الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دور المسيحيين الثقافى فى العالم العربى -الحلقة الخامسة

ماريو أنور

2005 / 8 / 27
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


العصر الذهبى : زمن النضوج
أبو زكريا يحيى بن عدى
كان الفارابى , فى أثناء دروسه ببغداد , ما يجوز وصفه فى أيامنا بمعيد , و كان بين طلابه شاب يدعى يحيى بن عدى ( 893 – 974 ) , مسيحى يعقوبى سريانى , أصغر منه بثلاثين سنة , أصبح بعد ذلك , فى آن واحد , تلميذ أبى بشر و الفارابى .
و بعد وفاة الفارابى فى 950 , أصبح يحيى بن عدى أستاذ الفلسفة فى العالم الإسلامى . فكانوا يلجأون إاليه من جميع الجهات لحل القضايا الفلسفية . ترك لنا إنتاجاً و اسعاً , أى نحو مئة مؤلف , منها مقالة صغيرة فى الرياضيات و الهندسة . و لقد لفت الشارح الانتباه إلى أن يحيى كان أول من فكر فى تقسيم مساحة من الأرض بطريقة معينه . و لم يستعمل الغرب هذه الطريقة إلا بعد ستة قرون على يد غليلية .
و سرعان ما أصبح رئيس مدرسة بغداد الأرسططالية , التى كانت أشهر مدرسة فى القرون الوسطى , و التى بقيت على قيد الحياة مدة مئة سنة . و فيها تخرج كبار الفلاسفة الذين نقلوا إلينا إنتاج المعلم يحيى و المعلم المثالى أرسطو . و من بين أشهر أولئك الفلاسفة , ستة كانوا مسلمين و أربعة مسيحيين .
ولادة أدب إنسانى عربى , إسلامى و مسيحى و يهودى
إن هذا الأمر الثانوى من حياة يحيى بن عدى لا يخلو من الدلالة . ففى الربع الثالث من القرن العاشر , فاق عدد المسلمين الذين يهتمون بالفلسفة على عدد المسيحيين , و كانوا يدرسون معاً .
و هذا يعنى أن المسيحيين فقدوا احتكار الثقافة الهلينستيه . أجل , ما زالوا المعلمين مدة جيل أو جيلين , لكن المسلمين ما لبثوا أن حلوا محلهم , لا سيما حين أصبحت جميع تلك النصوص اليونانية فى متناول المسلمين بعد أن نقلت إلى العربية على يد السريان . هذا و أن ذلك الوضع يعكس أيضاً المعطيات الديموغرافية الجديدة , أعنى أن المسيحيين فى حوالى 950 لم يبقوا الأكثرية فى بغداد و العراق , و أن المسلمين فاقوهم عدداً على الأرجح .
و من جهة أخرى , فإن المسيحيين و المسلمين تتلمذوا بعضهم لبعض و تقاسموا هكذا الثقافة نفسها . لا يخلو من الدلالة أن نشير هنا إلى أن يحيى بن عدى نسخ مرتين شروح الطبرى ( التى طبعت اليوم بالقاهرة فى 30 مجلداً ) , لكى يؤمن عيشه . و هذا شأن اليهود , فقد تتلمذوا للمسيحيين و المسلمين فى الفلسفة ( وربما فى مواد أخرى كالطب ) .
و هكذا فإن ثقافة عالمية جديدة , أصبحت لغتها العربية , دخلت فى طور التكون ببطء . و هى تقوم على الفكر اليونانى , بعد أن أعاد السريان النظر فيها و صححوها . يمكننا أن نصف تلك الثقافة الجديدة بأنها عالمية , بمعنى أن الغرب كان , من حيث الفكر , فى تلك الأيام , يعيش فى الظلام . فوجب علينا أن ننتظر ثلاثة قرون أو أربعة قبل أن نرى الغرب , بعد أن أخذ يتتلمذ للعالم العربى , يتزعم , فى بعض الحقول , التقدم العلمى و الثقافى .
ذلك بأن الصليبيين لما وصلوا إلى أراضينا , انبهروا بالعلم العربى , فى حين أن العرب سخروا من جهل أولئك الصليبيين , لاسيما فى الطب . فأخذ المؤرخون العرب يملأون الصفحات عن نقائض الصليبيين الثقافية , مشددين فى آن واحد على همجميتهم و تفوقهم العسكرى و بسالتهم فى القتال .
