الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول السينما النظيفة و السينما التي ماتت

محمود الغيطاني

2005 / 8 / 29
الادب والفن


حينما تردد علي أذني كثيرا قول العديد من الصحفيين و المثقفين و بعض النخبة عن" السينما النظيفة" وقعت في حيرة كبيرة، بل لعلّي لا أنكر أن الأمر استفزني نتيجة عدم قدرة عقلي القاصر و ثقافتي المحدودة الضحلة- التي أتمتع بها- علي استيعاب ما يقصدونه بكلامهم… فماذا يقصد هؤلاء القوم من قولهم" السينما النظيفة" ؟
أيقصدون بها تلك السينما الخالية من الأوساخ و الأوشاب؟ أم هي السينما التي يحرص أصحابها علي غسلها بأحدث مساحيق الغسيل؟
لا أنكر أني وقعت في حيرة كبيرة نتيجة عجزي، بل فشلي التام في فهم مثل ذلك الاصطلاح العصيّ؛ حتى لقد تأخرت حالتي الصحية نتيجة امتناعي عن الطعام، بل و ساءت حالتي النفسية حتى كدت أن أجن، و صار الجميع يرونني بملابسي المبعثرة غير المهندمة بعد أن كانوا يضربون بي المثل في الأناقة، إلا أن أحد الأصدقاء المخلصين أشار علّي مخلصا بعدما عرف السبب فيما أنا فيه من حالة يرثي لها أن أبحث عن معني قولهم هذا في المعجم علّه يشفي غليلي و يريحني مما أنا فيه، ففعلت علي مضض..
السينما النظيفة و السينما غير النظيفة
نظف- نظافة فهو نظيف أي نقي من الدنس و الجمع نظفاء، و نظّفه أي نقاه، تنظف أي صار نظيفا و يقال فلان يتنظف أي يتنزه عما يشين و يترفع، و استنظف الشيء أي أخذه نظيفا، و المنظفة هي ما ينظف به، و النظيف هو ما لا قذر فيه، و يقال هو نظيف الأخلاق أي مهذب.
و" السينما النظيفة" هي ما لا معني لها لا في معجم و لا في أية لغة من اللغات الحية أو الميتة اللهم إلا في عقول هؤلاء الذين ابتدعوا العديد من الاصطلاحات الجديدة علينا مثل" السينما النظيفة"، و"سينما الأسرة"، و"سينما لا تخجل منها أنت و أسرتك"، و ما إلى ذلك من هذه الاصطلاحات التي خرج بها علينا في الآونة الأخيرة بعض أهل الفن و الصحافة- الجاهلين أساسا بمعني الاصطلاح و الفن السينمائي- ليصدعون بها رؤوسنا ليل نهار.
فما المقصود من قولهم هذا؟ هل هي السينما غير القذرة التي لا تشوبها الأوساخ و الأدران كما سبق أن قلنا؟ إنها بهذا المعني تجعلنا نضرب أخماسا في أسداس للبحث في تاريخ السينما المصرية بل و العالمية أيضا عن تلك السينما التي تملؤها الأدران، إلا أنني بعد بحث طويل أرهقني كثيرا لم أستطع العثور علي مثل تلك السينما مما جعلني أجزم بأنني أخطأت التفسير و أن المقصود من ذلك المصطلح الجديد هو السينما المستقيمة الخالية من أية أفكار مؤدلجة تحاول التنظير للفكر اليساري أو اليميني، إلا أنني بعد بحث آخر مضني لم أتحقق من صدق ما ذهبت إليه فوقعت في حيرة كبيرة حتى هداني تفكيري القاصر بعد العديد من المحاولات و التجارب التي تهجدت فيها للمولي عز وجل أن يهديني إلى الحقيقة- فالتزمت منزلي و جعلت أصلي لله ليل نهار، بل و تركت لحيتي و ارتديت الجلباب و السروال و زهدت الدنيا و من فيها- فهداني الله إلى أن المقصود من قولهم هو السينما التي يمتنع فيها اللمس بين الرجل و المرأة- محافظة علي السلوك العام و من ثم الوضوء- فأدركت أنهم أخطأوا التعريف عن غير قصد- لأن الأعمال بالنيات- و أنهم قصدوا في المقام الأول اصطلاحا آخر خانهم فيه التعبير و هو" سينما ممنوع اللمس"..
علّ مثل هذا الاتجاه الجديد و الذي بدأ يطفو علي السطح منذ فترة ليست بالبعيدة قد بات يمثل اتجاها قويا يرسخ لمجموعة من الأفكار و القناعات الخاصة التي بدأت تفرض نفسها فرضا علي العديد من أفراد المجتمع مثقفين و غير مثقفين، و لعلنا إذا ما حاولنا الرجوع إلى البدايات الأولي لمثل هذا الاتجاه المتجهم في خطابه و نظرته للمجتمع لألفينا أنه قد وجد تربته الخصبة الصالحة للنمو منذ أواخر السبعينيات و البدايات الأولي للثمانينيات من القرن الماضي حينما حاول الرئيس الراحل" السادات" ضرب خصومه من التيارات الأيديولوجية المختلفة بعضهم ببعض و من ثم فقد بدأ يضخم من الاتجاه السلفي الديني الذي يتميز أغلبه بفهم الدين من خلال منظوره الخارجي- أي القشور- في مقابل الاتجاه اليساري- و المد الشيوعي- الذي بدأ يتعاظم أثره في المجتمع، و هنا قويت شوكة هذا الاتجاه السلفي؛ فبدأ خطابه الديني يتجه نحو الجهامة و القسر بدلا من الدعوى بالحسنى؛ فأدي ذلك إلى رؤيتهم للمجتمع من خلال منظور خاطئ يري في معظم أفعال الآخرين حراما و عيبا و غير متوافقة مع آداب المجتمع، ثم سرعان ما انسحبت مثل هذه الرؤية الضيقة- نظرا لأنهم يرون أن الدين قادر علي فهم كل أمور الحياة و هضمها و من ثم التدخل فيها بقانونه و منطقه الخاص- علي السينما فرأوا فيها هم و غيرهم من المتحفظين و المحافظين و غلاة الأخلاق شرا لا بد من استئصاله و من ثم القضاء عليه نظرا لأنها من وجهة نظرهم تدعو إلى الفاحشة و الخطيئة و الفسق بما تصوره و تقدمه لهم من مشاهد عري و ابتذال و قبلات و ما إلى ذلك مما يعتقدونه هدما للمجتمع و أخلاقياته و تقاليده البالية المتعارف عليها منذ القدم- علي الرغم من كون ما تقدمه لنا السينما ليل نهار نمارسه جميعا في حياتنا كل يوم بل و كل ساعة، بل و علي الرغم من أن السينما فيما تقدمه لنا لا تقصد قصدا عمديا في تقديم الجنس لنا- علي افتراض تقديمه- كما يرونه هم، بل إن الأمر مجرد منطق خاص للسيناريو لا يمكن أن يتم سوي به لأنه من أساسيات العمل الروائي-.
