الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرق بين -حقائق الأشياء- و-زخرف الكلمات- و-عوالمنا الخاصة-:

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2014 / 11 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


يوميا تمر أمام أعيننا وتقتحم آذاننا عشرات ومئات وربما آلاف الكلمات، التي نسمعها من الأهل والزملاء والأصدقاء أو في وسائل الإعلام أو على مواقع التواصل أو في الكتب والأبحاث والدراسات، وقد لا ننتبه أننا ربما نكدس وعينا وقناعاتنا بأرتال من الخداع والوهم والتضليل واللاشيء والهراء والعبث والكذب الذي يفسد وعينا وتصوراتنا ويشوه حقائق الأشياء في نفوسنا ونحن لا ندري.
وذلك لأننا لا نفرق بين ثلاثة أشياء:
"النشاط اللغوي"
"الذات المتكلمة"
"الموضوع"

فأما "النشاط اللغوي" فهو: (الشعر أو البلاغة أو الفلسفة) والنشاط اللغوي بأشكاله الثلاثة لا يحمل في ذاته أية حقيقة موضوعية لشيء ما من الأشياء ولا يهدي إلى حق، إذ هو عبارة عن مهارة لغوية يطلي بها المتكلم تخيلاته وقناعاته ومشاعره وآراءه الشخصية وربما حماقاته ونزواته، فينخدع به من ينخدع، ولا ينخدع بالنشاط اللغوي الا السذج والبسطاء والحمقى، فالمتكلم قد يبرع في طلاء أوهامه وتخيلاته وقناعاته وآرائه الشخصية بطلاء وزخرف من الشعر والبلاغة والفلسفة كي ينجذب البسطاء للطلاء اللغوي بينما يغفلون عن علمية الكلام وحقيقة مدلوله، إذ جل كلام الناس وكتاباتهم من هذه الثلاث.

فمثلا لو تأملنا بعضا من أقوال المشاهير كذلك القول المنسوب لـ "أحلام مستغانمي" تقول فيه:

(كل رَجل جمْيل تَسكن تَفاصيله أنثَى أجمْل، وكل أنثَى باهته يَتسبب في الآمها رجل أحمق(.

وقول "محمود درويش": (من رضع ثدي الذل دهرا رأى في الحرية خرابا وشرا).

وقول "هربرت سبنسر" (إن اللذة والألم وحدهما هما الخير والشر، واللذة إنما تكتشف بطريق التغاير والانتخاب الطبيعى وينتقل ذلك بالوراثة ويترسخ فى صورة ميل غريزى).

وقول الدكتور مراد وهبة في تعريفه للعلمانية بقوله: (العلمانية هي التفكير في النسبي بما هو نسبي)

وقول ابن عربي:
لقد صار قلبى قابلاً كلَّ صورةٍ .. فمرعى لغزلانٍ ..وديرٌ لرهـبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ ..وكـعبـةُ طـائـفٍ .. وألـواحُ تـوراةٍ .. و مصحفُ قرآنِ
أدين بدينِ الحبِ أنى توجـَّهَت ركائبُهُ فالحبُ دينى و إيـــماني

لو دققنا في هذه العبارات وتأملناها جيدا وابتعدنا عن طلاء "النشاط اللغوي" الذي يعطيها هذا البريق وذلك الصدى والرنين وابتعدنا عن ذواتنا وما نحمل من أفكار وعواطف ومشاعر وميول وتوجهات شخصية ووضعنا هذه العبارات على طاولة البحث والتشريح العلمي لاكتشفنا أن هذه العبارات محض هراء وكلام فارغ لا حقيقة له ولا يهدي إلى شيء، وما هو إلا تعبير عن ميول أو أفكار أو أوهام أو خيالات أو تجارب شخصية خاصة عبر عنها هؤلاء الكتاب بهذا النشاط اللغوي الأجوف.

