الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الافتراضي

نهرو عبد الصبور طنطاوي

2014 / 11 / 7
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في البداية تعال نتعرف على ماهية "الواقع" وماهية "الافتراض":

فأما "الواقع" فهو: حال الشيء وكينونته التي هو عليها، في لحظته الراهنة ونتيجته الحالية، دون أي تدخل من الشيء ذاته أو من غيره في تغيير حاله أو تبديله أو تعديله، وهو وجود الشيء كما هو موجود بالفعل، سواء كان ثابتا أو متغيرا، والذي يحكم بقانونية ومشروعية وواقعية وحقيقة هذا "الواقع" جريان سنن وقوانين ومقاييس وموازين الواقع الحقيقي عليه، فالشيء الذي لم تجر عليه سنن وقوانين ومقاييس وموازين وأعراف الواقع الموضوعي التي يسير بها فهو ليس من جنس ذلك الواقع وليس من مكوناته، والواقع ليس منه، إنما هو جسم ناتئ شاذ غريب أتي من خارج الواقع الحقيقي المتعارف عليه.

وأما الافتراض: فهو ليس كما يقول بعض الكتاب والباحثين أنه هو المحاكاة والتجسيد للواقع، كلا، إنما "الافتراض" هو نشاط يقوم من خلاله صاحب النشاط بلملمة بعض قصاصات من صور وأجزاء وتفاصيل ذهنية من الواقع الحقيقي، وجمع بعضها إلى بعض، لخلق شيء جديد أو كيان جديد لا حقيقة له ولا نشاط ولا عمل ولا فعل في الواقع الحقيقي الموضوعي، لأنه ليس في حقيقته من جنس الواقع الحقيقي الموضوعي، ولا يخضع لمقاييسه وموازينه الحقيقية المتعارف عليها في الواقع الحقيقي، وينحصر وجوده فحسب في ذلك الحيز الضئيل من الوجود في الذهن أو في النفس أو في الذاكرة أو حتى في الكيان الذي ظهر فيه، لأن لبناته التي تأسس عليها وتكوَّن منها _وإن كانت عبارة عن قصاصات من صور وأجزاء وتفاصيل ذهنية منتقاة ومقتطفة من الواقع الحقيقي_ إلا أنه لا يصلح للمرور ولا للتواجد في الواقع الحقيقي، لأن قوانين ومعايير ومقاييس وسنن الواقع الحقيقي لن تسمح له بالمرور ولا بالتواجد الطبيعي في البيئة الواقعية، لأنه ليس منها وليست منه.

لهذا كثيرون لأسباب نفسية "ضعف، نقص، حرمان، عُقَد، عته، تشوهات، أمراض" يرضون لأنفسهم التفاعل مع الكيانات الافتراضية على أنها واقع حقيقي، بل إنهم ينفعلون شعوريا وعاطفيا بالشيء أو بالكيان "الافتراضي" رغم يقينهم بأنه مفارق للواقع الحقيقي والموضوعي.

ربما بعض أو كثير من الناس يعتقدون أن العوالم الافتراضية أو الشخوص الافتراضية بدأت مع ظهور أجهزة الحاسوب والشبكة العنكبوتية فحسب، لكن في الحقيقة أن العوالم الافتراضية والشخوص الافتراضيين وجودهم على ألسنة الناس وفي أذهانهم قديم قدم الإنسان نفسه، وكانت تتمثل في القصص والأحاجي والأساطير التي تتحدث عن كائنات وأشباح عملاقة ومخيفة وغريبة، أو قصص وأحاجي خيالية حالمة لا يمكن أن تنتمي لعالم الواقع الموضوعي من قريب أو بعيد، ثم تطورت البشرية وتقدمت في التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال لدرجة أنه قد أصبح من السهل واليسير على أي شخص عن طريق الحاسوب أن يصنع كياناً "إنسانا" افتراضياً بمواصفات محببة لدى الآخرين أو لافتة وجاذبة لانتباههم، حيث يقوم بلملمة بعض قصاصات من صور ذهنية للواقع الحقيقي وصورا من بعض تفاصيله ومكوناته التي يرغب في أن يظهر عليها أمام الناس أو التي يهوى الناس أن يروه عليها، فيرتديها لهم، بينما هو بحقيقته الواقعية الموضوعية التي هو عليها مختبئ خلف الكيان "الإنسان" الافتراضي الذي صنعه بيديه.

أما "الإنسان الواقعي" الحقيقي فهو ذلك الشخص القريب زمانيا ومكانيا والماثل أمامك واقعا وحقيقة بكامل مفرداته وتفاصيله الحقيقية الواقعية، بعيوبه ومزاياه، بسلبياته وإيجابياته، بحلوه ومره ونقصه، وبما فيه من جمال وبما فيه من قبح وتشوهات، لأنه خاضع بشكل كامل وحتمي لكافة سنن وقوانين وموازين ومعايير ومقاييس الواقع الحقيقي الذي ينتمي اليه ولا يستطيع التواري منه، بل لا يجرؤ ولا يمكن أن تسول له نفسه ولو للحظة أن يمد يده إلى حقيقة نفسه الواقعية الموضوعية التي هو عليها فيعدل أو يجمل أو يغير أو يبدل منها أو فيها ما يريد ويهوى. ومدى قرب علاقتك الواقعية الحقيقية منه هي التي تكشف لك كامل حقيقته التي هو عليها كلما ازداد قربك منه.