و بذلك رأينا عام 1986 قضية من أغرب القضايا التي ظهرت في المجتمع المصري و التي قصد بها فرض الرقابة الاجتماعية علي السينما المصرية- فصار هناك رقيبان خارجيان هما المجتمع و الرقيب علي المصنفات، هذا فضلا عن الرقيب الداخلي- حينما أثيرت قضية الفعل الفاضح العلني* عند عرض فيلم" للحب قصة أخيرة" للمخرج العبقري" رأفت الميهي" فتقدم البعض ببلاغ للنائب العام يفيد بأن هناك فعلا فاضحا تم بين" يحيي الفخراني"، " معالي زايد" الأمر الذي جعل المخرج و الفنانون يدافعون فيه عن أنفسهم باعتبار أن مشهد الفراش و اللقاء الجنسي الحميم كان من صميم العمل؛ حيث كان الزوج مصابا بمرض في القلب و عليه فانه يترتب علي لقائه مع زوجته الكثير من أحداث الفيلم، و علي الرغم من مرور القضية بسلام حيث تمت تبرئة كل من" معالي زايد" ،" يحيي الفخراني" من التهمة الجديدة بل و الشاذة التي وجهها لهم المجتمع صاحب القيم الجديدة، إلا أنها سرعان ما عادت تطفو علي السطح مرة أخري حينما تقدم البعض ببلاغ آخر للنائب العام ضد" ممدوح وافي" ،" معالي زايد" أيضا عند عرض فيلم" أبو الدهب" 1996 للمخرج" كريم ضياء الدين" ، بل و حينما تقدم أحدهم ببلاغ ضد "يسرا" لأنها تظهر في أفيشات فيلم" طيور الظلام" للمخرج "شريف عرفه" 1995 بصورة غير لائقة تخدش الحياء العام، حتى لقد صار الأمر و كأن الجميع بدءوا يترصدون السينما المصرية بل و يبحثون فيها بالمجهر عما يتعارض مع معتقداتهم الخاصة و أخلاقياتهم كي يبدأون في إثارة الضجيج و من ثم اتهام السينما بعدم نظافتها و رغبتهم في سينما أكثر نظافة لا يشعرون فيها بالحرج من أولادهم و بناتهم حينما يدخلون لمشاهدتها.
و هنا بدأت تظهر لنا طائفة جديدة من مشاهدي السينما الذين يحرصون علي دخول دور العرض ليس لمجرد المشاهدة بل للبحث و التنقيب عما يرونه ليس نظيفا و من ثم يبدأون في الصياح و الضجيج بأن ما يقدم لا بد من إلغائه و حذفه بل و تفعيل دور الرقابة- التي هي تخنقنا بالفعل يوما بعد يوم-.
ثم لا يلبث أن يخرج علينا أحد مقدمي البرامج الذي يعمل بمجال الصحافة الفنية و الذي كنا نظنه إلى حد كبير علي درجة لا بأس بها من الوعي- بل و يفعل مثله العديد من الإعلاميين و غيرهم الذين لم نكن ننتظر منهم ذلك- ليتساءلوا عن السينما النظيفة و غير النظيفة، و كيف نستطيع القضاء علي تلك غير النظيفة- و كأنما الأمر قد صار قضية نوعية من أفلام البورنو التي تقدمها السينما المصرية- فنري ذلك المقدم يسأل الفنانة الشابة" منة شلبي" ليقول لها( هل تعتقدين أن سلوكك يتناقض مع آداب و أخلاقيات و تقاليد المجتمع؟) أو ما هو يعطي هذا المعني، مما جعلها تتنمر و تنظر إليه مستفزة لتتساءل( ماذا تقصد بالضبط من سلوكي و عادات و أخلاقيات المجتمع؟).
بالطبع مثل هذا التساؤل من قبل" منة شلبي" و مثل هذا التحفز الذي ظهر علي قسماتها وقت سماعها للتساؤل كان في محله و نلتمس لها فيه الكثير من العذر؛ لأنه سبق و تم سؤالها لماذا رفضت الأدوار التي عرضت عليها في فيلمي" الساحر" للراحل" رضوان الكاشف" 2001 ثم " مواطن و مخبر و حرامي" للعبقري "داود عبد السيد" 2001 ، ثم لأن الجميع بدءوا يحصرونها و من ثم بوتقتها في حيز ضيق يكاد أن يخنق موهبتها الناضجة و هو حيز الإغراء، ثم لأن المجتمع حولها يكاد أن يتهمها من خلال نظرته الانغلاقية الضيقة النابعة من الجهل التام و الخطاب الديني المتجهم- الذي لا يكاد يري في السينما و الفن سوي الضلال الذي لا بد من القضاء عليه- بأنها فاسقة أو خارجة عن العرف الاجتماعي..
