الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التدين بين أداء الشعائر وبناء الضمائر 2/2

حسني إبراهيم عبد العظيم

2014 / 11 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني




ناقشنا في المقال السابق ذلك الفهم الملتبس والمغلوط للتدين المنتشر بين قطاعات واسعة من الناس، والتي تتجلى أبرز مظاهره في اختزال التدين في الاستغراق في أداء الطقوس والشعائر و(المظاهر) الدينية، والإهدار شبه التام للبعد العملي والسلوكي والإنساني للدين، وكأننا نتحدث عن طرفي نقيض لا يجتمعان.

فأصبحنا اليوم نرى سلوكا شديد الالتزام بالفرائض من صلاة وصيام وحج، يتعايش مع أداء مفرط في القصور في مختلف المواقع والقطاعات، ولامبالاة بالهم أو الشأن العام، رغم أن هذين الموقفين ينبغي أن يتناقضا ولا يتحقق لهما اجتماع أو تعايش لدى المسلم السوي، إذ إن كلا منهما فريضة، الأولى خاصة والثانية عامة، غير أن (الفهم العليل) بتعبير فهمي هويدي للتكاليف والمسخ الذي أصاب صيغة الفهم الصحيح للتكاليف الشرعية مكّنا للنقيضين أن يجتمعا، وأن يأتلفا أحيانا حتى كتب علينا أن نشهد بأعيننا وقوع تلك الواقعة: تعايش التدين مع التخلف.

وأوضحنا أن ذلك الفهم يعكس قصورا في فهم فلسفة الإسلام ومبادئه التي لا تركز على الشعائر في ذاتها وإنما في مدى انعكاسها في الفعل الاجتماعي بتجلياته المتعددة. حيث أن فلسفة الوجود الإنساني وفق التصور الإسلامي تقوم على جانبين مترابطين لا انفصام لهما، وهما التوحيد الخالص لله تعالى، وعمارة الأرض، أي البعد العقائدي الأخلاقي، والبعد العملي السلوكي الإنتاجي الخلاق، والبعد الثاني امتداد للأول، فكل عمل عبادة، طالما كان خالصا لله ونافعا للناس.

إن الإسلام يحقق تلك المعادلة المتوازنة بين الحياة الدنيا والآخرة، فالإنسان يجب أن يعمل لدنياه كأنه يعيش فيها أبدا، وأ ن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا، كما أنه نصح الإنسان أن يعمل حتى آخر لحظة في حياته، إلى درجة أنه لايترك فسيلة في يده دون أن يزرعها إذا قامت الساعة، وقد حرصت الشريعة الإسلامية على إعمار الأرض واستثمار خيراتها بما ينفع الناس، فالإنسان خليفة على الأرض، والكون مسخر له، وجعل الله في هذا الكون معايش للإنسان ينبغي أن يشكر ه عليها، ويرتبط ذلك بجوهر خلق الله لعباده، حقا إن الله خلق البشر ليعبدوه، وخلقهم أيضا لكي يعمروا الأرض، ولا ينحقق ذلك إلا بعمل دائب، ومجتمع يقوم على المودة والتراحم، وإصلاح ذات البين، والتباين في العقائد. (أحمد زايد 2011: 10-11)

والحق أن ذلك الفهم المستنير لفلسفة الوجود الإنساني في الإسلام كان واضحا وضوحا لا لبس فيه لدى السلف الصالح والفقهاء المسلمين في مختلف العصور، والمطلع على كتب التراث يرصد أمثلة رائعة لذلك الفهم - المقاصدي – لقيم الإسلام وشعائره المختلفة.

فقد عبر السلف الصالح وفقهاء الإسلام عن ذلك الفهم خير تعبير عندما أكدوا على أن للشريعة الإسلامية مقاصد يجب أن تحققها، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، كما أنهم أرسوا مبادئ هامة للمعاملات الإسلامية تؤكد على إعلاء المصلحة العامة، وعدم الإضرار بالآخرين، وتقديم ما هو عام على ما هو خاص. (أحمد زايد11:2011)