بينما الشخص الافتراضي الذي لم تقربه من قبل في الواقع، فيقدم لك كيانا "إنسانا" افتراضياً، من خلال شاشة الحاسوب، عبر الكلمات الدافئة والخطب الرنانة والشعارات البراقة والبلاغة الصارخة والشعر الهائم أو حتى عبر الصور الثابتة أو المتحركة، ويكون قد أغرق لك ذلك الكائن الافتراضي بعشرات من الدهانات والأصباغ والطلاء الذي يخفي به حقيقته الواقعية، وكلما زاد اقتناعك بالكائن "الإنسان" الافتراضي الذي قدمه لك عبر الحاسوب وكلما وجدت نفسك منجذبا للتفاعل معه ومستثارا للانفعال معه عاطفيا وشعوريا فيكون قد نجح بالفعل وببراعة فائقة في أن يخدعك ويخفي عنك حقيقته الواقعية الفعلية، وقد نجح وببراعة في أن يخرج لك بديلا عنه هو ذلك الكائن "الإنسان" الافتراضي الذي كنت تحلم وتتمنى أن تجده، وللأسف كثيرون من الأشخاص الواقعيين يتقبلون بل ويبتلعون ذلك الكائن "الإنسان" الافتراضي ويتفاعلون معه وينفعلون به وكأنه كائن حقيقي ماثل أمامهم وقريب منهم.

فكم نبتلع يوميا محبين وأصدقاء ومعارف وأبطالا وزعماء ومناضلين ومجاهدين افتراضيين مصنوعين من وهم وخيال، وهم ربما متجردون تماما من كل حقيقة واقعية موضوعية، وكل ما يقدموه وكل ما يظهروا به أمامنا هو في حقيقته وبلا أدنى شك إبداعات افتراضية، من صنع أيديهم ليس إلا، فكم من داع افتراضي إلى الشرف والعفة والفضيلة والمبادئ وهو في حقيقته الواقعية مستنقع قذر للعهر والرذيلة، وكم من متحدث باسم العقل والمنطق وهو في حقيقته الواقعية صندوق من الوهم والخيال والعبث والجهل والتخلف، وكم من صانع محترف وبارع في تدبيج العواطف وتطريز الأحاسيس والمشاعر الجياشة التي يطوف بها على الأبواب كي يبيعها للحمقى والسذج والسفهاء، وكم من مناضلات افتراضيات مناديات بحقوق المرأة وحرية المرأة وكرامة المرأة وهن في حقيقة واقعهن محض جواري وإماء مملوكات لأزواجهن وأهلهن ويلتزمن بكافة الأوامر والفروض والإلزامات التي تلتزم بها الجواري والإماء. وكم من الكائنات الافتراضية التي تظهر لنا كل لحظة وقد صنعت بيديها مشاعر وعواطف ونبلا ومحبة وحياء وشرفا ونضالا وإخلاصا وشوقا ورقة ونعومة وغراما، ثم إذا ما حاولت أن تجر أحدهم من ظلمة الافتراض وسحبه إلى شمس الواقع الحقيقي كان من أول الفارين الهاربين منك، خشية من أن تحرق شمس الواقع أوراقه التي يستر بها سوءاته، وخشية من أن تزيل حرارة شمس الواقع عن وجهه كل الدهانات والأصباغ والطلاء فتراه على حقيقته الأصلية الواقعية التي هو عليها.

فما أجمل وما أبهى وما أروع "إنسان الواقع" مهما كان به من عوار ونقص ومساوئ وتشوهات وعيوب وسلبيات، بادية فيه وظاهرة، لم يخفها منك ولم يسترها عنك، فإن قبلته، فقد قبلت به كما هو دون دهانات ولا أصباغ ولا طلاء. وليذهب "الإنسان الافتراضي" إلى الجحيم حتى ولو كان ملكاً يرفرف بجناحيه.


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك: https://www.facebook.com/nehro.tantawi.7
مقالات وكتابات _ نهرو طنطاوي:
https://www.facebook.com/pages/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%87%D8%B1%D9%88-%D8%B7%D9%86%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A/311926502258563








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حديث السوشال | من بينها المسجد النبوي.. سيول شديدة تضرب مناط


.. 102-Al-Baqarah




.. 103-Al-Baqarah


.. 104-Al-Baqarah




.. وحدة 8200 الإسرائيلية تجند العملاء وتزرع الفتنة الطائفية في