كل هذه العوامل متضافرة جعلتها ذات مرة و في غير حديث لها تحاول التجمل أو فلنقل التنظف و من ثم التحلي بصفات الرياء الاجتماعي الذي هو اتجاه "برجماتي" بحت- يحاول خداع المجتمع حوله بإعطائه الصورة التي يرغبها و يشتهيها في مقابل الفوز باحترام و تأييد ذلك المجتمع الذي بدأ يسيطر فيه بعض شرائح الطبقة الوسطي من أنصاف المتعلمين و الجهلة- فتقول أنها رفضت مثل هذه الأدوار في البداية لأنها تحتوي علي بعض المشاهد التي تخجل من كون والدها أو شقيقها أن يراها فيها، و حينما تم سؤالها عن هذه المشاهد و هل المقصود منها القبلات؟ نراها تقول بملء فيها" طبعا" *و كأن ما تؤديه من مشاهد سينمائية- من المفروض أنها محض خيال يبتعد كثيرا أو قليلا عن الواقع المعاش- عيب لا بد من التبرؤ منه.
و بذلك نري الجميع من حولنا قد أصيبوا بحالة ميئوس منها من "الشيزوفرانيا" الاجتماعية فيقولون ما لا يفعلون، بل و يسلكون سلوكا ما ثم سرعان ما يتبرءون منه نظرا للحلقة الملتهبة بل و الجهنمية التي يضيقها المجتمع حولنا يوما بعد آخر.
إلا أننا علي الرغم من التماس العذر لفتاة في مقتبل العمر لم تعرك الحياة بعد، و لم تتكون لها قناعاتها الخاصة التي تستطيع من خلالها الدفاع عن سلوكها و من ثم فنها الذي تقدمه لنا مثل "منة شلبي"، فنحن لا نستطيع علي الإطلاق التماس مثل هذا العذر لمقدم ذلك البرنامج الذي يحاول السير في ذات الطريق و من ثم انتهاج نفس النهج الذي يفكر به مثل هؤلاء- المسطحي بل و المنعدمي الثقافة- الذين يتحدثون مثل هذا الحديث- و كأنه لا بد أن يكون فردا من أفراد الجوقة حتى لا يشذ عنهم فيتم لفظه من الجماعة التي هي الجزء الأعظم من المجتمع- و يتوجهون إلى السينما بمثل هذا الخطاب إلا إذا كان الأمر بالنسبة له أيضا مجرد" برجماتية" محضة يحاول من خلالها تجميل صورته أمام الجمع و من ثم تبرئة نفسه من اتهام موافقته علي ذلك الفن السينمائي الذي هو عيب و حرام و مقزز بل و يقدم لنا كل ما يحاول هدم الأخلاق- من وجهة نظرهم-.
إلا أن التساؤل الذي لا بد أن يطرح نفسه هنا هو إذا كانت أفلام مثل "الساحر" للراحل "رضوان الكاشف" 2001 ،" مواطن و مخبر و حرامي" للعبقري "داود عبد السيد" 2001 ، "عرق البلح" للراحل "رضوان الكاشف" أيضا 1998 ، "سوق المتعة" للمخرج "سمير سيف" 2000 ، "مذكرات مراهقة" للمخرجة "إيناس الدغيدي" 2002 و غيرها من الأفلام تعد من قبيل السينما غير النظيفة فما هي السينما النظيفة من وجهة نظرهم؟ هل هي "اللمبي" للمخرج "وائل إحسان" 2002 ، "55 إسعاف" للمخرج "مجدي الهواري" 2001 و غيرها من الأفلام التي لا نري لها مضمونا علي الإطلاق يستطيعون من خلاله أن يقدموه لنا؟
بل و السؤال الأقوى الذي لا بد أن يطرح نفسه هنا هو هل مثل هذه الأفلام التي تقدم لنا "اللمبي" و غيره من الممكن اعتبارها أفلاما نظيفة علي الرغم مما تقدمه لنا من نماذج مشوهة شديدة التأزم للشباب من مساطيل يمسكون المطواة ليل نهار و يعتبرون البلطجة أسلوبا و نهجا خاصا للحياة لا بد منه مما قد يؤدي إلى نشأة أجيال كاملة تتخذ من "اللمبي" و غيره نموذجا لها لا بد من الاحتذاء به؟
أم أن الأمر قد صار مجرد مغازلة الجمهور الجديد نوعا علي السينما المصرية الذي بدأ يرتاد دور العرض و الذي يرغب في سينما جديدة متشنجة خالية من الملامسات؛ فبتنا نري الإعلانات علي العديد من الأفيشات لتقول لنا بكل صفاقة " فيلم لا يخدش حياء الأسرة" ، " فيلم تستطيع أن تشاهده أنت و أسرتك" و ما إلى ذلك من تلك الرسائل الموجهة إلى نوعية خاصة من الجمهور المتشنج الذي يرفع شعار "سينما اللاملامسة" أو " سينما ممنوع اللمس" ؟
و بمثل هذا المنطق العجيب فهل يعد فيلم "أبي فوق الشجرة" للراحل "حسين كمال" 1969 من قبيل الأفلام غير النظيفة نظرا لما يكتظ به من قبلات متعددة و حارة بين "عبد الحليم حافظ" ، "نادية لطفي" ، "ميرفت أمين" أم يعد من قبيل الأفلام النظيفة؟
من الضروري بناء علي ذلك إعداد قائمة لرواد السينما غير النظيفة مثل "أبي فوق الشجرة" للراحل "حسين كمال" 1969 ، "أعظم طفل في العالم" للمخرج "جلال الشرقاوي" 1973 ، "المذنبون" للمخرج "سعيد مرزوق" 1978 ، "قطة علي نار" للمخرج "سمير سيف" 1976 و الذي تناول رواية عالمية للروائي الأمريكي "تنيسي وليامز" و هي رواية "عربة اسمها اللذة" و الذي تكمن عدم نظافته في تركيزه علي موضوع " العلاقة المثلية" باعتبارها أحد محاور الفيلم الأساسية، "أرجوك أعطني هذا الدواء" للمخرج "حسين كمال" 1982 و الذي تناول رواية شهيرة "لاحسان عبد القدوس" تصور زوجة شابة يعجز زوجها-رغم براعته- عن منحها الإشباع الجنسي الكافي مما يسبب لها اضطرابات عصبية و نفسية تضطر إزاءها لاستشارة طبيب نفسي تسعي إلى إقامة علاقة جنسية معه بعد ذلك، و جميع أفلام "إيناس الدغيدي" و الراحل "حسن الإمام" لنخرج من تلك القائمة بأن جميع مخرجي السينما المصرية كانوا من رواد السينما غير النظيفة، بل و أن كل تاريخنا السينمائي لا بد من حرقه و التخلص منه نظرا لعدم نظافته.
