الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد عابد الجابر بين دعاة اللغة العامية و عبد الله العروي

اغلالو ياسين

2014 / 11 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


" الانسان العربي "حيوان فصيح"، فبالفصاحة وليس بمجرد العقل تتحدد ماهيته" 1، وهو يحب لغته الى درجة التقديس. "فكلما كان أقدر على التعامل مع اللغة العربية، تعبيرا واستجابة كان أكثر امتلاكا لما به الإنسان هو إنسان "2. لهَذه الاعتبارات وأخرى متعددة يبرر الجابري إعطاء الأولوية للغة العربية في دراسة مكونات العقل العربي. غرضنا من هذا القول ليس تتبع المتن الجابري حول هذا الطرح، وإنما رصد نظرته وأقواله حول ما يمكن أن نسميه "أزمة اللغة العربية"، والوضعية الأنطولوجية التي أصبحت عليها اليوم. حتى صار أشخاص ليسوا من أهل الاختصاص يفتون بأطروحات طريفة، تهم الشأن اللغوي وخصوصا لغة التدريس ببلادنا. وما يرافق هذا الأمر من انتحار وخطورة تجند المؤرخ والأديب عبد الله العروي لتبديدها وتفنيدها. وها نحن من جهتنا نستحضر أحد أعمدة الفكر الفلسفي المغربي المعاصر محمد عابد الجابري ليقول قوله في القضية.
لقد تمت حول اللغة العربية أولى المحاولات التنظيرية الجادة التي عرفها الفكر العربي الإسلامي، على أساس منهجي منظم من قبل علماء النحو واللغة الرامية إلى جمعها وتقنينها، باعتبارها جزء وماهية القرآن. وتم تجميدها في قوالب محدودة صارمة، استجابة لدوافع فكرية إيديولوجية كما يحدثنا الجابري لا مجال لذكرها هنا. جعلت لغة قبيلة قريش "لغة اصطناعية تنموا وتتطور بكيفية آلية ...تبتعد أكثر فأكثر عن الحياة الاجتماعية وتطورها، محتفظة لنفسها بالاستقلال عن حركة المجتمع والتاريخ بشكل لا نظير له في عالم اللغات الحية" 3. لقد رأى الجابري أن اللغة العربية جمدت وحنطت بعدما جمعت من طرف الخليل وزملائه مأخوذة من أفواه الاعراب الذين لم يتعكر صفو لسانهم. وهي نفسها اللغة التي نجدها مصنفة في قواميسنا الضخمة والتي تنقل لنا حياة "خشونة البداوة" بتعبير ابن خلدون. وكل شيئ جديد فهو دخيل على لغة "الأعراب الأقحاح". هكذا أصبحت اللغة العربية كما يقول الجابري: "عبارة عن بنية دائمة تعيش خارج التاريخ، بنية تنقل إلى الأجيال اللاحقة ميراثا ثقافيا "حيا"على الدوام، محافظا على هويته بإستمرار، بالرغم من توالي القرون وتزاحم التقلبات. بنية فوقية مستقلة مهمتها تحقيق التواصل الثقافي، الديني والأدبي والعلمي، بين أعضاء نخبة ثقافية متعددة المشارب والأهداف، يحتفظون في وعيهم ولا وعيهم معا بعادات فكرية ومفاهيم ورؤى ترجع إلى ما قبل الإسلام" 4. امام هذا الوضع وجدنا أنفسنا أمام لغة لا تاريخية، لأنها لا تتجدد بتجدد الأحوال ولا تتطور بتطور العصور. مما جعل الحياة الإجتماعية كما يقول الجابري: " تنتقم لنفسها بفرض لهجات "عربية" عامية كانت وما تزال أغنى كثيرا من اللغة الفصحى"5 . بمعنى أخر انه "تم ترك الحرية للحن يصنع لغة التعامل، لغة الحياة، اللغة اليومية. في حين أدى تحصين اللغة العربية الفصحى إلى تثبيتها في مرحلة حضارية بدائية فقيرة، مرحلة ما قبل تاريخ العرب" 6. بهذا الوضع أصبحنا اليوم نعيش مفارقة وتمزق: ذلك اننا نتوفر من جهة على لغة الكتابة والتفكير على درجة عالية من الرقي، ولكنها لا تسعفنا بالكلمات الضرورية عندما نريد التعبير عن أشياء العالم المعاصر. خاصة الجانب العلمي والتكنولوجي. إلى درجة أننا كما يقول الجابري " لو قررنا عدم النطق إلا بالألفاظ العربية التي تعترف بها قواميسنا لكان علينا أن نمسك عن الكلام معظم الوقت في منازلنا وشوارعنا ومدارسنا" 7. ونزيح من عالمنا الأشياء