الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الأخلاقِ والكَونِية

سيومي خليل

2014 / 11 / 23
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



------------------
غالبا مَا أجدني أصارع أسوارا صلدة وعالية حين آخذ موضوع الأَخلاق والقِيم بالنِّقاش ، كأني أُعارك في كولزيوم الأَفكار القبلية أسوأَها جاهزية وإطلاقية ، حتى يَبدو النقاش ضربا من الجنون المُؤدي إلى التشبت أكثر بهذه الأَفكار السيئة .

لا شيء يَجمع محاوري حول موضوع الأَخلاق ، ولاشيء يُمكن ترجِّيه من مثل هذه الحوارات ، ففي الأَخير يَختم محاوري النقاش باستنتاجات كانت نَفسها هي المُقدمات ، ويضيفون إليها ، بقناعاتٍ مختلفة ، فِكرة جنوحي عن الأَخلاق ، وتَجاوزي إيَّاها ،دون أَن تصرح أَلسنتهم بذلك، تاركين لأَعينهم مهمة التصريح .

إبتدَأَ النقاش ذات مساء غائمٍ حول مسأَلة القيم، استغربت أولاً الأَمر لعدم تحديد المفهوم ،ونبهتُ الكل إلى أَنهم جميعا يحملون معنى مغايرا لذاتِ المفهوم ، فكان الجواب أَن لا قيمة جدالية لتعريف المفهوم ، فكان استغرابٌ ثانٍ مني ،. وعن القيم سمعت كلاما كثيرا ،يمكن تلخيصه في فكرة الإِنحطاط القيمي ، والتي يُؤسفني أَنها شوهت لدرجة لم تعد تصرح عن أَي مضمون أو محتوى .

الإِنحطاط القيمي حسب مُحاوري ذلك المساء الغائم ،لا تخرج عن الصِفات التالية ؛ خروج واضح عن المعتاد ، فُجور بين في الهندام ،مُجون خمري وجنسي ، وسلوك مشين مع الَغير ... ليس لي إِلا أن استغرب مرة ثالثة أَمام ضيق هذا الوصف، والذي ،باستثناء ، صفة السلوك المُشين مع الغير ، يبقى وصفَا فَردانيا لا غير ، يمس اختيارات الأَفراد الشخصية ، وهي اختيارات لا أُدرجها على أَي حال في مسأَلة الأَخلاق أبدا ، وإْلا ستكون الأَخلاق بهذا المعنى مثل الأَلبسة القديمة التي نصر على ارتدائها مهما طال الزمن .

قلتُ في معرض إيضاح ما أَحمله عن مفهوم الأَخلاق ، أَن الأخلاق أَعمق من الإكليشيهات الجاهزة ، وإِلا ماكان مبحثا فَلسفِيا قائم النسق ، وأَضفت ، أَن تحليل المفهوم هو عقلي- كوني بدرجة أولى ،وليس تحليلا نقليا -محليا -وقوميا، وهذا يجعل صفة المُجون الذاتي، أو شرب الخمر ، أَو تناول المخدرات ، أَو ممارسة الجنس التوافقي عبر الحب أو عبر الدعارة ، سلوكات لا يجب النَّظر إِليها من النَّاحية الأَخلاقية على الإِطلاق ، بل من الواجب النظر إليها من نواحي المنفعة والضر والحريات الفردية وغيرها، وهذا ليس تأييدا لها أَو معارضة لها ،فهذا ليس مسار النقاش، بل هو وضعها في سياقها الذي يَليق بها .

أنْ تشرب الخمر أو الماء أو كؤوس من الزنجبيل ، وأَن تضع أَقرطة ً في أُذنيك أَو أن تزيل أذنيك بالكامل ...لا يستدعي البحث في مفهوم القيم والأَخلاق ، وربما هذا الإستدعاء والإقحام للأَخلاق في هكذا أمور هو ما جعل الإنحطاط القيمي يتعمق أكثر ، وجَعل مجتمعا بأَكمله يدقق في التفاصيل والهوامش وينسى الجوهر الأَساس في المفهوم ككل .

قلتُ أَن تربيتنا على سلوكات مُعينة والإِدعاء بأَنها الأَخلاق عامة هو مصدر العطب القيمي والأَخلاقي الذي نعيشه ،وللإِستدلال على ذلك أعطيتُ محاوري مثالا ظَننته عميقا ، وبدا لي من خلال أَعين محاوري أَنه لم يقنعهم ؛ فكيف يمكن لمثال مهما كان عَقليا أَن يقتحم سياجات دوغمائية بنيت بأيادي قوية ؟؟؟.