إني أفهم جيدا أن السينما كفن له خصوصيته؛ فهو لا يقتحم علي المشاهد بيته كي يراه عنوة كما يفعل جهاز التليفزيون، بل هو فن بعيد تماما عن المشاهد العادي.. يتجه إليه بعض هؤلاء الذين لديهم القليل أو الكثير من الحس الثقافي السينمائي الخاص كي يدفعون أموالهم التي يقتسمونها من قوتهم و قوت أولادهم في مقابل بعض السويعات التي يرون فيها الفن الذي يقتنعون به، و بهذا يخرج الفن السينمائي من دائرة التسلية و إزجاء وقت الفراغ إلى دائرة أخري أوسع و أشمل و هي دائرة الفن الراقي الذي يقدم لنا صورة بصرية و سمعية بل و قصة خاصة و حياة متخيلة تهدف إلى غرض ما من الأغراض إما لمعالجته أو لتسليط الضوء عليه من أجل الانتباه له، و لعلنا رأينا "أسرار البنات" للمخرج "مجدي أحمد علي" 2001 و أدركنا جيدا أن مثل هذه المشكلة التي حاول "مجدي" تسليط الضوء عليها هي مشكلة ماسة موجودة في حياتنا إلا أننا نحاول عامدين إغفال النظر عنها ربما لعيوب و تشوهات في التربية المجتمعية الأولي لنا أو لقصور و عجز ما فينا نحن.
بل إن أفلام "إيناس الدغيدي" و التي يتهمها الكثيرون بكونها تقدم الجنس المجاني في أفلامها تحاول من خلال ما تقدمه دائما علاج العديد من المشكلات أو فلنقل مجرد تسليط الضوء علي بعض المشاكل الحقيقية التي نحاول جاهدين تجاهلها واضعين رؤوسنا في الرمال لأن مثل هذه الأمور- من وجهة نظر المجتمع الضيق الأفق- لا يصح أن نناقشها علنا هكذا بل إن مناقشتها لا يجب أن تتم إلا في غرف النوم المغلقة و من ثم تكون الطامة الكبرى حينما نفشل في علاج مثل هذه الأمور.
فهل بعد ذلك يصر البعض علي وجود سينما نظيفة أو سينما ممنوع اللمس في مقابل سينما أخري غير نظيفة ملطخة بالأوشاب؟
السينما التي ماتت…
حينما قدم لنا المخرج الراحل "رضوان الكاشف" أنشودته الخالدة التي أنشدها قبل فيلمه "الساحر" 2001 و هي "عرق البلح" 1998 كي يرحل عنا بعد ذلك بهدوء؛ أثار في كوامننا و من ثم ذاكرتنا السينمائية- التي ظننا أنها قد ماتت منذ عهد بعيد- العديد من الحالات الوجدانية المتضاربة؛ حتى أننا قد أصابتنا حالة عظيمة من الرعب الجميل نتيجة إقدام مخرج ما أيا كان قدره علي المغامرة بإخراج فيلم كهذا يعالج العديد من المشكلات بل و يتحدث عن أناس هم بعيدون عنا كل البعد، و من ثم ظن الكثيرون منا بل و توقع يقينا من فشل مثل هذا الفيلم الأسطورة الذي يذكرنا للوهلة الأولي بالراحل الجميل "شادي عبد السلام" و فيلمه الأنشودة "المومياء" 1975 ثم بالمخرج الموهوب "زكي فطين عبد الوهاب" و فيلمه الرائع "رومانتيكا" 1996 ..
إلا أن مثل هذا الظن اليقيني الذي راود نفوسنا سرعان ما تحقق بقدر ما فشل في التحقق؛ ففي حين تعرض فيلم "عرق البلح" لمجزرة كبري متعمدة بل و مستهدفة علي أكثر تقدير من قبل شركة "مصر العالمية" التي يساهم في امتلاكها المخرج "يوسف شاهين" حيث تم عرض الفيلم في وقت ميت تماما بالنسبة لمواسم العرض للسوق السينمائي المصري، هذا فضلا عن رفض سينما "شيراتون" التابعة لذات شركة الإنتاج التي أنتجت الفيلم عرضه علي شاشتها مفضلة في ذلك أحد الأفلام الأمريكية، ثم رفع الفيلم من العرض السينمائي بعد أيام قليلة لم تتجاوز الأسبوع عددا من سينما "أوديون" المملوكة أيضا لذات شركة الإنتاج تحت دعوى أن الفيلم لم يقبل عليه الجمهور و لم يشاهده أحد و من ثم لم يحقق أية إيرادات علي الإطلاق- تشير إيرادات سينما أوديون إلى أن الفيلم قد حقق في ذلك الأسبوع تسعة آلاف جنيه- و نحن لا نستطيع إنكار ذلك، إلا أنه لم تواته- أي الفيلم- الفرصة الكاملة التي كان من المفروض أن يتم منحها له كي يثبت وجوده و من ثم إقبال المشاهد عليه، هذا فضلا عن تراخي الشركة المنتجة و من ثم تقاعسها عن توفير الدعاية اللازمة للفيلم و من ثم تغطيته إعلاميا.*
إلا أنه بالرغم من هذه المجزرة التي تعرض لها أحد أهم أفلامنا في تاريخ السينما المصرية- إن لم يكن أهمها علي الإطلاق متقاسما في تلك الأهمية فيلم "المومياء" للراحل "شادي عبد السلام"- فانه قد لاقي من التكريم ما لم يلاقه فيلم آخر علي الإطلاق في تاريخنا السينمائي المصري؛ حيث حصد الفيلم سبعة و عشرين جائزة من جوائز المهرجانات العالمية و هو يعد أعلي عدد جوائز حصل عليها فيلم سينمائي في تاريخ السينما المصرية، هذا فضلا عن عرض الفيلم عرضا تجاريا في كل من فرنسا و بلجيكا و سويسرا لمدة تكاد تصل إلى ستة شهور في فرنسا وحدها و هو ما لم يحدث من قبل لفيلم مصري يتم عرضه عرضا تجاريا في فرنسا كل هذه المدة.