فهذا عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يعزم على الحج ويعد له عدته، ثم يصادف إمرأة فقيرة، فيؤثر إعانتها بالمال على أداء الفريضة. ويمر على الفقيه الزاهد بشر الحافي صديق له نوى الحج فيسأله عن مقصده من ذلك، فيقول الرجل إنه يبتغي بحجه وجه الله، فيقول له بشر، فإن استيقنت من مرضاة الله وأنت في منزلك، أتفعل ذلك؟ وعندما رد الرجل بالإيجاب، قال له بشر اذهب بدراهم الحج فاعطها عشر أنفس (وأوضح له أوصافهم وهم من المحتاجين) ثم قال عندما تدخل السرور على قلب إنسان، وتغيث لهفان، وتكشف ضر محتاج، وتعين رجل ضعيف اليقين، أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام. هذا الكلام عن الحج (وهو الفريضة والركن) وليس العمرة. (فهمي هويدي - التدين المنقوص)

وهاهو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني رحمه الله الذي عاش في القرن الخامس عشر الميلادي - التاسع الهجري يفتي بجرأة في كتابه (غياث الأمم) بأن الحاكم المسلم المسؤول عن رعيته، إذا رغب في أداء فريضة الحج، وكان من مقتضى ذلك تعطيل مصالح الناس، فإن إقدامه على الحج يعد ارتكابا لأمر محرم. الأمر اللافت هنا أن هذا الفقيه الجليل لا يقدم فقط إنجاز مصالح المسلمين على أداء فريضة الحج عند التعارض، وإنما يعتبر القيام بالحج في مثل هذه الحالة أمرا محرما. (فهمي هويدي - التدين المنقوص)

وفي سياق متصل قدم كثير من الفقهاء المعاصرين تفسيرات واجتهادات تتابع ما أكده السلف الصالح، وتتفاعل مع قضايا العصر، منهم الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ محمد سيد طنطاوي، ونكتشف في دعوتهم فهما وسطيا للإسلام يدعو لموازنة الدنيا بالآخرة، وإلى عدم التفريط أو الإفراط، والتفاعل بإيجابية مع متغيرات العصر، وانعكس ذلك في دعوة صريحة للشيخ القرضاوي: (صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا) وإلى إعمال العقل والتفكير والانشغال بالعلم، على اعتبار أن كلا من العلم والتفكير العقلاني فريضة إسلامية. (أحمد زايد11:2011)

وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله اجتهادات رصينة في هذا الشأن، منها قوله: (إذا كُلف إنسان بعمل ما، فإن إنجاز هذا العمل على أفضل وجه يعد (فرض عين) وجب أداؤه كالصلاة والصوم، وما يجوز له أن يتراخى فيه، وكل ذرة من استهانة أو خيانة فهي عصيان لله واعتداء على الدين، إن الجهد البشري يجب أن يوزع بالقسطاس المستقيم بين الصلاة المفروضة عليه، والواجب المطلوب منه، حتى يشيع العدل في المجتمع، ويبلغ الحقوق أصحابها، في سياق إدانته للتدين الناقص، أورد الشيخ نماذج عديدة صادفها في حياته، منها قوله لرجل أراد أن يحج للمرة الثالثة: أدلك على عمل أفضل، إن فلانا قد تخرج في كلية الصيدلة، وهو فقير، فضع في يد هذا الشاب المتخرج هذا المبلغ (تكاليف الحج) يبدأ بها حياة تنفعه وتنفع أمته، ولك عند الله ثواب أكبرمن ثواب حجتك تلك. وهو كلام لم يعجب السائل، فصاح قائلا أترك الحج وأساعد على فتح صيدلية، ما هذا؟

ويرصد المفكر الإسلامي الكبير فهمي هويدي ملاحظة مهمة في هذا السياق، وهي أن ثمة فريضة هامة من فرائض الإسلام، وهي الزكاة لايعطيها الخطاب الديني نفس الاهتمام الذي يعطيه لعبادات مثل الصلاة والصوم والحج، يقول فهمي هويدي في كتابه المهم التدين المنقوص: (ولسنا نعرف ركنا من أركان الدين لحقه التجاهل والغبن، مثل فريضة الزكاة، ولعل الدعاة الإسلاميين أنفسهم، في مقدمة أولئك الذين أغمطوا الزكاة حقها، من حيث أنهم دائمو التركيز على العبادات الضرورية المباشرة، وليس العبادات الاجتماعية – إن صح التعبير – بمعنى أنهم في سياق عنايتهم بالآخرة، شُغلوا بالصلاة والصوم والحج، وهي الفرائض الذاتية التي قد يجني المؤمن ثارها المباشرة دون غيره، أما الزكاة فإن أصوات المنبهين إليها لا تكاد تُسمع، لأن الالتزام بها يصب في المسألة الاجتماعية، في ميزان العدل ومكافحة الفقر وتغيير الواقع، وهي أمور لا تحتل أولوية في وعي أولئك الدعاة. (فهمي هويدي - التدين المنقوص)

وكانت النتيجة أننا صرنا نرى طرازا من المتدينين يحرصون على أداء مختلف الفرائض والشعائر، ويبالغون في الأداء والالتزام بها إلى أبعد الحدود، ولكنهم يسقطون الزكاة من حسابهم. بالإضافة إلى ذلك فإننا لانستطيع أن نلغي تماما الدور الذي يمثله حب المال عند البعض، فأداء الصلاة والصوم أمر ميسور، لا يكلف مالا، ولا يستوجب عطاء، أما الحج فرغم أنه فريضة مُكلفة، إلا أنه ملزم فقط لمن استطاع إليه سبيلا، فضلا عن أن الإنفاق في الحج سيعود على صاحبه بنفع مباشر عن طريق جني الحسنات ومحو الذنوب. في حين أن فريضة الزكاةتستوجب اقتطاع جزء من المال لصالح الآخرين، وهو ما قد لا يتقبله البعض بسهولة، فضلا عن أن ثوابها لا يستأثر به المرء وحده، بل إن عائدها الدنيوي – المرئي والمباشر – يستفيد منه آخرون في الدنيا، في حين أن صاحب المال ينال بها ثوابا في الآخرة. (فهمي هويدي - التدين المنقوص)

إن ذلك كله مرتبط بتصور بكيفية تصور وظيفة الدين، وهل هي عبادية فقط، أم أن له وظيفة اجتماعية، ودورا أساسيا في صناعة الواقع، وإقامة العدل والقسط، كما أشارت إلى ذلك أيات القرآن الكريم. والحقيقة أن الغلبة مازالت مستمرة لأصحاب الوظيفة العبادية للدين بالمعنى المباشر، وأن فكر القائلين بدوره ووظيفته الاجتماعية لم ينل حظه الواجب من الرواج والانتشار. (فهمي هويدي - التدين المنقوص)

ويبقى في النهاية السؤال الأهم، ترى ما العوامل التي أفضت إلى شيوع ذلك الفهم المنقوص للدين؟ الحقيقة أن الباحثين في مجال علم الاجتماع والأنثروبولوجيا ومجالات معرفية أخرى حاولوا رصد أسباب تلك الظاهرة، فكشفوا أن الأسباب متنوعة ومعقدة ومتداخلة، فتمة عوامل تاريخية أدت إلى إقصاء الفقه المستنير عن دائرة الوعي، وإبراز الفقه الطقوسي المستغرق في تفاصيل الطهارة والنجاسة وأحكام الوضوء وشروطه، وغير ذلك من الجزئيات الفقهية، وهي رغم أهميتها لا تعكس كليات الشريعة ومقاصدها العليا، ولعب العامل السياسي دورا مؤثرا في هذا السياق، حيث وجدت في مختلف الحقب التاريخية إرادة سياسية تهدف إلى اختزال الدين في بعده الطقوسي، وإفراغه من مضمونه الحركي المتماس دائما مع حركة الواقع.

ومن ناحية أخرى فقد لعبت بعض الجماعات الدينية – بدعم أحيانا من القوى السياسية وبدعم منها - دورا مهما في التركيز على البعد الطقوسي الشعائري الخالص، والتوجه نحو احتقار الحياة الدنيا، ومن ثم التقليل من شأن العمل والسعي والإنتاج، وقد كانت الطرق الصوفية، وبعض الجماعات السلفية – كجماعة التبليغ وغيرها – نموذجا واضحا في هذا الإطار، وإذا علمنا أعداد المنتسبين لهذه الجماعات التي تتجاوز عشرات الملايين في مختلف أرجاء عالمنا الإسلامي لعرفنا حجم تأثيرها في الواقع الإسلامي.

وبالإضافة إلى ذلك فقد لعب الخطاب الديني المعاصر دورا بالغ الأهمية في هذا السياق، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى تلك الدراسة الرائدة التي أجراها أستاذنا عالم الاجتماع الكبيرالدكتور أحمد زايد بعنوان: (قيم التنمية في الخطاب الديني المعاصر) التي نشر ت في عام 2011.م، التي صدرت ضمن منشورات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري، والتي كانت تهدف إلى التعرف على طبيعة القيم التي يبثها الخطاب الديني، وما إذا آانت هذه القيم تحمل قيما تنموية. وتم الاستعانة بعينة من خطب المساجد قوامها 466 خطبة تنقسم إلى 228 خطبة ألقاها آبار الدعاة ونشروها، فأصبحت مرجعا لخطباء المساجد، وأخرى تم تسجيلها من المساجد وعددها 238خطبة. وقد جُمعت هذه الخطب في الفترة من نهاية عام 2007 حتى يونيو 2009. (أحمد زايد11:2011)

وكشفت نتائج الدراسة عن غلبة الطابع الأخروي على الخطاب الديني. وقد جاء ترتيب موضوعات الخطب بحيث تضع الله والآخرة في الصدارة. أما عن قيم التنمية فقد أوضحت الدراسة أن أكثر القيم تكرارا هي القيم الاجتماعية، كحسن المعاملة، والتعاون، والتسامح، والصداقة، والإيثار، وأقلها تكرارا هي قيم العمل، وهناك قيم لم يتم التعامل معها مطلقا، منها قيمة القدوة، وقيمة تفضيل المصلحة العامة.

وإذا كنا نحمل الخطاب الديني مسئولية كبيرة في هذا الإطار، فمن الإنصاف القول بأن للمتلقين للخطاب الديني دور في هذا الفهم المنقوص للتدين، حيث أن هناك فهما وتطبيقا انتقائيا وبراجماتيا للنصوص والتعاليم الدينية، حيث يميل كثير من الناس إلى تطبيق التعاليم وفقا لمنفعته الذاتية، ورغباته. (أداء الزكاة كنموذج على ذلك)

نشير في هذا الصدد وفي ختام هذا المقال لمثال طريف لذلك التطبيق الانتقائي والبراجماتي للتعاليم الدينية، ففي عام 1992 وقعن حرب البوسنة، وتعرض المسلمون هناك لجرائم الإبادة والاغتصاب والتهجير، وغير ذلك من الجرائم التي تم توثيقها، فقامت نقابة الأطباء المصرية باستقبال آلاف من الفتيات والنساء البوسنيات، انقاذا لهن من ويلات الحرب، فتقدم كثير من المسلمين طالبين الزواج من هؤلاء النسوة، رغبة في (إرضاء الله تعالى بإعفاف المسلمات والتخفيف عنهن) وكان أغلب طالبي الزواج من الميسورين الذين لديهم زوجاتهم وبيوتهم المستقلة. وتم زواج عدد كبير منهم، وتصادف في نفس العام أن قامت الحرب الأهلية في الصومال، فبادرت النقابة المصرية باستضافة عدد من النسوة الصوماليات، استنادا لنجاح التجربة الأولى مع البوسنة، بيد أن أحدا لم تكن لديه الرغبة هذه المرة في (إرضاء الله تعالى بإعفاف المسلمات والتخفيف عنهن). وسبب ذلك معلوم بالطبع












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جملة سقطت سهوا من المقال
حسني إبراهيم عبد العظيم ( 2014 / 11 / 11 - 20:59 )
سقطت جملة سهوا من الفقرة الثانية من المقال التي جاء فيها
إن كلا منهما فريضة، الأولى خاصة والثانية عامة، غير أن (الفهم العليل) بتعبير فهمي هويدي للتكاليف والمسخ الذي أصاب صيغة الفهم الصحيح للتكاليف الشرعية مكّنا للنقيضين أن يجتمعا، وأن يأتلفا أحيانا حتى كتب علينا أن نشهد بأعيننا وقوع تلك الواقعة: تعايش التدين مع التخلف

وتصحيح ذلك كالآتي إذ أن كلا منهما فريضة، الأولى (وهي العبادات والشعائر) خاصة والثانية ( وهي الانشغال بالهم العام) عامة .

اخر الافلام

.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال


.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر




.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي


.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا




.. الجيش الإسرائيلي يدمر أغلب المساجد في القطاع ويحرم الفلسطيني