بدأْت المثال بفكرة التسامح كفكرة قيمية وأخلاقية ، وقيمة عقلية وكونية ، لا أَحد من محاوري أَنكر ذلك، والجميع اعتبر أن التعايش والتساكن لا يتم بدون هذه القيمة ، هنا صرحت بأَخلاقية التسامح التي يجب أن تَعلو فوق الشروط القاهرة، لكن تربيتنا المسماة أخلاقية تُصرح بهذه القيمة وتهدمها أَسوأ هدم في نفس الوقت وبشكل لا واع في الأَغلب ، فحين نلَقِن لأبنائنا فكرة فسق السكير ، وفجور الزَّانية ، والإتهَام الجاهز بكفر وفساد أخلاق المدمن ، نَكون قد ضيقنَا على المتعلم مفهوم الأَخلاق ، وحصرنَاه في جانبه النقلي لا غير ، وبالتالي نَهدِم فكرة التسامح الأَخلاقية الأَعم والأَشمل ،وحتى دون أن ننبه المُّتعلم إلى عدم ضرورة التسامح مع هؤلاء ، فهو يَستنتجها بشكل مباشر، ويفهم أن لا تسامح مطلوب مع هؤلاء ، فالفِكرتان متضمنتان في بعضهما بعضا ، وهنا أَكون قد ربيت جيلا لا أخلاقيا وإقصائِيا ، وفي أَحسن حالاته جيل يضيق الأَخلاق إِلى مجرد سلوكات صارمة ومُتزمتة لا تعني أي شيء على الإِطلاق ، إِننا نُحافظ على هوية ضيقة وندمر الهوية الكونية للإِنسان، وهذا يستتبع سلسلة من عمليات الهَدم للقيم الكونية الآخرى في سبيل إحياء سلوكات مخادعة لمفهوم الأخلاق .

قلتُ لمحاوري إن شئتم استعمال مصطلحات دينية سأقول ؛أن من لا يَشرب الخمر ملتزم دينيا وليس أَخلاقيا ، ومن يشربه غير ملتَزم دينيا لكن هذا لا يعني أَنه غير ملتزم أَخلاقيا ؛ الأَخلاق لا تهتم بما يَدخل الجوف ، بل هي سلوكات تمس عَلاقتنا بالجماعة وبالآخر المخالف، الأَمر مُماثل لحقيقة فيزيائية مُميتة في الطبيعة، ورغم ذلك لا يمكن لأحد أَن يصرح أَنَّها ليست حقيقة فيزيائية ، وهنا يتم الإِصرار على حقائق نسبية وأوهام متواطؤ على الإِيمان بها والتخلي التام عن مفهوم كونية الأخلاق والقيم .