و بذلك استطعنا أن نقول أنه علي الرغم من تحقق مثل هذا الظن الذي ظنناه حيث تعرض الفيلم لمذبحة من قبل شركة إنتاجه داخل بلده إلا أنه- بكل فخر- تم تكريمه أيما تكريم خارجها بل و في جميع المهرجانات العالمية.
إنها الأنشودة التي أنشدها "رضوان الكاشف" ربما كي يبرئ ضميره من الوخز الذي كان يستشعره دائما تجاه أبناء الجنوب المهملين من جانب أبناء المدينة، ذلك الفيلم الذي صدق عليه قول "رضوان" نفسه "أفلام لها قلب" تحاول دائما الإحساس بهؤلاء الذين طحنتهم الحياة و من ثم وضعتهم في حيز النسيان القاتم الرؤية، و لعلنا لاحظنا ذلك بقوة في "عرق البلح" حيث صور لنا بكل صدق كيفية قتل آدمية الإنسان داخله و من ثم تركه خاويا من روحه تماما ليكون الحكم عليه بالموت علي الرغم من كونه ما زال حيا يرزق.
انه الفيلم الأسطورة الذي خرج عن الشروط السائدة و القاسية للسوق التجارية- التي صارت تسيطر علي مقدرات صناعة السينما في مصر- خاصة و أن الفيلم قد حاول التحرر من طرق السرد المألوفة بحثا عن لغة فيلمية خاصة- علي حد تعبير "رضوان الكاشف" نفسه- و ربما كانت الصعوبة الحقيقية الكامنة في ذلك الفيلم أنه أراد أن يتحدث عن أناس يطالب الجميع بنسيانهم، و لنتأمل قول "رضوان" حينما تحدث عن فيلمه فنراه يقول ( لقد قال لي أحد رجالات البيزنس السينمائي في مصر بعد أن شاهد نسخة عمل الفيلم، إن فيلمك يتحدث عن أناس يستحقون القتل، لا عمل فيلم عنهم) * و ها نحن نري "رضوان" يعقب علي ذلك القول بحسن نيته و بعد نظره النابع من ثقافة ليست هينة فيقول ( لم يكن الرجل و هو يقول ذلك يكشف عن شر يكمن داخله، بل كان و بكل بساطة و طيبة يعكس وعيا سائدا علي كافة الأصعدة السياسية و الاجتماعية و الثقافية، و قبل كل ذلك يعكس وعيا راسخا بالشكل الذي يجب أن يكون عليه الخطاب السينمائي، فالسينما المصرية و منذ سنوات بعيدة تحافظ علي كونها سينما المدينة بكل ما يطرحه ذلك من مفردات بصرية و سمعية، و من أفكار و عواطف، و بكل أنانية ابن المدينة، و بكل تعاليه التافه لم ينتبه هذا السيد أن علي تخوم مدينته و حول كل أطرافها، و بامتداد عميق في كل الاتجاهات يدور صخب عظيم هو فقط الذي لا يسمعه، يجهز لعنف هائل هو أول المستهدفين به) .
و لعل ما حدث أيضا هو الذي دفع أحد أفضل كتاب السيناريو في مصر- مصطفي ذكري- أن يقول بيأس أن الكتابة المختلفة اليوم تتم محاربتها علي كافة الأصعدة و من كافة التيارات*، و سواء كان وخز الضمير تجاه أهل الجنوب المهملين هو الدافع الأساسي "لرضوان" كي يخوض تلك التجربة أو ذلك الهم الذي ترددت أصداؤه في فيلمه الأول "ليه يا بنفسج" 1992 و المتعلق بالخراب و الفساد الذي يلحق بالناس و المكان حين يهجر أحدهما الآخر- علي حد قول "رضوان" نفسه- هذا الهم الذي سيطر عليه منذ أن اجتاحت مصر و خاصة جنوبها بدءا من منتصف السبعينيات موجة من الهجرة التي دفعت بالملايين نحو بلاد لا يعرفونها بحثا عن حلم زائف بالخلاص.. نقول أنه سواء كان هذا الدافع أو ذاك أو غيره مثل الشعور بأن ذلك الوطن الذي عرفه قد أبدل و بات يعادي ذاكرته و يخوض معركة هائلة و مدمرة معها، شعور بأن الوطن الذي عرفه ينفلت من نفسه و من منظومة قيمه الاجتماعية و الأخلاقية و الثقافية و الجمالية ليصبح علي مقاس حلم شائه و قبيح ووقح و غبي- كما سبق أن قال هو- حتى أنه لم يعد ملكنا، فان المحصلة النهائية من التجربة هي فشلها التام و من ثم وأدها حية داخل وطنها الذي هو الصورة الحقيقية البشعة و المرعبة للواقع السينمائي و سوق السينما في مصر الآن.
ذلك السوق الذي بدأت ملامحه الشائهة تبدو أكثر تشويها حتى أننا نتوقع منذ سنوات بموت السينما المصرية تماما أو إصابتها بالسكتة القلبية أو حتى انتحارها- إذا ما كانت علي قيد الحياة- و لعل مثل هذا المصير البشع الذي لاقاه فيلم "عرق البلح" للراحل "رضوان الكاشف" علي الرغم من أهميته و قيمته الفنية السينمائية هو ذات المصير الذي يلاقيه كل فيلم جاد يحاول صنع سينما جادة هدفها الأول و الأساسي هو الفن و ليس مغازلة الجمهور- الجاهل- و الذي لم تعد لديه أية ثقافة أو إحساس جمالي أو سينمائي علي الإطلاق؛ فصار كل ما يرغبه ذلك الجمهور- الجاني و المجني عليه- هو الضحك و التهريج- دون إعمال الذهن- حتى و لو كان ذلك الضحك من خلال مجموعة من الاسكتشات غير المترابطة بوحدة عضوية واحدة، فالمهم أن يضحك حتى و لو كان ذلك الضحك علي مشاهد فظة عبارة عن صفاقات لفظية و حركية.
