الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زنود الست

مفيد بدر عبدالله

2014 / 12 / 4
المجتمع المدني



أن الايام تمضي كرياح عاتية، تقتلع من عمرنا أجمل أيامه، وتحملها معها بعيدا، وما تترك لنا غير الذكريات ، ترن مدوية في عالم النسيان، ذكريات تزدحم في مخيلتنا مثل صفحات كتاب كبير، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فصوله متنوعة، عناوينه بارزة، للفرح فيه مكان، للحزن فيه أمكنة، نتأمل أفراح الطفولة ، بمشاهدها الجميلة، لكنها لم تدم طويلا، فالحروب اسدلت على مشاهدها الستار، وكتمت صوت ضحكاتها البريئة . صفحات بيضاء ناصعة، كبياض الاكفان التي أضحت هذه الايام تلف ما يتبقى من الأجساد المتطايرة بقنابل حقد الحاقدين .
أقلب ذكرياتي، أتأملها، أنصت لها لهمسها وهي تقول " دوام الحال من المحال"، أتوقف طويلا عند محطات الشباب، وما قضمته منها الخدمة العسكرية، أتذكر صبرها، جوعها، انصياعي مكرها لأوامر ضباطها، لكنها رغم مرارتها قادرة على منح الرجولة صيرورة جديدة ، وتجعل منها أكثر صلابة، لا تأبه لحر الصيف، ولا زمهرير الشتاء، فراق الاحبة، كلها تتظافر لتجعل الرجولة أصلب، ومن الذكور رجالا .
حول(منقلة الحطب) نتجمع في امسيات المعسكر الشتوية، نقترب منها أكثر فأكثر حتى نكاد نحتضنها، هربا من البرودة التي تلسع ظهورنا، رياح تخترق غرفتنا من كل أتجاه، فتحات تحت سقف الغرفة( البليت)، وأخرى تحت الباب، وكوة السقف التي فتحناها ليخرج منها دخان نار حطبنا المبتل، النار وحدها قادرة على تجفف بزاتنا العسكرية الرطبة. نتسامر لننسى همومنا فنتبادل الحكايات، قصص حب بين جبال اربيل، أو قرب أشجار برتقال ديالى، وحكايات عن فرط كرم أهل ميسان، وأخرى عن شجاعة النجفيين ومآثرهم، حكايات جميلة ملونة، وكأننا مراسلون عن مدننا، تغطي كل محافظاتنا، يظل بعضها عالق في الذاكرة وأخرى تتلاشى . أحداها رسخت في ذاكرتي ولم تخالجها رغم مرور عقدين من الزمان، تحدث بها أحد الزائرين لمعسكرنا يوما، بطلتها معلمة تسكن قريتهم النائية، يسمونها اهل القرية" الست"، لكونها الوحيدة من الموظفات في القرية، فالنساء يعملن بالزراعة، هي ست ليست كستات هذا الزمان، وظيفتها لم تبعدها عن الارض والزرع، تربية الحيوانات، صنع السلال والاوعية من سعف النخيل، أمرأه تملئها الصلابة والجرأة، هي قدوة للنساء وملجأ وملاذ لحل كثير من مشكلاتهن بحكمة لا تملكها كثير من الرجال.
في تجمع للنساء أقسمت" الست" يوما أمامهن أن تخلص قريتها من اللص الذي طالما ارق أهلها، وعجزت عن اصطياده الرجال. لم تمر سوى ثلاث أيام على الكمين الذي ترابط فيه مع أبنها البكر لساعات تترصده من على سطح منزلها، ولدى دخوله قن دجاج جارها، ركضت صوبه بسرعة البرق واصطادته قبل أن يصطاد دجاجة واحدة بضربة قوية بعص غليظ على راسه وهي تصرخ بأعلى صوتها "عيب علينه ننام والحرامي يبوكنه". ولى اللص هاربا يلتقط أنفاسه والدم يتقاطر من جبهته. توارى أياما عن الانظار قبل أن يجلي بعيدا عن القرية، القادمون من مكانه الجديد يروون قائلين: " لا يقوى على رفع عينه حتى أمام الاطفال "، يبدو أنه أستوعب جيدا درس الست ، وأن العصا كانت أبلغ من الوعظ والارشاد، حتى صارت من أهم دروسها في جميع والاماكن التي شاع خبره فيها، وأخذ الناس يرددون "ما عجزت عنه زنود الرجال فعلته "زنود الست"، يقصدون ما فعلاه زندا الست .
واليوم بعد مرور أكثر من عقدين على الحادثة، نحتاج لتذكرها أكثر من أي وقت أخر، لتكون حافزا لنا للضرب بيد من حديد على السراق والمفسدين، فلا تغمض لنا عين مالم ينالوا جزائهم الذي يستحقون، فالسراق والفاسدين يهددون مستقبلنا ومستقبل أطفالنا، أن الخيرين أقوى بعزائمهم وأيمانهم بالله وبحبهم لوطنهم، وهم قادرون على أن يقتصوا ممن تمكنت منهم سلاطين الغرائز، وعاثوا في الارض فسادا، بتظافر جهود الطيبين يقتلعون الفساد من جذوره ونزرع مكانه بذور نقية، وعليهم تذكر العبارة التي صرخت بها الست وهي تضرب السارق التي تقول " عيب علينه ننام والحرامي يبوكنه".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طيب
ماجدة منصور ( 2014 / 12 / 4 - 23:17 )
بعدك متل ما أنت...طيب جدا
احترامي

اخر الافلام

.. العالم الليلة | الآلاف يتظاهرون في جورجيا ضد مشروع قانون -ال


.. اعتقال طالبة أمريكية قيدت نفسها بسلاسل دعما لغزة في جامعة ني




.. العالم الليلة | الأغذية العالمي: 5 بالمئة من السودانيين فقط


.. خالد أبو بكر يرد على مقال بـ -فورين بوليسي-يتهم مصر بالتضييق




.. جامعة كولومبيا: فض اعتصام الطلبة بالقوة واعتقال نحو 300 متظا