كذلك ما نلمسه في واقعنا اليومي في الصحافة والكتابة والإعلام التافه الذي يستدرج القارئ الساذج والمشاهد الأحمق بعناوين وشعارات وعبارات صارخة تسرف في استثارة عواطفه ومشاعره نحو أمر ما، قد لا يكون له أدنى وجود أو حقيقة. بل كم نتداول ونستعمل في حياتنا اليومية والعامة كثيرا من الكلمات والمصطلحات دون أدنى وعي أو إدراك لمضمون ومدلول تلك الكلمات، وهل هي تدل على حقيقة موجودة بالفعل أو هل نستخدمها في مدلولها الحقيقي ونضعها في موضعها الصحيح أم هي محض طلاء وزخرف ورنين من الشعر والبلاغة والفلسفة؟، ومن هذه الكلمات: "الحرية، العقل، الإرهاب، التطرف، الرجعية، التراث، الوطن، الأمن القومي، الإيمان، الكفر، الإنسانية، الرحمة، الثقافة، التخلف، المساواة، المحبة، التعايش، السلام، المنطق، الحب، التحضر، الرقي،،، إلخ" وغيرها عشرات من الكلمات والمصطلحات التي لا نكلف أنفسنا بأدنى جهد في تقييمها واختبار تماسكها والوقوف على حقيقة مدلولاتها، وهل لها وجود حقيقي أم لا؟، وكذلك لا نكلف انفسنا حتى مجرد التأمل في مواطن استعمالها، وهل الذي يردد مثل هذه المصطلحات يستخدمها في موضعها الأصلي ومدلولها الحقيقي أم أنه محض مدلس يستخدم مثل هذه المصطلحات ليواري بها سوءاته ويستر بها عوراته أو يحاول أن يمرر بها فساد نفسه وانحراف افكاره؟، إذ نحن أصحاء جدا في التأثر بجماليات النشاط اللغوي بينما تفتك بنا أمراض عدم إدراك الدلالة والمضمون والمعاني.

وأما "الذات المتكلمة" فهي: شخص المتكلم، أي: آراؤه وقناعاته وميوله وتوجهاته الشخصية، ففي كثير من الأحيان يحاول كثير من الماكرين أن يدلسوا على القارئ فيصفون هذه الأراء والأفكار والقناعات والميول والتوجهات والفهوم الشخصية للمتكلم بأنها (عقل) أو (منطق) أو (حرية) أو (إنسانية) أو (تحضر) أو (رقي) للتدليس على الناس كي يتقبلوا أفكارهم وآراءهم وقناعاتهم وميولهم وتوجهاتهم وفهومهم تحت سطوة سيف مسلط على رقبة القارئ أو المستمع يسمونه زورا وبهتانا: "العقل أو المنطق"، وفي الحقيقة ليس ثمة عقل ولا منطق إنما هي محض عوالمهم الشخصية الخاصة. إذ كم ممن يطلق عليهم كتاب ومفكرون وفلاسفة وباحثون ومنظرون يدسون لنا شخوصهم وتشوهاتهم وسمومهم وانحرافاتهم النفسية وحماقاتهم واتجاهاتهم الشخصية في قوالب بلاغية براقة وكبسولات من الكلمات الرنانة فنبتلعها ونحن لا ندري ان بداخلها سم قاتل.

وأما "الموضوع" فهو حقيقة الشيء في ذاته مجرد من "النشاط اللغوي" ومن "الذات المتكلمة"، مثال: (ارتفاع هذا المبنى عشرة أمتار). ومثال" (1 + 1 = 2). ومثال: (الوالد أتى إلى الدنيا قبل ولده وليس العكس) ومثال: (الأم تلد ابنها أو ابنتها وليس العكس) فهذه حقائق متجردة من "النشاط اللغوي": "الشعر، البلاغة، الفلسفة"، ومتجردة من ذات المتلكم، أي: متجردة من "تخيلاته وميوله وقناعاته وآرائه الشخصية".

ويجدر هنا أن أضرب مثلا يلخص ما تقدم:
كثيرا ما نسمع من الأفاكين المحتالين منحرفي النفوس ومشوهي الفكر قوالب بلاغية براقه وكلمات فلسفية رنانة تقول أن "إسرائيل" هي واحة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وهي الدولة الوحيدة التي تحترم الحريات وترعى مصالح وحقوق مواطنيها وهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي توفر الرفاهية والحياة الكريمة ورغد العيش لمواطنيها، بينما من يقاومها ويحاربها من الفلسطينين أصحاب الأرض -لأنها دولة عنصرية محتلة- هم "إرهابيون متعصبون كارهون للحضارة والرقي والتقدم". وليت الإفك "اللغوي والبلاغي والفلسفي" يقتصر على هذا فحسب، بل يزداد الإفك "اللغوي والبلاغي والفلسفي" للمنحرفين المحتالين فيقولوا: "الفلسطينيون باعوا أرضهم للإسرائليين". ما يعني لو أن محتلا قام باحتلال بلادك وضيَّق عليك في رزقك وقوتك وقوت أولادك وأعجزك في عملك ومعيشتك وحركتك ولم يتبق لك الا أن تبيع بيتك أو مزرعتك للمحتل للإنفاق على عيالك وقضاء حاجاتك الضرورية تكون قد بعت وطنك، هكذا يدلس ويراوغ الأفاكون المنحرفون المحتالون، وهكذا يزيفون الوعي ويشوهون حقائق الأشياء، هؤلاء الأفاكون المنحرفون يبرعون في استخدام الإفك "اللغوي والبلاغي والفلسفي" لتزييف الوعي وتشويه حقائق الأشياء، ليجعلوا من اللص الذي يسطو على بيتك ويمتلكه بالقوة المسلحة شخصا فاضلا وإنسانا مكافحا ورجل بر وعدل لأنه يعدل بين أبنائه وينفق عليهم ببزخ ولا يحرمهم من شيء يشتهونه ويأتي لهم بأفخر الثياب وأشهى الطعام، كي تتقبل ذلك اللص وتتعامى وتتغافل عن سطوته واحتلاله لبيتك بل وتتقبل وجوده داخل بيتك وأنت صامت مستسلم وراضٍ بل وربما تؤيده وتشكره على ما فعل.