أصرح ببعض الإِحصاءات لمحاوري علَّهم يتفهموان ما أقصده ، وما لا َيحتاج لشرح على أي حال ، فأَقول ؛ دولة مثل النرويح لا غضاضة عندها في تَعليم الثَّقافة الجنسية في المدارس للتلاميذ والتلميذات ن،ونحن نعتبر أَن الأَمر دونه جز الرقاب ، فَهو سلوك لا أخلاقي يَدل على فساد مجتمع ودولة ووزارة ومَسؤولين ، لكن النَّتائج تُخبرنا أَن الإِغتصاب يصل إلى حدوده الدنيا في النرويج ، كما العنف ضد النِّساء ، وكما الزواج المتكرر ، وكَما حالات الطلاق ، وكمَا العنف الجنسي ، في حين تصل عِندنا نفس هذه الحالات إلى حدودٍ قصوى ومفزعة ؛ فمن فَعَّل مفهوم الأَخلاق والقيم الإِجتماعية بين أَفْراد المُجتمع ؟؟؟ هم أَم نحن ؟؟؟... كأَننا نتحدث عن أولويات قيمية ، فإما أَن ننطلق نظريا وعقليا من كونية السلوك الأَخلاقي ليحدد فيما بعد ممارسات الأَفراد ، ، وإِما أن نفرض سلوكات أخلاقية نقيلة على الأَفراد ليشكلوا في الأَخير مُجتمعا مُتَعارضا مع الأَخلاق الكونية . البدء من الأَعم إلى الأَخص في هذا المنهج الإِستقرائي ضروري جدا ، فنحن لا ننطلق من سلوكات الفرد كي نبني أَخلاقا عامة ، بل نرى في الأَخلاق بشكل عقلي لا نقلي ، ونحدد إطاراتها العامة، وستأتِي في الأَخير السلوكات المطلوبة من الأَفراد منسجمة مع التنظير العقلي للأَخلاق ؛ هكذا أعطي مثال فِكرة التَّضامن كفكرة قيمية كونية ، فهي بالضرورة سَتتعارض مع رؤيتنا -مثلا - لمثليي الجنس ،ولاعتبارنا سلوكهم لا أخلاقي ،وهذا الإِعتبار سيهدم فكرة التضامن الكونية ، لأن من يعتبر المثلي الجنسي إِمرئ لا أخَلاقيا لن يتَضامن معه في كل الحالات التي يَتعرض فيها للاضطهاد ،حتى وإن كان الإضطهاد المُتعرض له بسبب آخر غير مثليته الجنسية ، وهنا سيتم التخلي عنْ مفهوم كوني مُقابل التشبت بمفهوم وعرف محلي وديني ، وزوال فكرة التَّضامن معهم تستوجب العنف ضدهم بالضرورة . إِني أؤكد على فكرة التضامن كقيمة إِنسانية تتجاوز الاعتبارات الضيقة ، فكرة ستجعل التضامن يتم دون اعتبار للإِختلافات القائِمة ؛ فيكفي أَن يَتعرض بُودي لظلم ٍما كي يتضامن معه مسلم او مسيحي أَو علماني ... فما يحدد قيمة التضامن هو الظلم الذي تَمجه الأَنفس ، وليس التقارب الفكري أَو الديني ، أو الإيديولوجِي ...


للأَسف نحن لا نربي الأَبناء على هذا النوع من التصور للأَخلاق والقيم ، ورغم تبجُحنا برغبتنا الشديدة في إِدراك معنى القيم والأَخلاق الكونية إلا أَن تربيتنا ومُمارساتنا وسلوكاتنا تنم عنْ كوننا نرضى من الغنيمة بالإِياب ، فنحن نؤكد عزمنا على المُزاوجة بين قيمنا النقلية والقيم العَقلية والكونية، وهذا الأَمر لا يمكن إِنجاحه على الإِطلاق، ولا يحتاج منا استيعاب هَذا التناقض الكثير من الجهد ، فيكفي أَن ندرك تعارض حقوق المرأة على سبيل المثال ، وتعارض قيمة الحب كسلوك أخلاقي نبيل، مع مبدأ تَعدد الزوجات للرجل، ولا يمكن بأية حال من الأَحوال البحث في توافقات لهذا التناقض ؛ لا يمكننا المناداة بحق المرأَة ،والحق في الحب، ونحن نصر على اعتبار آية تعدد الزوجات آية محكمة غير قابلة للتأويل ، ونحارب كل محاولة لتجاوزها ، ويجب في هذا الإطار الإنتباه إِلى التصور اللاواعي الذي يتم تشكيله إنطلاقا ونتيجة لهذا التعدد الذي يَهم دونية المرأة سواءا كانت في ذهن الرجل أو في ذهن المرأة نفسها








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعليق
عبد الله خلف ( 2014 / 11 / 23 - 16:30 )
الأخلاق موضوعية لا ذاتية , فهي لا تعتمد على رغبات البشر أو نزواتهم فالخير؛ خير عند الصالح و الطالح, و الشر؛ شر عند الصالح و الطالح, فالأخلاق تعتمد على شيء خارج (الذهن البشري) , تعتمد على إرادة الله التي يريدها لهذا العالم, فالأخلاق لها غرضية كونية يُفترض فيها (الإستقلال) عن (أفكار) البشر و رغباتهم, و القيم الأخلاقية يعتنقها كل إنسان بوعي أو بغير وعي .
تابع :
مناظرة رائعة حول (جدلية الأخلاق) بين د. هيثم طلعت و الملحد ألبير صابر :
http://www.youtube.com/watch?v=1w6cvEEWQPo

اخر الافلام

.. انتخابات رئاسية في تشاد بعد 3 سنوات من استيلاء الجيش على الس


.. الرئيس الصيني في زيارة دولة إلى فرنسا والملف الأوكراني والتج




.. بلحظات.. إعصار يمحو مبنى شركة في نبراسكا


.. هل بات اجتياح مدينة رفح قريبا؟




.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم طولكرم بعدد من الآليات العسكرية