فقدر الغرب أهمية اكتساب تلك الثروة الثقافية , حتى إن آباء مجمع فيينا الثانى ( 1311 – 1312 ) قرروا أن يفرضوا تعليم اللغة العربية فى الجامعات الكاثوليكية كافة : فى بولونيا و باريس و إلخ .... فقد بدت العربية لغة الثقافة و العلم , كما اكتشفت النهضة فى القرن السادس عشر أهمية اليونانية , و كما تبدو الإنكليزية فى أيامنا أداة اتصال لا يستغنى عنها .
إعداد ثقافة جديدة (( متوسطية ))
وإذاً فقد تواصل التطور انطلاقاً من بغداد , بواسطة المسيحيين الذين ينقلون العلم إلى المسلمين . فانتشرت ثقافة مشتركة فى جميع عواصم العالم الإسلامى , ثقافة يمكننا أن نسميها (( طوائفية )) بمعنى الكلمة الدينى , علماً بأنها كانت مشتركة بين رعايا الإمبراطورية الإسلامية التى تضم مختلف الطوائف الدينية .
ذلك بأن المسيحيين , إذا صح أنهم قاموا و لاشك بدور الرواد بفضل استيعابهم التراث اليونانى الكلاسيكى و نقله , فإنهم لم ينفردوا بالاهتمام به , لأن هناك طوائف دينية تدخلت فى إعداد تلك الثقافة .
على سبيل المثال , فى حقل الرياضيات , نعرف أن نقلها تم على يد الصائبين الذين من حران ( لا صلة لهم بالصائبين الوارد ذكرهم فى القرآن و الذين هم شيعة صغيرة من وحى مسيحى تمارس رتباً عمادية ) . فهم , بسبب تقليدهم الدينى , يهتمون اهتماماً خاصاً بالرياضيات و الفلك .
و فى الطب عدد كبير من اليهود معروفين بعلمهم . فإن طبيب صلاح الدين الأيوبى ( سلطان من 1171 إلى 1193 ) كان المشهور أبو عمران موسى بن ميمون ( الذى أثر إلى حد ما فى الفكر الغربى ) . ولد فى قرطبة سنة 1135 , و هرب إلى فاس بعيداً عن الملك المرابط على بن يوسف ( 1106 – 1142 ) و لجأ فى القاهرة إلى صلاح الدين , حيث توفى سنة 1204 . على غرار جميع يهود العلم العربى فى أيامه , كتب فى العربية أساساً ( باستثناء المقالات الدينية بوجه خاص , لأنها كتبت بالعبرية ) , ثم تم النقل إلى العبرية .
نلفت النظر إلى أن مسيحيي إسبانيا الذين كانوا يعيشون فى الأندلس أخذوا يكتبون بالعربية أيضاً ابتداء من القرن التاسع عشر , حتى إن ترجمة المزامير وحدها إلى أبيات شعر عربية , التى وصلت ألينا ( قبل الزمن الحديث ) ألفها فى القرن التاسع ( أو ربما فى القرن العاشر ) الحفص بن ألبر القوطى .
أن مجرد اسمه يمثل برنامجاً . الحفص , اسم مشهور فى إفريقيا الشمالية ( يذكرنا بسلالاة الحفصيين المغربية التى سيطرت فى بلاد تونس فى وقت لاحق من 1228 حتى 1574 . و ابن ألبر يطابق فى أيامنا لألفارير , وهو اسم منتشر جداً فى إسبانيا . أما القوطى ( الذى يجب قراءته الغوطى ) فهو النسبة التى تحيل على غوط الغرب , على الفيزيغوط الذين تمركزوا فى إسبانيا سنة 415 , داحرين الوانداليين ( من هنا يشتق اسم الأندلس ) .
نقل ذلك الشخص المزامير إلى أبيات شعر عربية , انطلاقاً من اللاتينية و بتنصيرها , أى بأنه أضاف , كما نرى فى طبعات ترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية على يد القديس هيرونيمس , المقدمة المسيحاوية التى تطبق كلاً من المزامير على المسيح .
لغة عربية هى أداة ثقافية
فى بغداد , عاصمة الإمبراطورية العباسية , صيغت لغة عربية يمكن أن تسمى (( عصرية )) لأنها قابلة لأن تستوعب جميع علوم ذلك العصر .
و حين أخذ حنين بن إسحق ينقل مؤلفات جالينس إلى العربية , واجه لغة عربية كانت آلة رديئة . فكان عليه أن يلجأ غالباً إلى المفردات اليونانية أو السريانية أو الفارسية لترجمة الأصل اليونانى . وبذلك أغنى اللغة العربية إلى حد بعيد . وهذا ما أشار إليه فى إحدى مقلاته , حيث انتقد اللغة العربية , مقارناً إياها بالسريانية , ولافتاً الأنظار إلى نقائصها على مستوى المفردلت العلمية .