فرأينا العديد من الأفلام الجادة و المميزة جدا- ذات منطق خاص و ثقافة عالية- مثل "جنة الشياطين" للمخرج "أسامة فوزي" 2000 يلاقي ذات المصير الذي لاقاه "عرق البلح" من تجاهل تام و من ثم وأده في مهده و كأنما الأمر لا يعدو أكثر من مجرد مؤامرة تحاك خيوطها ببراعة لوأد أية سينما جادة يتم صنعها من أجل الفن الصادق، بل و بلغ الأمر إلى أن أستاذ جليل في النقد السينمائي و هو الدكتور "أحمد يوسف" يصف فيلم "جنة الشياطين" بأنه فيلم يحاول التعالي أو التثاقف علي الجمهور و من ثم التفلسف عليه بما يحتويه من ذهنية عالية طرح من خلالها الفيلم*، علي الرغم من أن المنطق السليم يقول أنه لا بد من صنع سينما عالية الثقافة و النضج تكاد أن تضج بالفن الصحيح كي نقدمها للجمهور و من ثم نحاول رفعه و تثقيفه من أجل القدرة علي استيعاب ما نقدمه له، لا أن نهبط إلى مستواه الضحل و المتدني فتكون المحصلة النهائية هي تقديم فن ضحل لا يمت للفن بصلة.
و لعله بمثل ذلك المنطق الذي تحدث به الدكتور "أحمد يوسف" لا نندهش كثيرا حينما نري الموزع السينمائي "محمد حسن رمزي" يصرح بأنه لم يستطع فهم فيلم "عرق البلح" علي الإطلاق لأنه لا يمتلك الثقافة السينمائية العالية التي يحتاجها مثل ذلك الفيلم من أجل فهمه بل و يبرر ذلك بقوله أن الجمهور نفسه لا يمتلك تلك الثقافة العالية فكيف نأمل للفيلم أن ينجح؟!
و من ثم فقد تتالت تلك النكسات واحدة تلو الأخرى كي تقتل و تتجاهل جميع التجارب السينمائية الجادة فيواجه المخرج "رأفت الميهي" ذات المصير البشع بل و يلاقي ما هو أعنف من ذلك حيث يهرب منه جل المنتجون رافضون إنتاج أفلامه التي يرون فيها الكثير من العبث بل و الكثير من الجنون- الذي لا يقبل عليه الجمهور- فلم يكن أمام "رأفت الميهي" من طريق آخر سوي الإنتاج لنفسه من خلال "ستوديو 13" الذي كان "ستوديو جلال" قديما فاشتراه "رأفت الميهي" و عمل علي تحديثه- بعد أن وضع فيه "تحويشة عمره" علي حد قوله بل و بعد أن اقترض مبالغ طائلة من البنك- و من ثم الإنتاج لنفسه و إلا توقف تماما عن ممارسة الإخراج السينمائي- نظرا لأنه لا يقبل تقديم التنازلات- و من ثم الانعزال في بيته بلا مورد فن أو رزق علي الإطلاق، بل ووصل الأمر بالبعض إلى محاربته في جهاز التليفزيون فظهر لنا اتجاه يحاول منع أفلامه من العرض التليفزيوني.
و لعل الأمر لم يتوقف هنا فلاقي العبقري "داود عبد السيد" العديد من الصعوبات في إخراج أفلامه نظرا لهروب المنتجين من إنتاج مشاريعه السينمائية التي لا تلاقي الإقبال الجماهيري المطلوب و من ثم فهي لا تحقق الإيرادات المرجوة؛ حتى أنه لاقي صعوبة كبيرة في إنتاج فيلمه "الكيت كات" 1991 لولا تحمس بعض المنتجين الجادين لإنتاج فيلمه، و لولا وقوف بعض المنتجين المغامرين بل و المثقفين خلفه مثل "حسين القلا" لتوقف "داود عبد السيد" عن الإخراج منذ مدة ليست بالقصيرة.
إلا أنه إذا كان مثل هؤلاء المخرجون قد وجدوا متنفسا يستطيعون من خلاله ممارسة الإبداع السينمائي فان نظائرهم من المخرجين لم يستطيعوا إيجاد ذات المتنفس الذي وجده غيرهم، فتوقف "خيري بشارة" منذ عام 1996 بعد أن قدم لنا آخر أفلامه "إشارة مرور" و لم يقدم لنا حتى اليوم أية تجربة سينمائية جديدة علي الرغم من علمنا بأنه يعد لتجربة جديدة و هي فيلمه "ليلة في القمر" حسب تصريحه، إلا أن المفاجأة العظمي و ربما الصدمة القوية أنه كي يخرج من هذا الحصار المضروب حوله بقوة من قبل المنتجين و الجمهور معا قد لجأ إلى استخدام تقنية "الديجيتال" كي يحاول ضغط النفقات إلى أقصي الحدود خاصة و أنه سيقدم فيلمه علي نفقته الخاصة بعد أن تقاعس المنتجون عن إنتاج أفلامه إلا من خلال شروطهم التجارية الخاصة التي يرونها هم من خلال التدخل السافر في سير العمل السينمائي وفقا لرؤيتهم لظروف السوق التجاري…
انه ذات الأمر الذي دفع "يسري نصر الله"- و الذي كان له السبق علي مستوي السينما الروائية المصرية في استخدام تقنية "الديجيتال" بفيلمه "سرقات صيفية" 1988 – إلى تصوير جميع أفلامه بذات الطريقة من أجل إخراجها للجمهور نظرا لأنه من وجهة نظر المنتجين يقدم سينما مختلفة لن تلاقي إقبالا جماهيريا و من ثم فلن تحقق إيرادات؛ فلجأ إلى إنتاج أفلامه علي نفقته الخاصة مع بعض المساعدات الخارجية من خلال ضغط المصروفات.
