباء، وناصبوا العداء المطلق للفلاسفة والمتصوفة العظام، وبعدها للجميع من يختلف عنهم، بما في ذلك ممن هم منهم. ومناصبة العداء كانت تختمر دوما بمعايير التكفير والتخوين والتجريم والتحريم. وهي الصفة الوحيدة التي لم تتغير في التسنن منذ البدء ولحد الآن. الأمر الذي جعل ويجعل منه قوة التخريب والتعفن الروحي والعقلي والأخلاقي، ومصدر الوباء الدائم للتحلل والانحطاط، والإثارة الدائمة للاستعداء، وانعدام الروح الإنساني، ومناصبة قيم الحرية والتسامح.
لقد درست تاريخ الخوارج وأفكارهم ومواقفهم بمختلف حيثياتها ودقائقها، إضافة إلى البحث الدقيق في حياة وفكر شخصياتهم الكبرى (حوالي عشرين شخصية)، فلم اعثر في تاريخ الإسلام اللاحق على من هو أفضل وأنبل واصدق منهم.
فتيار "الخوارج" هو التيار الوحيد المتجانس مع نفسه، الصادق في قوله وفعله، المبتعد عن السلطة وخدمتها الوضيعة، الخالي من الخونة والمرتزقة، السالك من حيث النية والغاية لتحقيق مبادئ العدل والمساواة والحرية والحق وأولوية الأمة ومصالحها. من هنا يمكن فهم هذا الإجماع المتشدد تجاه "الخوارج" القدماء من جانب سلطات الاستبداد وعبيدها ، ودعم "الخوارج الجدد" من جانب سلطات الاستبداد ومرتزقتها (ويكفي المرء إلى إلقاء نظرة سريعة على الجرائد الممولة من جانب آل سعود وال موزة وأمثالهم، باختصار من كل قبائل الصحراء الروحية والأخلاقية والقومية، لرؤية هذه الحقيقة.
من هنا لا معنى لمقارنة "الخوارج" بالتيارات السنية المعاصرة وبالأخص أكثرها تشددا وتخلفا كما هو الحال بالنسبة للقاعدة وداعش وأمثالهما المحتملة. وذلك لجملة أسباب تاريخية وفكرية وسياسية وثقافية ومستقبلية.
فمن الناحية التاريخية، ارتبط ظهور الخوارج بصعود الإسلام والدولة العربية (الخلافة). ومن ثم فان صيرورتهم التاريخية كانت جزء من حالة الارتقاء والتراكم الكبيرة للدولة والأمة والثقافة، وليس كما هو الحال بالنسبة لداعش وأمثالهم، التي تمثل حالة السقوط والانحطاط في الدولة العربية، وسقوط التيار الإسلامي بشكل عام والسني بشكل خاص.
ومن الناحية الفكرية، كان الخوارج الأوائل يمثلون الاجتهاد العلمي والعملي الأول فيما يخص قضايا الإمامة والأمة والأخلاق، اي الدولة والنظام السياسي وفكرة الحق.
ومن الناحية السياسية، مّثل الخوارج الأوائل فكرة الحرية، والنظام السياسي الشرعي، وأولوية الفرد والجماعة والأمة المحكومة بقوة القانون وليس العائلة والقبيلة والمذهب والعرق.
ومن الناحية الثقافية، إنهم أول من وضع خميرة الصراع الفكري بمعايير القوة الاجتماعية السياسية والأخلاقية الواعية. من هنا أثرهم الهائل في صعود مختلف الحركات المعارضة والمؤيدة والموازية لهم من قدرية أولى ومرجئة ومعتزلة واشعرية. بهذا المعنى أنهم كانوا يمثلون فكرة المستقبل وليس الماضي. وفي هذا كان وما يزال يكمن سر الاتهام المتعمد لإلغاء قيمتهم التاريخية والثقافية والروحية. كما أن المواقف منهم، ضمن هذا السياق، يؤشر إلى الحالة "الأبدية" للصراع بين الفضيلة والرذيلة.
فسوف يبقى البشر على الدوام بشرا ما لم يرتقوا إلى مصاف الإنسان والإنسانية. بمعنى أن إشكالية البشر والإنسان سوف تبقى على الدوام مفارقة حادة ما لم يجر تجفيف مصادر الرذيلة. ومن بين أهم مصادرها في مجال الوعي هو تشويه وتشوه وعي الذات التاريخي والثقافي. وليس مصادفة أن نقف أمام الحالة المثيرة للعقل والوجدان القائمة في واقع تعرض الشخصيات النبيلة على الدوام لهجوم الأراذل، اي لهمجية الرذيلة؟ والسبب العام يكمن في أن أصحاب الرذيلة مجرد بطون تقرقر، بينما النبل بمعايير الجسد كالنبال تتطلب مهارة اليد وقوة الجسد وحدّة البصر في الرماية من اجل الغاية، وبمعايير الروح مهارة كل ما فيها. وهذا عمل لا يطيقه إلا القلة النادرة، ولا يبرع فيه إلا من ندر بين الندرة. من هنا أهمية وضرورة إعادة الاعتبار للحقيقة في مجال الرؤية التاريخية. فهو يعادل معنى التأسيس الفعلي لوعي الذات الحقيقي، اي المتكوّن والمؤّسس بمعايير الحق والحقيقة. وهذا بدوره احد المصادر الجوهرية للرؤية المستقبلية، وذلك لأنه الأسلوب الضروري لصنع مرجعيات متسامية للوعي النظري والعملي. وغاية الحلقات التالية ترمي إلى كشف ماهية الخوارج وإعادة تأسيس الوعي التاريخي والثقافي القومي العربي بمعايير الحق والحقيقة. (يتبع)
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل حسن نصر الله.. هل تخلت إيران عن حزب الله؟


.. دوي انفجار بعد سقوط صاروخ على نهاريا في الجليل الغربي




.. تصاعد الدخان بعد الغارة الإسرائيلية الجديدة على الضاحية الجن


.. اعتراض مسيرة أطلقت من جنوب لبنان فوق سماء مستوطنة نهاريا




.. مقابلة خاصة مع رئيس التيار الشيعي الحر الشيخ محمد الحاج حسن