و بعد قرن و نصف قرن , ذهب إلياس النصيبينى إلى أبعد من ذلك فى انتقاده المفردات العربية , راداً على الذين كانوا يفتخرون بامتلاك خمسمئة كلمة للدلالة على الأسد أو الجمل , و مظهراً فقر اللغة فى ألفاظ الطب و الأدوية .
إن أولئك الكتاب , لأنهم يتكلمون عدة لغات , كانوا قد أدركوا المشكلة . ذلك بأن المفهوم الصحيح لغنى لغة و عصريتها , لا يمكن فى كون هذه اللغة لها عدد كبير جداً من المرادفات , بل فى كونها قابلة أن تعبر عن جميع مفاهيم الثقافة العالمية و حقائقها .
تطرح علينا هذه القضية فى أيامنا أكثر منها فى أى وقت مضى : فهل يمكننا فى العربية أن نعبر عن كل ما نستعمله و نراه فى حياتنا اليومية ؟ أكتفى بمثل واحد : و هو إلى أى حد نقدر اليوم أن نعمل , باستعمال العربية , فى حقل المعلوماتية ؟ لا شك فى أن بعض أهل الاختصاص حاولوا أن يصيغوا مفردات تصلح لثلاث لغات فى هذا الحقل , لكن هيهات أن يكون المثقفون قد استوعبوا ذلك , فكم بالأحرى جمهور الشعب .
وراء تلك القضية ترتسم مشكلة خطيرة هى مشكلة تأوين الثقافة العربية , علماً بأن كتابنا السريان العرب فى العصور الوسطى لاحظوا هذه المشكلة , وشعروا بأن اللغة لابد أن تواصل اغتناها , بتكيفها على التقنيات الجديدة , لئلا تمسى لغة مشرفة على الموت , تنطفىء ببطء , ولكن من دون شك , لقلة تجددها .
و الحال أن المسيحيين الذين عاشوا فى العصر العباسى نجحوا فى دمج الألوف من الألفاظ و العبارات التقنية فى اللغة العربية , ليستطيعوا أن يعبروا عن كل علم أو تقنيات معروفة فى أيامهم . لكن أولئك المسيحيين انخفض عددهم شيئاً فشيئاً , فانخفض تأثيرهم حتماً انطلاقاً من القرن الثانى عشر .المسلمون يحلون محل المسيحيين
فى تلك الأيام , أصبح المسلمون مستعدين لأن يحلوا محل المسيحيين , كما يشهد على ذلك , فى مطلع القرن التاسع , محمد موسى الخوارزمى ( المتوفى فى 849 ) , الذى تلتنن اسمه و أعطى لفظ (( Algorithme ))
ومن جهة أخرى , يمكننا أ، نلاحظ أن العديد نت ألفاظ الرياضيات أو الفلك التى نجدها فى اللغات الغربية هى من أصل عربى . على سبيل المثال , كلمات ((Chiffre )) و (( Algorithme )) و (( Azimut )) إلخ , بما فيه حرف x المستعمل للدلالة على المجهول . لا يخفى أن العلماء العرب كانوا يعبرون عن القيمة المجهولة باستعمال كلمة شىء , علماً بأن هذه الكلمة كانت تكتب فى مخطوطات القرون الوسطى بدون الهمزة و بأن الياء تدمج بالشين , فتصبح كلمة شىء مجرد ش . و حين كانت تلك النصوص تنقل إلى اللاتينية فى إسبانيا , كان هذا الحرف ينقلب تلقائياً إلى x .
و لقد انتشرت هذه العادة بعد اليوم فى الحضارة العالمية . ففى العربية , نكتب اليوم حرف السين , ويعود ذلك إلى أن نقاط الشين لم تكن تكتب فى القرن العاشر , بل كتبت جميع النقاط فى المخطوطات انطلاقاً من القرن الرابع عشر .
كل ذلك يدل على أن الثقافة العربية , فى أيام سطوعها , أثرت فى الحضارة العالمية حتى فى استعمال الرموز الرياضية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زاوية جديدة للاشتباكات المسلحة في محيط الكنيس اليهودي في داغ


.. اشتعال النيران في مبنى بعد الهجوم على كنيس يهودي في داغستان




.. إطلاق نار وحرق كنيس يهودي في جمهوريتين اتحاديتين بروسيا


.. صور لاستمرار المعارك في محيط الكنيسة بمحج قلعة بداغستان




.. زاوية جديدة للاشتباكات المسلحة في محيط الكنيس اليهودي في داغ