و هو ذات الأمر الذي حدث للمخرج الجميل ذو الطاقة الإبداعية الوهاجة "محمد خان" الذي توقف بدوره تماما عن الإخراج السينمائي- و إن كان قد عاد لنا مرة أخري مع الفيلم التليفزيوني "أيام السادات" 2001 – مكتفيا في ذلك ب 18 فيلما هم رصيده الفني كله نظرا للظروف الإنتاجية الصعبة و محاولة فرض مجموعة من القيود و الشروط من قبل مافيا المنتجين علي من يوافقون الإنتاج له، فنراه يقول ( أنه يرفض العودة إلى مجال الإخراج السينمائي لأنه غير مستعد للتنازل وفقا لأهواء أي منتج، و من هنا يصبح منطقيا رفض تقديم أية تنازلات قد يطلبها المنتج أو الموزع أو نجمة أو نجم أو إلى آخر تلك المعوقات) بل نراه يقول ( يكفي18فيلما فقط هي كل رصيدي علي أن أكون فخورا بها أو علي الأقل بعدد منها إيمانا بأن من ليس لديه جديد يقدمه لا داعي لتواجده أصلا)*.
و لعل مثل هذا الحديث من "محمد خان" و قناعته الخاصة به يجعلنا نرفع له أكفنا بالتحية احتراما لما يقوله و يقتنع به، إلا أننا نجده كي يظل حيا يرزق يتجه إلى مجال الإعلانات مطلقا بالثلاثة المجال السينمائي نظرا لأن مجال الإعلانات لن يجعله يقدم من التنازلات ما قد يؤدي به إلى عدم احترامه لذاته و عمله في النهاية- و إن كنا قد علمنا مؤخرا أنه يعد الآن لفيلمه الجديد "كليفتي" الذي سيتم تصويره بنظام "الديجيتال" و الذي نعتقد أنه الباب السحري الجديد الذي سيجعل مثل هؤلاء العباقرة من المبدعين يستعيدون نشاطهم السينمائي مرة أخري-. *
و لعل مثل هذه المهازل التي نراها حولنا في مجال السينما المصرية يدفعنا للتساؤل حول السبب الرئيسي الذي دفع السينما المصرية إلى تلك الهوة السحيقة بل و إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة في حق المبدعين من مخرجيها المميزين، تلك الجريمة التي دفعت العديد منهم إما إلى التوقف التام أو الاتجاه إلى مجال الإعلانات أو تقديم بعض التنازلات من أجل محاولة الاستمرار دون الموت مثلما فعل المخرج "سعيد مرزوق" الذي نراه يقدم بعض التنازلات حينما أقدم علي إخراج فيلمه قبل الأخير "جنون الحياة" 2000 متعاونا في ذلك مع جهاز التليفزيون- الحارق للنجوم دائما في كافة مجالاتهم- بدلا من السير نحو ذات الهدف الذي بدأه منذ بداياته الأولي في أوائل السبعينيات.
علّ النظرة الجادة المتأملة لما يحدث الآن في السينما المصرية يؤكد لنا أن مشاكل الإنتاج و التوزيع هي السبب الرئيس فيما صار إليه حال السينما المصرية، ساعد في ذلك دخول مجموعة من المخرجين الجدد إلى مجال الإخراج السينمائي و هم علي استعداد تام لتقديم كافة التنازلات التي قد تطلب منهم في سبيل العمل و من ثم الشهرة علي حساب احترامهم لذاتهم و من ثم أعمالهم مثل المخرج "وائل إحسان" و غيره؛ الأمر الذي دفع مافيا الإنتاج إلى لفظ كل من يحاول الحفاظ علي نهجه الذي ارتضاه لنفسه و من ثم احترامه لنفسه و فنه؛ لأن هناك البديل الذي سيتقبل شروطهم عن طيب خاطر إذا ما تنحي هؤلاء المخرجون الجادون عن الساحة السينمائية.
و هنا بدأت تظهر لنا كيانات إنتاجية ضخمة و جديدة نوعا علي السينما المصرية- ذات رؤوس أموال متضخمة- تحاول فرض سيطرتها و من ثم آلياتها علي السوق السينمائي في مصر ساعدها في ذلك دخول بعض رجال الأعمال و التجار و الحرفيين و أصحاب رؤوس الأموال المكتظة- الذين لا يفقهون شيئا علي الإطلاق في صناعة السينما- من الأبواب الخلفية لتلك الصناعة، فكان هؤلاء لا يهمهم من قريب أو بعيد النهضة بمثل هذا الفن الراقي قدر اهتمامهم في المقام الأول بمقدار ما سيحققه هذا الفيلم أو ذاك من أرباح كي تتضخم أموالهم التي تصب في جيوبهم أكثر مما هي عليه، فأدي ذلك إلى انجراف بعض المنتجين الجادين في المجال السينمائي إلى ذات الدرب الذي يسير عليه هؤلاء و الذي لا يري في السينما سوي أداة للتربح و تضخيم رؤوس الأموال نظرا لتلك الحلقة الجهنمية التي صارت تضيق عليهم يوما بعد آخر مطالبة بأفلام بلا مضمون يرغبها الجمهور الجديد- الضحل- بديلا عن تلك الأفلام الجادة التي لم يعد يفهمها جمهور السينما الجديد نظرا لتضاؤل ثقافته و انخراطه في النمط الجديد الاستهلاكي الذي صار يسيطر علي مقدرات المعيشة في مصر نتيجة ظروفها السياسية و الاقتصادية المتخبطة.