بالمثل كما تفعل أمريكا والعالم الغربي ومعهم خدمهم وجنودهم المرتزقة من العصابات الإجرامية التي تحكم بلداننا في هيئة أنظمة وحكومات وجيوش وعائلات وأحزاب في حربهم على ما يسمونه "الإرهاب"، الإرهاب الذي هو صنيعة الأنظمة العربية وصنيعة طغيانهم وفسادهم واستبدادهم وإجرامهم وتبعيتهم وعمالتهم ونهبهم لمقدرات الشعوب، بدلا من محاربتهم للفقر والعشوائيات والجهل والتخلف والفساد والاستبداد الذي هو المنبع الحقيقي لما يسمونه "الإرهاب". كي تظل هذه الشعوب تعيش على هاجس من الخوف والوهم والعبثية المصطنعة واللانهائية تسمى: (الحرب على الإرهاب) بينما يظل الطغاة والمستبدون واللصوص قابعون على كراسيهم يحكمون شعوبهم بالقهر والطغيان والحديد والنار.

لذا وجب علينا أن نكون حذرين مما نسمع ومما نتلو من كلمات، إذ ما يدريني أن ذلك الكتاب أو تلك المقالة أو ذلك الخطيب المفوه أو هذه العبارة التي خطها شخص ما يعبر بها عن حقيقية موضوعية حقيقية موجودة بالفعل وليست محض "نشاط لغوي" يشوش به على حقيقة ما؟؟ أو ما الذي يدريني أن تلك الكلمات محض نشاط لغوي يحاول أن يستدرجني به كاتبه إلى عالمه هو الخاص أو إلى قناعته هو في شيء ما لا وجود له في الواقع الموضوعي، أو محض نشاط لغوي يستدرجني به إلى خيالاته وأوهامه وأمنياته وأهوائه التي قد تفارق حقائق الواقع وتطمسها؟؟.

فنحن لا نستطيع أن نتخيل وجود طرف واحد من هذه الأطراف الثلاثة: (النشاط اللغوي، الذات المتكلمة، الموضوع) بمعزل عن الطرفين الآخرين، فلا يستقيم أن نتخيل لغة لا تدل على شيء، أو نتخيل ذات ليست لها ميول وآراء وتوجهات شخصية أو نتخيل موضوع لا توجد لغة تحمل مدلوله وذات تخبر عنه.

لهذا كلما تحيزنا إلى الموضوع واقتربنا منه وكلما ابتعدنا عن الذات المتكلمة والنشاط اللغوي فقد تحيزنا واقتربنا من حقيقة الموضوع أو حقيقة الشيء في ذاته. فحقيقة الشيء هو عبارة مجردة من الاتجاه الشخصي والفكري ومجردة من براعة استخدام الكلمات أو مهارة التحسين والتقبيح اللغويَّيْن.

استعنت ببعض الأفكار في هذا المقال من كتاب: "اللغة والتفسير والتواصل" للدكتور "مصطفى ناصف" سلسلة عالم المعرفة عدد يناير 1995م.


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك: https://www.facebook.com/nehro.tantawi.7
مقالات وكتابات _ نهرو طنطاوي:
https://www.facebook.com/pages/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%87%D8%B1%D9%88-%D8%B7%D9%86%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A/311926502258563








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي: عدد اليهود في العالم اليوم


.. أسامة بن لادن.. 13 عاما على مقتله




.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah