الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غربة الذات و إشكالية التواصل

داود بوعرفة

2014 / 11 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



لعل ما يميز ماهية الإنسان باعتباره ذاتية متفردة أنها لا ترنو إلى إقامة علاقة تواصلية حقيقة نظرا لتلك العلاقة الحميمية التي تكتنف ذاتية الإنسان. الأمر الذي يجعل من إقامة جسر التواصل بين الذات والآخر في غاية الصعوبة.
إن أهم مبدأ يمكن أن نأسس عليه هوية الإنسان هي ذاته، أي ذلك الإحساس بالحميمية الذي يحصن الذات ويحميها من الآخر، غير أن هذا الإحساس المنطوي على حميمية ذاتية يضع إمكانية التواصل في موضع الرفض الذاتي. صحيح أن الإنسان لا يمكنه العيش وحيدا، بل لابد له من الانخراط في الحياة الاجتماعية وسط الآخرين، إلا أنه لا يجد ذاتيته إلا مع ذاته عينها؛ فالفرحة بالحياة، والروح الفردية، والوعي الذاتي، والحركات والكلمات...إلخ كلها سمات وعلامات تعبر عن تجربة خاصة بالفرد صادرة عنه، وليس بمقدور الآخر أن يتملكها أو يستدمجها في ذاته.
يبقى إذن أن الوجود الحقيقي لا يكمن إلا في الذاتية، التي ترفض التواصل طبقا لطبيعتها وماهيتها المتفردة، وأما ما نلمسه من مظاهر النجاح في العلاقات الخارجية فينطوي في الحقيقة على فشل ذريع في التواصل مع الآخر الذي يسعى دائما إلى اختطاف فرادة الذات
وسجيتها عبر آلياته "التدجينية" والاستلابية القاهرة، إلا أنه يصطدم بذاتية محاطة بجدار عازل، وبحديقة خاصة تمثل سجنا حصينا يصعب اقتحامه. والحال هذه، ألا يمكن الحديث عن إمكانية للتواصل؟ ألا يمكن للإحساس والشعور الإنساني أن يوحدنا؟ ألا نثار نحن الإنسان إزاء مواقف تجعلنا في تواصل عاطفي مشترك؟
إن ما يميز عالم الإنسان هو أنه ينطوي على عوالم متعددة ومختلفة؛ فعالم الذات المتفردة ليس هو عالم الذات الغيرية، لأنه في الوقت الذي ينغلق فيه العالم الشخصي يكون عالم الغير قد أغلق من طرف الذات الأخرى، وهكذا فالفراق الغير قابل للالتحام هو ما يميز علاقة الذات بالآخر حتى في أعمق اللحظات الإنسانية مأساة وحزنا؛ فعندما أشاهد إنسانا مبثور الأطراف، أو ذا خلقة مشوهة، فإن إنسانيتي تثار وأحاول معانقة ما يعانقه، ولكن محال أن أشعر بذات الشعور الذي يكابده. وحتى لو اختبرنا نفس التراجيديا فإن الكييفيات التي تستدمج بها هذه الأحاسيس داخل ذواتنا تظل متباينة، لأن الإحساس لا يختبر حقيقته الكاملة إلا الذي أحس به، فهو مسألة شخصية نابع من تجربة ذاتية متفردة. ولكن ألا يمكن أن نتواصل حتى في أكثر المواقف مصيرية؟ ألا يشكل الموت حدثا استثنائيا تواصليا بين الناس قاطبة؟
لا شك في أن فكرة الموت تشكل أكبر هاجس وجودي يؤرق الذات، لكن تجربة موت الآخر تظل أكثر رعبا خصوصا إذا كان هذا الآخر ممن نحب؛ لأنها تجربة تولد، من جهة، أسئلة وجودية يستعصي على الذات أن تجد لها جوابا يطمئن نظرا لارتباطها بعالم آخر لا تستطيع الذات الوصول إليه. ولأنها من ،جهة أخرى، تحدث في الذات انشطارا عاطفيا رهيبا؛ فمن ناحية فزع و حزن الذات من نهاية قريبة تتربص بها، ومن ناحية أخرى شعور بالقلق والتوجس اتجاه مصير الآخر المائت، وكلتا الحالتان تضعان الذات في حالة تمزق. ومع ذلك كله تظل الذات غريبة ترقب الحدث أمام تجربة مهولة كهذه، لأنها تجربة ممتنعة عنها ولا تستطيع تغييرها أو التاثير فيها أو تقمصها مهما حاولت التخفيف من وقعها، فالموت لايهادن الذات مهما حاول الآخرون المهادنة.
إن فعل التواصل ينطوي على مفارقة كبرى؛ ذلك لأنه مرغوب فيه وليس في وسع الذات التنكر له، وفي الآن ذاته نجد الذات لا تأمن على ذاتيتها إلا بمعزل عن الآخر الذي يستحيل عليه التواصل معها ولو في إطار المؤشرات والتطابقات التي يستحيل التحقق من صحتها، فالمعاناة والمتعة والموت كلها تجارب وأحاسيس خاصة يستحيل على الآخر ان يتقمصها هي عينها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد لهجة خطاب القادة الأوروبيين حيال إسرائيل في قمة بروكسل


.. شاهد كيف ستختلف المناظرة الرئاسية بين بايدن وترامب عن 2020




.. تدريبات إسرائيلية تحاكي حربا على أرض لبنان.. وأميركا تحذر مو


.. رغم تهديد بايدن.. شحنات سلاح أميركية في الطريق لإسرائيل




.. في ظل شبح ترامب.. صناديق الاقتراع في إيران تستعد لتقول كلمته