الحضارية، المادية والفكرية، التي تشكل قوام العالم المعاصر. والأعقد من هذا اننا كما يقول الجابري أصبحنا نعيش عوالم مختلفة، ذلك أن المثقف العربي الذي يتكلم لغة عامية تسعفه في التعبير عن الأشياء الحضارية لا يستطيع التعامل بها فكريا. لأنها لا تتوفر على الأدوات والأليات الضرورية للتفكير، فهي ليست لغة ثقافة. والنتيجة كما يقول الجابري: "هي ان المثقف العربي سواء كان طالبا أو أستاذا يعيش عالمين كلاهما قاصر: عالم لغته عامية وعالم اللغة الفصحى. اما الأمي العربي وهو الذي يشكل الاغلبية فهو مسجون في عاميته مع أشياء لا يسميها، وإذا فعل سماها بأسماء أجنية مع بعض التكسير الضروري الذي لا شك في أنه يترك أثره العميق في عقله، و بنيته الفكرية. أما ذلك العربي الذي يعرف لغة اجنبية واحدة او أكثر فهو يعيش ثلاثة عوالم مختلفة: إنه يمتلك ثلاث تصورات ل "العالم" يفكر بلغة أجنية، ويكتب بلغة عربية فصحى، ويتحدث في البيت والشارع، بل في الجامعة، باللغة العامية"8. وليس من الضروري التذكير بعلاقة اللغة بالفكر ودور اللغة في تشكيل تصور الإنسان للعالم وبناء عقله وهيكلة فكره. وبهذا شكلت اللغة العربية حدود العالم الذي تنقله. وقد جاءت فقيرة حضاريا كما يقول الجابري "بسبب انصراف اللغويين والنحاة عن النص القرآني عند جمعهم اللغة ووضع قواعدها، وكذلك انصرافهم عن الأخذ من المراكز الحضارية والقبائل المتحضرة نوعا من التحضر كقبيلة قريش ذاتها " 9. لكن حركية الحياة الإجتماعية رافقها انتشار اللحن وتطور لغة عامية تترك أثر نفسي فكري عند من يتحدثها.
خلاصة القول أن الجابري يعترف بمحدودية ولا تاريخية اللغة العربية الفصحى. لكنها في نظرنا محدودية رافقت تاريخها وليست لصيقة بها منذ البداية، بحيث كانت قديما تستجيب وتعبر عن قمة ما أنتجه العلم. كما يؤكد الجابري من جهة أخرى على الفقر المدقع للغة العامية وافتقارها إلى الأدوات والآليات الضرورية للتفكير، كما أنها ليست لغة ثقافة وفكر. وهو لا يقدم حلا بارزا لأنه معني فقط بدراسة تكوين العقل العربي، ولكنه يعطي ويعرض الأسباب التي أدت إلى فقر وعدم تقدم اللغة العربية الفصحى. وبإمكاننا تجنب هفوات الماضي والتدشين لعمل جدي من داخل اللغة العربية، يرتقي بها إلى مستوى اللغات الحية المعاصرة، وذلك بالاستفادة من المواقع الحضارية المنتشرة والقرآن وجعل القواميس العربية تتجدد وتغتني باستمرار، بإدخال مفردات وقواعد جديدة تسمح بمسايرة اللغة العربية للحياة الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية المعاصرة. وتبسيطها وتبسيط النصوص المكتوبة بها لتقريب النصوص إلى ذهن المتلقي، ومراجعة المعاجم العربية وطريقة الكتابة. بهدف تيسير اللغة وجعلها تواكب العصر وتكون في المتناول وليس القضاء عليها.
1محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ص75
2نفس المرجع ص75
3محمد عابد الجابري، نحن والتراث ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ، الطبعة السادسة 1993، ص 228
4المرجع السابق، ص 228
5محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ص79
6المرجع السابق، ص88
7المرجع السابق، ص 79
8نفس المرجع ص 80
9 نفس المرجع ص 87








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ترامب يهاجم مجددا مدعي عام نيويورك ويصعد لهجته ضد بايدن | #أ


.. استطلاع يكشف عدم اكتراث ذوي الأصول الإفريقية بانتخابات الرئا




.. بمشاركة 33 دولة.. انطلاق تدريبات -الأسد المتأهب- في الأردن |


.. الوجهة مجهولة.. نزوح كثيف من جباليا بسبب توغل الاحتلال




.. شهداء وجرحى بقصف الاحتلال على تل الزعتر في غزة