الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأمراض النفسية والكوادر الإدارية

سعد الله خليل

2005 / 8 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعتبر الأمراض النفسية من أخطر الآفات التي تفتك بالمجتمعات العربية، وتقف سدا منيعا في وجه التحديث والتنمية، وتمنعها من اللحاق بركب التطور الإنساني.
وأسباب هذه الأمراض عديدة متنوعة، لكن ما يهمنا في البحث عن أسباب عجزنا وتخلفنا، الأمراض التي تسببها التربية، ويسببها التمييز بين الأبناء والبنات، والأمراض الناتجة عن القمع والتسلط والإكراه، بدءاً من تسلط رب الأسرة مرورا بشيخ العشيرة، وصولا إلى الحاكم الخليفة الذي بايعوه مكرهين، ويدعون محبته كاذبين. والمفاهيم التي سادت ولم تلفظ أنفاسها بعد، والمقولات الفكرية التي تحتقر حقوق الإنسان وتقمع شخصيته، وتغلق عقله، وتقيد حريته وحركته وإبداعه.
فعلى مدى التاريخ الذي نفخر به، ومنذ قرون وقرون، اضطر الإنسان العربي والمعرب، كي يحمي حياته وأبناءه ولقمة عيشه، أن يخفي آراءه، ويكبت رغباته، ويعيش بشخصيتين، ووجهين، ورأيين، واحد في السر، وآخر في العلن، دون أن ننسى المتسلقين واللصوص، والكذبة والمنافقين. مما أثّر بشكل حاد على عقول الناس، وسلوكهم، وأسلوب حياتهم، وطريقة تفكيرهم، وخلق فيهم أمراضا يتوارثونها جيلا عن جيل، عصفت بهم، وأفقدتهم توازنهم، وقدرتهم، أهمها: (الكبت، والشعور بالدونية، والاضطهاد). ومما يؤسف له أن هذه المجتمعات، اعتادت هذه الحياة، وربما استعذبتها، وتستمتع بها.
لقد أعاقت هذه الأمراض نمو وتقدم هذه المجتمعات، التي غفلت عن أحوالها، بسبب قهرها، وبحثها عن حياة أخرى غير الدنيا (الفانية) التي كرهتها واحتقرتها، مما أدى إلى تخلفها وبؤسها. وإلى الواقع الحالي الذي يتوجب الدفع باتجاه تغييره كليا، أو تشذيبه وتحسينه وتطويره.
إن الطفل الذي يرى أمه، وهذا مثال بسيط، وهي تخضع لزوجها خضوعا مذلا مطلقا، وترتعب من كفه أو عصاه التي اعتادت أن تعاقبها، لأسباب لا تفهمها ولا تقتنع بها، ولا يسوغها سوى ادعاء الحق المطلق للذكر على الأنثى. هذه اليد أو العصا التي تراها أهون وأرحم ألف مرة من رغبة زوجها بامرأة أخرى، أو من كلمة قد يتلفظ بها، تكلفها وأولادها غاليا، وتسبب لها، ولهم، البؤس والمشاكل، والتشرد والضياع، لسبب قد لا يكون لها ذنب فيه، بل يمينا أطلقه زوجها على خصم أو صديق.
هذا الطفل، لا بد له أن يخاف أبيه خوفا شديدا، لا أن يحبه حبا كبيرا. وينظر للعلاقة معه على أنها علاقة عبد بسيد، لا علاقة ابن بأبيه. وفي الوقت الذي يرى هذا الطفل أباه (عنترا) في البيت، يستعرض قواه العضلية واللفظية والجنسية أمام زوجته وأولاده، يراه صاغرا جبانا ذليلا أمام رجل آخر، لا يعرفه، قد يكون فتوة الحي، أو رئيسه في العمل، أو شيخ عشيرته، أو واحدا من إياهم.!! فلا بد والحالة هذه أن ينشأ هذا الطفل نشأة غير سوية تصيبه بكثير من الأمراض النفسية يورثها لأبنائه من بعده، خاصة إذا ما أخذنا بالحسبان الحرمان العاطفي، الذي عانى منه هذا الصبي أو تلك الفتاة، بسبب المفاهيم السائدة والقيود الاجتماعية والتربوية، التي تمنعه من إقامة أي تعارف، أو أية علاقة مع الطرف الإنساني الآخر، ولو بقصد الفهم والمعرفة والاستكشاف.
إن اقتناع هذه المجتمعات بأن البطش والإكراه، هما القوة المفضلة والمثمرة، والقادرة على الإقناع والقبول. واستخدام هذه القوة لمعالجة الأمور، وحل المشكلات، قد أودت بهذه المجتمعات وأورثتها أمراضا نفسية شديدة التأثير على واقعها الحالي والمستقبلي.
لقد اتفق علماء النفس أن ( الكبت ) بكل أشكاله وأسبابه، يلجم مشاعر الإنسان، ويُشعره بالإثم والذنب، كلما حاول أن يتصرف بعفوية، ويعبر عن نفسه، ويحتفظ بشخصيته، وبالتدريج تتكون لديه قناعة بأن التعبير عن شخصيته من أي ناحية كانت، يشكل خطرا عليه، ولا بد له أن يتجنبه كي يكون في مأمن، مما يؤدي به إلى التعب والاكتئاب، ويفرض عليه تمثيل دور السيادة على الذات، والكمال في الفكر والأخلاق والذكاء، فلا يتقبل بعدها أي نقد، لأن النقد بالنسبة إليه، وبسبب مرضه، يعني هجوما على ذاته، فيرفض بالتالي أي رأي أو فكر أو ثقافة أو سلوك يختلف عن رأيه وفكره وثقافته وسلوكه، ويصاب بمرض التجمد والتقوقع الفكري، والتوتر الدائم، والحقد على الآخرين. وفي ظل هذه الظروف، القائمة على الكبت والقمع، ينشأ لديه شعور مرضي آخر هو ( الشعور بالدونية ) التي يسعى صاحبها، أن يتجاوز الآخرين، للتعويض عن هذا الشعور، فيحاصرهم، ويبعدهم، ويسفه آرائهم ومبادراتهم، ويهمشهم، ليتفوق ويسيطر عليهم، لكن هذا التصرف لا يعوضه أبدا عن شعوره بالدونية، إنما يغلفه بغلاف من الأوهام.
إن كثيرا من هؤلاء المرضى يصلون، بطريقة أو بأخرى، ولسبب أو لآخر، لا علاقة له بالكفاءة والإخلاص بالعمل، يصلون إلى مراكز المسؤولية في مؤسسات الدولة والمجتمع، وتكون الطامة الكبرى عندما يتوهمون أن هناك من يحاول أن ينال منهم ويسلبهم (حقوقهم) أو مراكزهم ( وهو الشعور بالاضطهاد )، فينهمكون إذ ذاك في استنباط وسائل دفاع (جهنمية) لحماية أنفسهم، وأخطر هذه الوسائل التي قد يلجأون إليها هو القتل المعنوي، وأحيانا الجسدي الذي تمارسه الزعامات في بعض المنظمات.
إن الذي يصل إلى مركز مسؤولية، وهو يعرف أنه لم يصل إليها بسبب تفوق أو قدرة أو كفاءة حقيقية، بل لأسباب أخرى يعرفها تمام المعرفة، ينسى مع الوقت كيف وصل إلى هذا المكان، ويتوهم أن وصوله كان نتيجة لخبرته وكفاءته، وتضحيته، وأنه خير من الآخرين، وأكثر خبرة وثقافة وفهما. وأن هذه المؤسسات بتجهيزاتها وموظفيها، قد أصبحت ملكا شخصيا له، كسبها أو ورثها، أو أُهديت له، فيتصرف، ويتعامل، على هذا الأساس، يكافئ من يشاء، ويعاقب من يشاء، ويحرم من يشاء، ويقدم من يشاء، ويؤخر من يشاء.
إن كثيرا من الكوادر الإدارية تعتمد في إدارة مؤسساتها على نوعية خاصة من الناس كالخائفين والمتزلفين والمتملقين والمتحذلقين والمخبرين، تدافع عن الإدارة وتزين صورتها، وتتجسس على الموظفين وتنقل أخبارهم، وتساعد على إخضاعهم. وكل من له شخصية مستقلة، يُنظر إليه كعدو منافس، لابد من تشويه صورته وتفشيله وتهميشه. فيكرسون بذلك مقاييس خاصة للموظف الصالح الكفء، تخدم أغراضهم ومصالحهم، لا مصلحة المؤسسة وحسن سير العمل فيها.
إن الأمراض السابقة تسبب أمراضا نفسية أخرى، تسمم العلاقة بين الناس وتفقدهم الثقة بالنفس والمحبة وروح التعاون فيما بينهم، وهي (الكذب والنفاق) الذي تمرست في فنونه شرائح واسعة، إما اتقاء لغضب قوي، أو تقربا منه وتزلفا له، للوصول إلى غاياتها، ولن ندخل في الأسباب التاريخية لهاتين الآفتين، ولكن هذه الفنون أصبحت ماركة مسجلة لأكثر الناس، وقد سجلها الأجداد بالمقولة الشهيرة (الكذب ملح الرجال).
إن المبالغة في تلقين الدروس، والمواعظ الأخلاقية، والخوف، يجعل من الكذب طريقة مثلى للتعامل مع متطلبات الأهل والدولة والمجتمع، فعندما يكذب الأهل على أبنائهم، والنواب على ناخبيهم، تصبح كلماتهم دون أية قيمة أو مصداقية، ويصبح الكذب سيد الموقف، والأسلوب المميز للتعامل.
إن الرياء والنفاق يُلبسان الرذيلة ثوب الفضيلة، ويتظاهر صاحبها أو يتصنّع التحلي بالأخلاق الحسنة التي توَافق عليها الناس وتبناها المجتمع، وجعلها غايته المثلى، والتي يدّعي المرائي أو المنافق أنه يتمتع ويؤمن بها، ويعمل على نشرها، بهدف إقناع الآخرين بمصداقيته، وقبولهم له، في نية خبيثة مبيتة، للوصول إلى أهدافه، وتحقيق غاياته، وفرض سيطرته على من انخدعوا به.
إن تأمين مناخ من العلاقات الطيبة والشفافة، بين الآمر والمأمور، يعمق الشعور بالمسؤولية من قبل الطرفين، ويعمق روح التعاون بينهما، والرغبة في تحقيق المصلحة العامة، ويهيئ الأرضية الملائمة لمناقشة القضايا التي تهم الجميع، من خلال الإصغاء، وقبول الرأي الآخر، مما يساعد على تطوير الفهم والتفهم بالاتجاه الصحيح، لا كما يحدث حاليا، حيث تسود لغة المواعظ والانتقاد والتهديد والوعيد، التي تضع الحواجز، وتعيق تطور المجتمع، وتُفقد الناس الشجاعة على مواجهة الأزمات وتخطي المعوقات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وثائقي -آشلي آند ماديسون-: ماذا حدث بعد قرصنة موقع المواعدة


.. كاليدونيا الجديدة: السلطات الفرنسية تبدأ -عملية كبيرة- للسيط




.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري يعلن مقتل جنديين


.. مقطع مؤثر لأب يتحدث مع طفله الذي استشهد بقصف مدفعي على مخيم




.. واصف عريقات: الجندي الإسرائيلي لا يقاتل بل يستخدم المدفعيات