و نظرا لأن البعض قد يتهم الجمهور وحده بتلك الأزمة الخانقة التي صار إليها حال السينما المصرية؛ فان الحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها تؤكد لنا أن ذلك الجمهور علي قدر مساهمته في تلك الأزمة إلا أنه مجني عليه من قبل هؤلاء المنتجين الذين أصروا- و ما زالوا- إصرارا عمديا علي تقديم كل ما هو فاسد و منحط و مجاني لهذا الجمهور، حتى لقد بات ذلك الجمهور لا يستسيغ سوي الفاسد الرديء، أو علي حد قول المخرج "رأفت الميهي" ( كيف نظل نقدم لذلك الجمهور برسيما لفترة طويلة ثم نتهمه بعد ذلك بفساد ذوقه؟)* فكيف بالله عليكم تحاصرون الجميع بالرديء الفاسد حتى يدمنه تماما و يتعود عليه ثم تطالبونه بعد ذلك بقبول الجيد الذي بعد العهد به حتى لقد نساه الجميع و من ثم لم تعد لديهم المقدرة علي فهمه و استساغته؟
و من هنا وجدنا شركات و تكتلات إنتاجية عملاقة تنشأ في السوق السينمائي المصري فلا يكون لها هدف سوي كيفية صنع الأرباح الضخمة من خلال مجموعة من الأفلام التي لا تمثل أية قيمة فنية علي الإطلاق مثل "اللمبي" للمخرج "وائل إحسان" 2002 ،"اللي باللي بالك" للمخرج "وائل إحسان" أيضا 2003 ،"55إسعاف" للمخرج "مجدي الهواري" 2001 ،"ميدو مشاكل" للمخرج الذي كان "محمد النجار" 2003 ، ذلك التيار الذي بدأ مع "صعيدي في الجامعة الأمريكية" 1998 للمخرج" سعيد حامد" ليظل جارفا حتى الآن و مهددا لكيان السينما المصرية و لسنا ندري علي الإطلاق متي ينتهي.
فصارت مثل هذه التجارب هي المثل الذي يحتذي اليوم بل و يشجع عليه بعض منتجي السينما- إن لم يكن جميعهم- مثل "العدل جروب" ، و "الشركة العربية" برئاسة "إسعاد يونس" و غيرهم من التكتلات الإنتاجية العملاقة؛ حتى لقد تمت محاربة العديد من التجارب السينمائية الجادة و الجميلة من قبل شركات إنتاجها- نفس السيناريو الذي حدث "لعرق البلح" تقريبا- التي رأت في إقدامها علي إنتاج مثل هذه الأفلام خطأ كبيرا ما كان لهم أن يقعوا فيه مثل فيلم "بحب السيما" للمخرج "أسامة فوزي" و الذي ظل فترة طويلة حبيس العلب ترفض الشركة العربية إخراجه لأسباب لا ندريها علي الإطلاق؛ فتارة نري "إسعاد يونس" تصرح* بأن الفيلم يتم تجهيزه للعرض في مهرجان "كان" و أنها تؤجل تنفيذ الفيلم لأسباب متعلقة بالتمويل بالنقد الأجنبي، و تارة أخري تسري الشائعات التي تفيد أن الفيلم متوقف لأنه سيغضب الأقباط حيث يتحدث الفيلم عن أسرة قبطية متطرفة- لاحظ أن مخرج و منتج و مؤلف الفيلم أقباط- و لعل مما يدعم ذلك القول أن بعض الأخبار قد أفادت أن مهرجان القاهرة السينمائي في إحدى الدورات قد رفضت لجنة المشاهدة فيه ذلك الفيلم نظرا لحساسية موضوعه، و سواء كان هذا السبب أو ذاك أو غيره فالشركة العربية نادمة علي إنتاج هذا الفيلم و غيره نظرا لأنها أفلام غير مشجعة للعرض السينمائي؛ فرأينا فيلم "سهر الليالي" 2003 *للمخرج "هاني خليفة"- الذي أصابه اليأس حتى لقد فكر جديا في الهجرة و ترك ذلك الوطن الأحمق المهان- ذلك الفيلم الذي تم الإفراج عنه مؤخرا بعد سنوات طويلة من التعليب و من ثم فقد كان من السهل و الطبيعي أن يمر مرور الكرام دون أن ينتبه إليه الكثيرون نظرا لعدم التغطية الإعلامية الكافية له لولا بعض هؤلاء الجادون الذين أشادوا بالفيلم محتفين به أيما احتفاء نظرا لقيمته الفنية العالية، و لعل ذلك يعطينا شيئا من الأمل بأن الفن الجيد لا بد أن يجد جمهوره الخاص الذي يستطيع أن يفهمه متذوقا و من ثم الارتفاع به إلى مصاف عالية.
نقول أن كل هذه الأسباب المريبة و المؤامرات المشبوهة التي تحاك حول السينما المصرية بمهارة قد دفعت العديد من المهارات الإخراجية الجيدة إلى الهجرة الجماعية للتليفزيون و الذي كان أجدى لهم و سببا قويا كي يظلوا علي قيد الحياة و من ثم توفير أسباب المعيشة لهم و لأولادهم بشيء من الكرامة حتى لا يموتوا جوعا أو الانزواء داخل بيوتهم يتحسرون علي الزمن و الفن الذي كان، أو الارتماء داخل تيار اليأس و الاكتئاب الذي قد يؤدي بهم إلى الموت السريع، و من هنا رأينا مواهب عبقرية في الإخراج السينمائي مثل "خيري بشارة"، "نادر جلال"، عادل الأعصر"، "محمد خان"، "مجدي أحمد علي" و غيرهم يتجهون إلى التليفزيون علّه يكون المتنفس الباقي لهم للاستمرار علي قيد الحياة بدلا من الموت الذي لا بد سيلاقونه إذا ما توقفوا عن الإبداع الفني، و لعل الخسارة الفادحة هنا موجهة إلى السينما في المقام الأول، تلك السينما التي فقدت أفضل مخرجيها الذين رأوا في التليفزيون بديلا، بل تلك الخسارة تتمثل لنا بشكل أفدح حينما نري مخرجا قديرا في حجم "محمد خان" يتجه إلى إخراج فوازير رمضان بدلا من الإخراج السينمائي الذي تميز فيه و استطاع أن يبدع فيه أيما إبداع.
فمتي نستطيع استعادة مثل هذه الطاقات المهدرة التي دفعتها الظروف و الأزمات السينمائية الطاحنة التي تمر بها السينما المصرية إلى الهجرة الجماعية للتليفزيون؟ و متي نستطيع إيقاف ذلك النزيف المخيف الذي يكاد أن يقتل السينما المصرية إن لم تكن قد ماتت بعد؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل